د. عارف الشيخ- الخليج الاماراتية-
قد يفتي الفقيه أو العالم أو القاضي، ثم يتبين له الخطأ فيما أفتى به، وعندئذ يجب عليه الرجوع عن فتواه ولا يجوز التمادي في الخطأ.
نعم.. كل ابن آدم خطّاء والعصمة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالسعيد من أدرك خطأه ورزق الجرأة فقال: أنا بالأمس أخطأت، وها أنا اليوم أرجع عن فتواي.
وفي الزمن الماضي كان الرجل منهم يمدح بسرعة رجوعه إلى الحق، قال مالك رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله عنه: «أنه كان أسرع الصحابة رجوعاً إذا سمع الحق».
وقد قال الفقهاء بأن المفتي إذا أدرك خطأه وجب عليه أن يعلم المستفتين بذلك وإلا كان آثماً لأنه لا يجوز أن يقول في دين الله ما ليس فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فسر القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»، ويقول في حديث آخر: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».
وهذان الحديثان مفهومهما، أن المفتي يأثم إذا تعمد الكذب أو تبين له الخطأ ومع ذلك تمادى في خطئه خوفاً من الناس.
وإذا اجتهد في المسألة وتبين له أن حكمه هو الصواب ولم يظهر له الخطأ فلا إثم عليه إن شاء الله تعالى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أصاب المجتهد فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد».
وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام، وإلى أبي موسى الأشعري وهو باليمن نقرأ قوله: «أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة...»، إلى أن يقول: «فلا يمنعك قضاء قضيتَه اليوم ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل»، (انظر ديوان الأحكام الكبرى لابن سهل ج1 ص 126).
والرجوع عن الخطأ في الفتوى كان دأب السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ولو اطلعت على ما كتب في التاريخ في هذا المجال لوجدت أن الناس اليوم هلكى إلا الذين عصمهم الله تعالى من الخطأ.
ويروي الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه» عن ابن هرمز قال إنه كان يأتيه الرجل فيسأله عن الشيء فيخبره ثم يبعث في إثره من يرده فيقول له: إني قد عجلت قلا تقبل شيئاً مما قلت لك حتى ترجع إليّ، لذلك فإن الخطيب البغدادي ذكر باباً كاملاً في كتابه «الفقيه والمتفقه» تحت عنوان: «باب في رجوع المفتي عن فتواه إذا تبين له أنه الحق».
ومما يذكر عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: «كنت حدثتكم أن من أصبح جنباً فقد أفطر، فإنما ذلك من كيْس أبي هريرة، فمن أصبح جنباً فلا يفطر لأن أبا هريرة رجع عن فتواه (انظر التمهيد لابن عبد البر ص 22، 44).
أقول: ومما ينبغي أن يلتفت إليه الناس أن الرجوع إلى الحق قد يكون قربة إلى الله تعالى إذا رجع العالم أو المفتي أو القاضي عن الخطأ من تلقاء نفسه، وقد يكون حسبة فينبهه أحد من الناس أو من أهل العلم لا من باب الانتقاد أو من قبيل تتبع زلاته أو سقطاته، بل من قبيل «المؤمن مرآة أخيه المؤمن».
ونقض عالم لفتوى أو حكم عالم أو مفت آخر جائز بل مطلوب لأن الفتوى رديف القضاء، إلا أن حكم القاضي يلزم وفتوى العالم غير مُلزمة.
ويذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم فيقول: «واعلم أن في حديث فاطمة بنت قيس فوائد كثيرة» وعدّدها ثم قال: «الخامسة عشرة جواز إنكار المفتي على مفت آخر خالف النص أو عمم ما هو خاص، لأن عائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت على فاطمة بنت قيس تعميمها أن لا سكنى للمبتوتة، وإنما كان انتقال فاطمة من مسكنها لعذر من خوف اقتحامه عليها أو نحو ذلك»، (انظر شرح مسلم للنووي ج5 ص 249).
وقد ذكر العلامة السيوطي أنه ينقض قضاء القاضي إذا خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً، وقد قال القرافي «أو خالف القواعد الكلية»، ويقول الحنفية: «أو كان حكماً لا دليل عليه». وقال أيضاً: «وما خالف المذاهب الأربعة فهو كالمخالف للإجماع». (انظر الأشياء والنظائر للسيوطي ص 105).
أقول: واليوم مرجع الناس في القضاء المحاكم المدنية التي قسمت إلى ثلاث درجات للتقاضي: المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف ومحكمة التمييز أو النقض في بعض البلدان.
ورغم أن الأحكام المدنية في الغالب إلا أن وجود هذه الدرجات للتقاضي يعطي الفرصة لتعديل الخطأ إذا كان قد وقع فيه قاضي محكمة ما.