د. حسناء عبد العزيز القنيعير- الرياض السعودية-
لا بد للمرأة من مواجهة ما يحاك ضدها من صور استلابها وتهميشها وسحق كرامتها وتكريس دونيتها، لا بد لها من التصدي لأساليب القمع والتخلف والإقصاء، والإصرار على تأكيد إنسانيتها وأن تكون ركناً أساسياً من أركان القوة والبناء والتنمية في مجتمعها..
أصبحت الفتوى اليوم كحديث المجالس، يطلقها بعضهم بلا تثبت، وبلا عناية بموافقتها أو مخالفتها الحكم الديني الخاص بها، ناهيكم عن غرابتها التي تجعل صداها يتردد في أرجاء العالم الإسلامي منسوبة لرجل دين من بلادنا، مصحوبة بكثير من السخرية والاستنكار. ولذا يتساءل العقلاء: هل يجوز الإفتاء في مسائل بما يخالف الحكم الشرعي الخاص بها؟ وما حكم من يتسرع في فتواه بلا تثبت وبلا أدنى اهتمام بما يقول، ولا بأثره على المتلقين في بلادنا وخارجها؟ وهل يسمح هذا الزمن بما فيه من وسائل اتصالات متطورة بهذا العبث الذي يشبه حديث المجالس والمقاهي؟
يقول الشيخ صالح الفوزان: "على المفتي أن يفتي لما يراه موافقاً للدليل، موافقاً للكتاب والسنة، ولا يختلف جوابه بهذا عن ذاك، وإنما يكون جوابه على موجب الكتاب والسنة.. هذا الواجب على المفتي".
ونقل عن الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - قوله: "ولا ينبغي أن يستفتى كل أحد، ولو انتسب إلى الدين أو إلى العبادة أو إلى العلم حتى يسأل عنه أهل العلم ويتبصر السائل بواسطة العارفين به والذين يطمئن إليهم أنهم أهل علم، حتى يذكروا له أنه أهل للفتوى وأهل لأن يفتي في الحلال والحرام ونحو ذلك. المقصود أن هذا يحتاج إلى تثبت في الأمر وعدم تساهل، فليس كل من انتسب إلى الدين أو إلى العبادة أو إلى العلم يصلح لذلك، بل لا بد من فقه في الدين وتبصّر، ولا بد من ورع وتقوى لله، ولا بد من حذر من تسارع في الفتوى والجرأة عليها بغير علم وبغير حق".
فهل ما جاء في كلام الشيخين متحقق في الفتوى التي أطلقها أحد الدعاة، في أحد الدروس التي يلقيها على قناة فضائية بقوله: "إن الرجل كله عورة ما عدا الوجه والكفين"، مشيرًا إلى أن الرجل لا يجوز أن يبدي أمام الرجال إلا الوجه والكفين. إن "الصدر والبطن والفخذ عورة، مثلك مثل المرأة بين النساء"!!
كلنا - صغاراً وكباراً - درسنا في مادة الفقه أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن ما تحت السرة إلى الركبة من العورة". وعن ابن عباس قال: "مر رسول الله صلى اللهم عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته". ما يعني أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وما عدا ذلك ليس بعورة. فالمسألة التي تكلم عن حكمها وهي عورة الرجل بين الرجال تعتبر من المسائل الشرعية، وأن حكمها المراد تعريف السامعين به هو حكم شرعي، فلماذا تجاهل الحكم الشرعي المفهوم من حديثي الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا الاجتراء على الفتوى؟ ولماذا التسرع في إطلاق الآراء التي تسيء لبلادنا؟
ما انفك هؤلاء يمطرون العالم الإسلامي بفتاوى يتجاوزون فيها حدود المنطق، ويخرجون بها عن مقتضيات الحكم الشرعي، وهم بعملهم هذا يفتحون أبواباً واسعة للاختلاف وللإساءة للإسلام وتشويهه، أولئك يعتبرون الفتوى حقاً مشاعاً لهم، ويتعاملون بموجبها مع المسلمين بفكر القطيع الذي لا رأي له ولا إرادة، ولا حق له في الاعتراض على ما يُملى عليه، ولقد أثارت هذه الفتوى ردود أفعال كثيرة، وكان صداها مدوياً في الإعلام باختلاف وسائطه من إذاعة وتلفاز وصحف ومواقع إلكترونية، وشبكات التواصل الاجتماعي بمستوى عال من السخرية والتهكّم.
