الشيخ احمد الخليلي- الوطن العمانية-
الاحتفال بذكرى مولد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) أمر لم يعهد عند السلف، لم يعهد في عهد النبي (صلى الله عليه وسلّم) نفسه، ولم يعهد في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم يعهد في عهد التابعين وإنما حدث بعد قرون، بعد مضي ثلاثة قرون، وأول ما حدث عند الفاطميين، والناس يقدحون في معتقدات الفاطميين، ويرون أنهم يريدون أن يطووا حقيقة معتقداتهم وأن يظهروا خلاف ما يضمرون فلذلك أظهروا الاحتفال بمولد الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ستراً على معتقداتهم لأن معتقداتهم غير إيمانية، هذا هو قول الذين حجروا على الناس أن يحتفلوا بهذه المناسبة الكريمة.
ومنهم من قال بأن هذه وإن كانت بدعة إلا أنها بدعة حسنة، فالبدعة الحسنة ما كان لها أصل في شرع الله، والبدعة السيئة ما لم يكن لها أصل في شرع الله وإنما كانت مخالفة لشرع الله.
والله سبحانه وتعالى شرع لعباده ما يأتون وما يذرون، وبيّن النبي (صلى الله عليه وسلّم) ذلك، فالنبي ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ بيّن كثيراً مما سكت عنه القرآن الكريم وبيّن مجملات القرآن الكريم، ولكن مع ذلك قد تكون بياناته صلى الله عليه وسلّم مجملات، وعندما يكون عمل الإنسان يوافق شيئاً من هذه المجملات التي أشار إليها النبي (صلى الله عليه وسلّم) أو عمل بمقتضاها فإن هذه البدعة تكون بدعة حسنة عندئذ.
ونحن عندما ننظر إلى الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وسلّم) نجده أنه يجسد حب الإنسان المسلم للنبي (صلى الله عليه وسلّم)، وإن كان هذا الحب يجب أن لا ينحصر في هذا الجانب وحده، فإن محبته (صلى الله عليه وسلّم) ليست محبة عاطفية فحسب حتى تكون كمحبة غيره لا تكاد تثور حتى تغور، وإنما محبته محبة عقيدة، وهي يجب أن تكون متجسدة في الاقتداء به ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ وترسم خطواته.
ومن شأن الإنسان أن يحب الاقتداء بالعظماء، وأي عظيم أعظم من النبي (صلى الله عليه وسلّم)، ومن شأن الإنسان أن يسارع في هوى من يحبه، وأي أحد أولى بالحب من النبي (صلى الله عليه وسلّم)، فلذلك كان حرياً بهذا الذي يحب النبي (صلى الله عليه وسلّم) أن يحرص على تجسيد هذا الحب في إحياء سنته وفي اتباع أوامره وفي الازدجار عن نواهيه.
على أن اتباعه (صلى الله عليه وسلّم) ليس تجسيداً لحبه وحده وإنما هو تجسيد لحب الله تعالى أيضا، فإن الله تعالى يقول:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران ـ 31)، ولكن مع هذا، هذا الإنسان ليس خالياً من العاطفة، ولما كان ليس خالياً من العاطفة فقد يريد أن يُظهر هذا الحب في مظهر، إلا أن هذا ينبغي أن يؤطر في الإطار الشرعي وذلك بأن تكون هذه المناسبة يحتفي بها المسلم احتفاءً بعيداً عن البدعة، فلا يكون في ذلك اختلاط بين النساء والرجال، ولا يكون في ذلك أيضا شيء من مظاهر الإسراف والبذخ ذلك لأن الإسلام يحرم هذه الأمور، ومع هذا أيضا لا بد من أن يكون هذا الاحتفاء بنّاء بحيث يترجم إلى عمل واقعي، أي عمل دعوي يحرص المسلمون على استغلال هذه المناسبة من أجله بحيث يستثيرون في إخوانهم المسلمين هذه العاطفة لأجل اتباع سنة النبي (صلى الله عليه وسلّم) وإحياء ما اندرس منها، وإبلاغ دعوته إلى الناس، وهذا لا يتم إلا عندما تكون هذه الاحتفالات متجددة، ومعنى كونها متجددة أن لا يقتصر الإنسان على تلاوة قصة مولد النبي (صلى الله عليه وسلّم)، قصة قد تكون كتبت قبل مئات السنين أكل عليها الدهر وشرب حتى أصبحت تمل من كثرة ما تردد على الأسماع، على أنه لا يمكن أن يردد حديث على الأسماع باستمرار إلا ويمل ماعدا قول الله تعالى.
