الشرق القطرية-
أفتى فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بحرمة تقاضي بدل السكن للمواطنين القطريين إذا كان صورياً وليس حقيقيا ووصفه بأنه أكل للأموال بالباطل واعتبره تحايلا واضحا وبينا للحصول على حق لم تتوافر فيه شروط اكتسابه.
في الوقت نفسه ناشد حكومة البلاد الموقرة بتعديل قانون الاستفادة من السكن الحكومي.. وجاءت فتواه الموثقة توثيقا علميا كما يأتي:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فتردني يومياً أسئلة واستفسارات كثيرة من الموظفين القطريين والموظفات القطريات حول مسألة: تأجير السكن الصوري.
وتوضيحه: أن الموظفين القطريين والموظفات القطريات لهم الحق في بدل السكن الذي تصرفه جهة العمل التي يعملون لديها، لتأجير مسكن مناسب بمبلغ مناسب، ومن المعلوم أن قيمة بدل السكن تكون أقل من قيمة إيجار المسكن فيما لو أراد ذلك، فمثلاً بدل السكن المصروف هو في حدود ستة آلاف ريـال شهرياً (مثلاً) في حين يستطيع الموظف أن يستأجر بيتاً في حدود خمسة عشر ألف ريـال، وهنا إذا استأجر الموظف هذا المسكن وسكن فيه فعلاً فلا حرج فيه شرعاً ولا شبهة، لأنه حق مسموح له قانوناً، ولا مانع منه شرعاً.
والإشكالية تأتي في الحالة الآتية: أن الموظف له سكن، أو أنه يعيش في بيت والده، أو بيت زوجته... فيقوم باستئجار بيت والده صورياً، أو زوجته بالمبلغ المسموح به فلنفترض خمسة عشر ألف ريـال، ليتم تحويل مبلغ الأجرة لحساب المؤجر (والده أو زوجته) ليتم تحويلها فيما بعد إلى حسابه حتى يستفيد من المبلغ المضاعف لمبلغ بدل السكن.
فهل هذا العمل جائز شرعاً؟
الجواب الواضح البيّن: أن هذا تحايل واضح، وعقد صوري، وكذب بيّن، لأنه يكتب ويقرّ بأنه قد استأجر البيت لسكنه وهو ليس كذلك فهو عمل شكلي غير صحيح، وأن الآيات والأحاديث الدالة على حرمة التحايل والكذب أكثر من أن تحصى، فهذا هو جوابي.
ولكن البعض قد لا يقتنعون بهذه الفتوى، ويقولون: إن الحكومة تعلم ذلك وتسكت عنه، وأن هناك عدم عدالة بين مَنْ يرضى ببدل السكن القليل، ومَنْ ينظم هذا العقد الصوري الذي يحصل بسببه على مال كبير؟ وقد وصلتني رسالة من أحد إخواننا الملتزمين، وتبيّن لي من رسالته أن هذا ما يدور في ذهن الكثيرين، وأنقلها بنصها:
فضيلة الشيخ الدكتور/ القره داغي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أتقدم لفضيلتكم بسؤالي بشأن مدى جواز الاستفادة الشخصية من إيجار السكن الحكومي للقطريين، حيث إنني أسكن مع زوجتي وابني في منزل والدي، ومن منتسبي وزارة الداخلية... ونظراً لامتناعي عدة سنوات مضت من الاستفادة من الإيجار الشهري الذي تصرفه الدولة للقطريين بإدخال مسكن والدي للإسكان والاستفادة من قيمة الإيجار الخاصة به.
وبسؤالي لأحد المسؤولين الكبار في الجهة المختصة في الدولة بصرف مبلغ الإسكان للمواطنين الذي أفاد بأن الجهة العليا في الدولة على علم بأن نسبة كبيرة من الموازنة المصروفة للقطريين في هذا الشأن تذهب للاستفادة الشخصية وليس لصاحب السكن، لاسيَّما وأنها تبلغ قرابة ٧٠٪ من الإجمالي الذي يصرف لصاحب السكن الأصلي، وأوضح أنه من غير المعقول أن الجهات العليا بالدولة لا تعلم بأن مبلغ ٤ مليارات سنويا يصرف في بند الإسكان ونسبة كبيرة منه تذهب لصالح الاستفادة الشخصية دون وقفها أو تقييد إجراءاتها. وذلك في إشارة منه إلى أنها تعد كونها جانبا من المساعدة والتسهيلات التي تمنح للمواطنين.
كما دلل المسؤول المذكور بأن في حالة رغبة المواطن في الاستفادة الفعلية من المسكن يمكن أن تصل قيمة الإيجار المدفوع من الدولة إلى ما يتجاوز المبلغ القانوني ١٢ ألف ريـال وإلى مبالغ تصل إلى ١٥ ألفا، وفي حين تتم المعاملة في جانب الانتفاع الشخصي للمواطن بقيمة الإيجار، يعتمد المبلغ القانوني ١٢ ألفا ولا يتجاوزه.
عليه ونظراً للشواهد التي تم طرحها من قبل المسؤول والاستدلالات، حيث إنها منحتني قناعة مبدئية في الاستفادة من قيمة إيجار مسكن والدي وبموافقته للتنازل عن مبلغ الإيجار لي بعد تخصيصه له.
فما رأي فضيلتكم من الناحية الشرعية.
ولكم فائق الاحترام والتقدير...
مقدم السؤال: ح.ن.س
وللجواب عن هذه الرسالة، نقول:
(1) إن المديرين أو المسؤولين ليس لهم الحق في الاستثناء من القانون إلاّ من أعطى القانون هذا الحق له، ولا يوجد هذا الحق لهؤلاء، ولذلك لا يستطيعون أن يصرحوا بهذا الاستثناء رسمياً أو يكتبوه، بأن يقولوا: "قررنا إجازة الإجارة الصورية"، فالصورية والتحايل من المحظورات حسب القوانين بما فيها قانون دولة قطر.
(2) أن يصل المواطن إلى أن قانون بلده لا يراد تطبيقه من قبل المسؤولين أيضاً، فهذه كارثة عظمى ويجب أن تعالج علاجاً جذرياً، وإلاّ سقطت هيبة القوانين جميعاً.
وبناءً على ما سبق فإن رأي الشرع هو ما يأتي:
أولاً - إن طاعة أولي الأمر في تشريع القوانين المنظمة لأمور الحياة واجبة شرعاً ما دامت لا تتعارض مع نص صحيح وصريح من الكتاب والسنة، والإجماع، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ) [النساء: 59].
ثانياً- إن هذه الصورية تحايل واضح وبيّن للحصول على حق لم تتوافر فيه شروط اكتسابه، فيكون مبلغ الأجرة أكلاً لأموال الدولة بالباطل وبدون حق.
ثالثاً- إن العرف الفاسد الذي عليه أكثر الموظفين لا يحلّ الحرام، ولا يمنع الحظر الثابت بأمر مشروع من وليّ الأمر، فقال سبحانه: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 100].
رابعاً- إن التهاون في تطبيق القوانين المشروعة حتى يصل الأمر إلى غضّ طرف الكثيرين عنه أمر غير مقبول شرعاً وعقلاً وقانوناً، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد...) رواه البخاري وغيره. حيث يدل هذا الحديث على ضرورة تطبيق أحكام الشريعة وما أوجبته من الواجبات على الجميع دون تفرقة.
وفي الختام أطالب وأشفع لدى حكومتنا الرشيدة الحريصة على تحقيق العدل والخير للجميع، بتعديل هذا القانون، إلى ما يأتي:
أ- توحيد قيمة بدل السكن لجميع الموظفين والموظفات حسب درجاتهم، ورفعه بحيث تعادل قيمة أجرة السكن المناسبة اليوم، ومنع التأجير المباشر من قبل الموظف حتى لا يكون ذلك وسيلة للتحايل.
ب- أو تخيير الموظف بين بدل سكن مناسب معادل لقيمة السكن اليوم، وبين سكن موجود لدى الحكومة (الإسكان الحكومي)، ومنع التأجير المباشر بين الموظف والمؤجر.
وكلنا أمل في علاج هذه القضية، لأنها أصبحت قضية أخلاقية، حيث إن بعض الموظفين يدفعهم حب الحصول على أكبر قدر ممكن من الأجرة إلى ترتيب عقود صورية - كما سبق-.
كما أنه لا يوجد العدل الكامل بين جميع الموظفين، فالموظف الملتزم الخائف من الله تعالى يرضى ببدل السكن الذي هو أقل بكثير مما لو استأجر صورياً وحصل على مبلغ مضاعف، وأما الموظف الذي لا يهمه الحلال والحرام فيحصل على مبلغ مضاعف من خلال العقد الصوري، وبذلك يختل ميزان العدالة والمساواة.
هذا ما أردت بيانه (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
هذا والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.