ولأن المرأة تمثل مركز الثقل في فكر الداعية ما يكفل له حشد الجمهور والمريدين، فلم يفتْه أن يخصّها برأي على درجة عالية من الظلم والتعسف، وذلك لكي يثبت وجهة نظره المتطرفة التي تركز على دونية المرأة أنها لم تخلق إلا لعبادة الله، ثم القيام بواجباتها تجاه الزوج؟ بلا دليل على تلك التبعية لزوجها من القرآن والسنة؟ لكنه لم يفتنا عن المرأة التي لا زوج لها تقوم تجاهه بحقوق الزوجية التي يجعلونها في مكان الصدارة من خلق المرأة، حيث الثقافة الذكورية التي لا ترى المرأة خارج نطاق هذه الوظيفة؟ أتترك تلك المرأة بين أربعة جدران لا تغادرها إلا إلى القبر؟ ذلك أنه وغيره من المتشدّدين يعتقدون أن المرأة سبب الاهتزاز الأخلاقي، والاضطراب القيمي في المجتمع، ولذا فليس لها إلا البقاء في البيت، ولتعزيز هذا الرأي المجحف في حقها يرى أنه لا يجوز لها أن تتعلم فتكفيها القراءة والكتابة، أما الوظيفة فلا داعي لها،لأن الأصل أن تبقى رهينة البيت للقيام بالحقوق الزوجية، فلا تحتاج للمال - حسب رأيه - "وماذا تفعل به؟ أربع مئة ريال في الشهر يعطيها إياها زوجها تكفيها، ماذا تفعل بألفين أو ثلاثة أو خمسة آلاف ريال؟" للأسف أن يكون هذا تقدير المرأة التي أنفقت الدولة على تعليمها مليارات الريالات لتكون سيدة نفسها لا أجيرة عند رجل يتصدق عليها بأربع مئة ريال أعطاها أو منعها، ثم كيف يقول ماذا تفعل المرأة بالمال؟ أين يعيش هذا الإنسان؟ ماذا عن آلاف البيوت التي تنفق عليها النساء من عملهن وكدهن؟ ثم ماذا عن الإسلام الذي كرم المرأة وأعطاها حقوقاً كالرجل، وكفل لها الملكية المطلقة والذمة المالية المستقلة عن زوجها وأثبت حقها في الميراث وفي الصداق؟ قمة الإجحاف في حق المرأة أن يأتي شخص في هذا الزمن ليقول احبسوها في بيتها لتكون رهينة عند الرجل تقوم على خدمته ومتعته؟ فكر لا يقره دين ولا عقل. وما تفوّه به لا يقل غرابة عن الرأي الذي صدر في زمن سابق عن (السرخسي) في كتابه (المبسوط) ويقول فيه: "فأما المرأة فمأمورة بالقرار في البيت، ممنوعة من الخروج فلا تستوجب الخف على الزوج"! (أي الحذاء)، ومثله قول أبي الأعلى المودودي: "إن ميدان عمل المرأة في الإسلام هو تربية الأولاد وواجبات البيت، ولا تعمل خارج البيت إلا للضرورة القاهرة. وهي في البيت أيضاً ليس لها حرية الإرادة والاختيار (هكذا) مثل الرجل، فلقد أوصد القرآن هذا الباب أمام النساء! فخير للمرأة في الإسلام أن تلازم بيتها ولا تخالط الناس في المجتمع"!
وليت الداعية سكت عند ذلك الحد، بل إنه في حومة إصراره على بقاء المرأة حبيسة بيتها، نجده يمعن في تحريضه عليها لمصادرة حقها في العمل الذي كفلته لها الدولة وحقها كمواطنة، إذ يتجاوز كل المعايير والقيم الدينية التي تحرم على المسلم ظلم أخيه المسلم: "أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم"، لقد بلغت به الجرأة حد اتهام الفتيات العاملات في أماكن مختلطة بقوله: "المرأة إذا عملت بجوار الرجل لا يسمى اختلاطاً بل خلوة"، وفي هذا القول ما فيه من مخالفة صريحة لمعنى الخلوة لغة وشرعاً، لكن الأدهى من هذا قوله: "الأمر مخيف صيدلية فيها ثلاثة شباب وثلاث بنات يستحيل ما بينهم علاقة هذه طبيعة البشر".. لا أدري كيف استطاع تجاهل كل الآيات والأحاديث التي تنهى المسلم عن التفوّه بمثل ما قاله في غاية الاجتراء على انتهاك حقوق المسلم؟ وكيف يجوز له هذا وهو من رجال الدعوة؟ روى أبو هريرة أنه قيل: "يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره. قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"، فكم واحدة تعمل في مكان مختلط بهتها في قوله هذا؟ "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً". وقد جاء في حديث معاذ: "فقلت يا نبى الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
المثير للدهشة أن بعض المشايخ استنكروا فتواه فيما يخص عورة الرجل كما جاء في بعض الصحف، لكنهم للأسف الشديد مروا مرور الكرام بما يخص رأيه المتطرف بخصوص الفتيات العاملات في أماكن مختلطة.
لقد صار الشأن النسوي لفرط عجزنا عن حل مشكلاته المتشابكة مجالاً للعبث وإرباكاً للمجتمع بفتاوى من هذا النوع، كما أن الدعوة إلى لزوم المرأة بيتها تحسساً ذكورياً، وتخوفاً مبالغاً فيه من انفلات المجتمع، وعدم التعويل على الضبط الديني لأخلاق الناس، وعندما تضعف مشاركة المرأة المجتمعية، فإنها لن تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للوطن، وحين تقدم العادات والأعراف رؤية مشوهة للتعاليم الدينية المتعلقة بالمرأة، ويجبر المجتمع في كل مستوياته على الرضوخ لها؛ فإن الظلم يجثم على المرأة ويجعلها أكثر شبهاً بمن يعاني إعاقة لا يد له فيها، أما حين يعجز الإعلام في زمن الثورة المعلوماتية عن تغيير بثه للصورة النمطية المشوهة للمرأة، فإن ذلك يجعل وضعها أكثر قتامة.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: إلى متى يبقى أولئك سيفاً مسلطاً على المرأة بوصفها موضوعاً للشر والفتنة والفساد والإفساد؟ لا بد للمرأة من مواجهة ما يحاك ضدها من صور استلابها وتهميشها وسحق كرامتها وتكريس دونيتها، لا بد لها من التصدي لأساليب القمع والتخلّف والإقصاء، والإصرار على تأكيد إنسانيّتها وأن تكون ركنا أساسياً من أركان القوة والبناء والتنمية في مجتمعها.
أخيراً يجب التعامل مع الفكر المتشدد بروح نقدية ورؤى عقلانية منبعثة من حقائق الدين ومن روحه، والتحرر من قبضة المقولات التي يزعمون قدسيّتها بطمسها وتنقية ذاكرتنا منها ومن الاجتراء على الدين بتقويله ما لم يقله.