ومع هذا علينا أن نفرق بين كلام الله وكلام غيره، فكلام الله تلاوتنا له تلاوة تعبدية، فإن الأعجمي الذي لا يعرف من العربية شيئا يتلو القرآن الكريم فيكتب الله تعالى له أجراً على تلاوته القرآن بخلاف ما يُتلى من كلام الناس، فإن الذي يُتلى من كلام الناس إنما يتلى من أجل الاستفادة من فائدته، حتى كلام النبي (صلى الله عليه وسلّم) لا يُتلى من أجل التعبد به، نحن لا نقراً حديث الرسول (صلى الله عليه وسلّم) من حيث أننا نتقرب إلى الله بقراءته كما نتقرب إلى الله بقراءة القرآن الكريم، وإنما نتلوه ونتقرب إلى الله بتلاوته من أجل تفهمنا معناه ومن أجل محاولتنا لتطبيق مضمونه.
ولئن كان هذا في كلام النبي (صلى الله عليه وسلّم) فكيف بكلام غيره من الناس، ولئن كان الأمر كذلك فإنه من المفروض أن تربط هذه المناسبة بالواقع، وذلك بأن يُكشف للناس كيف كان عظم هذا الحدث التاريخي، وماذا ترتب عليه من خير عظيم للإنسانية، وماذا يجب على الأمة المسلمة أن تصنع الآن وهي قد بعدت كثيراً عن هذا المصدر بحيث أصبحت الآن تقلد الآخرين بدلاً من أن تتبع خطوات النبي ـ عليه أفضل الصلاة والسلام، وأصبحت تعتز بحذوها حذو غيره من الناس ولربما كان أولئك كفرة، أكثر مما تعتز بارتباطها بالتأسي بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، مع معالجة قضايا العصر على ضوء هذه المناسبة، ففي هذه الحالة تكون هذه المناسبة مناسبة بناءة، ويكون الاحتفاء بذكراها سبباً لإزالة كثير من غبش التصور عن كثير من الناس، ويكون ذلك سبباً لارتباط كثير من الناس بعقيدتهم، وارتباطهم بأخلاقهم، وارتباطهم بأوامر ربهم، وارتباطهم بسنة نبيهم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام.
الكلمات التي قالها المفكرون في مختلف أنحاء العالم في الثناء على النبي (صلى الله عليه وسلّم) كثيرة وعديدة، وأنا ربما سأذكر واحدة منها مثلاً ما قاله مايكل هارت في كتابه (الخالدون المائة) يقول: إن اختياري محمداً ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي.
وبسمارك قائد ألمانيا وموحدها في القرن التاسع عشر قال: وإنني يا محمد لمتأثر جداً إذ لم أكن معاصراً لك، ولكنني أُجِلك بكامل الاحترام راكعاً في حضورك.
الذي حدث بعد ذلك وخاصة في هذه الأيام المتأخرة كيف نفسره؟ وماذا نقول عنه؟ الله سبحانه وتعالى شرّف هذه الإنسانية إذ بعث فيها رسولاً كريماً وأنزل عليها كتاباً حكيماً، فهدى من شاء الله منها صراطاً مستقيماً.
نحن يكفينا أن النبي (صلى الله عليه وسلّم) نشأ في بيئة بدائية أمية، ولم يكن يقرأ من كتاب ولا يخطه بيمينه، وكانت البيئة بكل المقاييس المعروفة عند البشر التي نشأ فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) بيئة متخلفة، لم يكن هناك بين هؤلاء العرب الأميين الذين نشأ فيها نبينا (صلى الله عليه وسلّم) كتاب من الكتب التي يُعتمد عليها في توجيه الإنسانية، لم يكن لهؤلاء العرب شيء من بقايا الوحي إلا ما كان باقياً عندهم من تعظيم البيت الحرام مع ما ألحقوه به من رجس الجاهلية، وقد نجّسوا تلكم الشعائر التي تلقوها والتي كانت بقية من حنيفية إبراهيم عليه السلام برجس الجاهلية.
ولم يكن لهؤلاء العرب في تلكم البيئة التي نشأ فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) شيء من الحضارة التي تطاول بها العرب الأمم المتحضرة، لم تكن هناك حضارة مثل حضارة الفرس، أو حضارة مثل حضارة الروم، وإنما كما قلنا كانت أمة متخلفة، بل لم تكن هنالك دولة تهمين على هذا القطاع الطويل العريض من هذه الأمة ومن هؤلاء البشر الذين كانوا في الجزيرة العربية إلا ما كان في بعض أطراف الجزيرة العربية من قيام دول محلية أو دول لها علاقة بدول خارجية.
فمعنى ذلك أن العرب كانوا أمة متخلفة، فنشأ الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ما بين أولئك العرب وإذا به يأتي بخير الإنسانية كلها، يأتي بشريعة ربانية تأتي على القليل والكثير مما تفتقر إليه الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يأتي بتوجيه لهذه الإنسانية إلى ناحية الرشاد، يأتي بعقيدة تصل بين الدنيا والآخرة، وتربط ما بين العمل والجزاء، وتوحد هؤلاء البشر في ظلها على أساس من المساواة والعدل، وفي نفس الوقت تصل العباد بربهم سبحانه وتعالى، وتحل ألغاز الوجود، بل تصل عالم الشهادة بعالم الغيب.
فمجيء النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا القدر أمر تعجز ملكات البشر عن تصور عظمه وجلالة قدره، ولذلك مهما تحدث المتحدثون وقال القائلون في تعظيم شخص الرسول (صلى الله عليه وسلّم) فإن ذلك يقصر دون مقامه عليه أفضل الصلاة والسلام، حسبنا أن الله سبحانه وتعالى قال فيه:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء ـ 107)، فهو تعالى لم يقل وما أرسلناك إلا رحمة للعرب، أو وما أرسلناك إلا رحمة للناس، أو وما أرسلنا إلا رحمة للثقلين، أو وما أرسلنا للأرض وما عليها، وإنما قال:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، والعالمون جمع عالم، والعالم يصدق على كل ما كان علامة ودليلاً على وجود الخالق سبحانه وتعالى، ومعنى هذا أن كل ما في الكون إنما هو مغمور بهذه الرحمة العظيمة وهذه النعمة الجليلة، فكل ذرة من ذرات الوجود هي مشمولة بهذه النعمة الربانية التي أسبغها الله سبحانه وتعالى على الكون ببعثه عبده ورسوله محمداً (صلى الله عليه وسلّم).فأولئك الذين انطلقت ألسنتهم لتعبر عما وقر في نفوسهم من تقدير شخص النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه وإجلاله إنما تحدثوا من منطلق الفطرة، الفطرة تركتهم يتحدثون بهذا، وقد شاهدوا من آيات الله سبحانه وتعالى في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ما بهر عقولهم، بينما الذين حقدوا من بعد وأخذوا ينتقصون شخص الرسول (صلى الله عليه وسلّم) ويكيلون له التهم ويحالون تحقيره ويحاولون تقليل شأنه إنما هؤلاء أخذهم الحسد كل مأخذ، استولى على نفوسهم الحسد، كما كان ذلك في الرعيل الأول، كما كان ذلك في أيام النبي (صلى الله عليه وسلّم) عندما حسده اليهود بل وحسدته قريش وحسده من حسده من العرب، أولئك حسدوه لأنهم رأوا عظم شأنه، وذو النعمة محسود.
فذو النعمة محسود، وذو الشأن العظيم محسود، النبي (صلى الله عليه وسلّم) أنعم الله عليه إذ براه بهذه الصفات العظيمة وهذه الشمائل المحمدية الجليلة، ورفعه إلى هذا المكان الأرفع، وبوأه هذا المبوأ الرفيع، وجعله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، هيأه لأن يحمل رسالة هي رحمة للعالمين، وجعل على يديه قلب الموازيين في هذه الدنيا، جاء برسالة جمعت بين العرب بين العرب والعجم، وألفت بين قلوبهم، ووحدت بين الأرض والسماء، ووصلت الشهادة بالغيب، ووصلت الدنيا بالآخرة، وحلت ألغاز الوجود، وعرّفت الإنسان على حقائق الغيب.
إذن هذا قدر وأي قدر لهذا النبي الأعظم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإنما يتطاول المتطاولون لجهلهم، ولما في نفوسهم من الحسد، ولما في نفوسهم من التنكر للفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها.