الوطن العمانية-
عندما أستمع إلى تلاوة القرآن الكريم أجد في نفسي السكينة والطمأنينة والخشوع ولكني عندما أقرأ القرآن بنفسي لا أشعر بنفس الشعور والإحساس وأتثاءب كثيراً وتثقل أجفاني بالنوم، فما أفعل حتى تسكن نفسي وتخشع لتلاوة القرآن الكريم؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى:(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر ـ 21)، في هذا القول الشريف من الله سبحانه وتعالى ما يدل على عظم شأن القرآن وأثره وتأثيره في هذه الحياة، فإن الله تبارك وتعالى لو أنزله على جبل لتصدع الجبل من عظم ما جاء به، فكيف بهذا الإنسان لولا قساوة قلبه البالغة، فإن الإنسان هو أشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(البقرة: من الآية74).الإنسان يُطلب منه عندما يتلو كتاب الله سبحانه وتعالى أن يقبل عليه بشعور خاص، أن يقبل عليه بشعور أنه يتلقى عن الله، لأن ذلك هو كلام الله سبحانه، فيستحضر في نفسه أن الله تبارك وتعالى يخاطبه بهذا القرآن، ولذلك عليه أن يقابل هذا الخطاب بخضوع وتذلل بين يدي الله سبحانه.
ثم إن الإنسان مطالب بأن يتدبر القرآن ولذلك قال الله سبحانه في الآية التي ذكرناها من قبل (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي: ليتفكروا، فإن ضرب هذه الأمثال من أجل التفكر والاتعاظ وإقبال الإنسان بكليته على كتاب الله.
ويقول سبحانه وتعالى:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد ـ 24).على أن الإنسان يؤمر عندما يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى يتلوه أن يستحضر بأنه يعالج به نفسه فإن الله تعالى يقول:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً) (الإسراء ـ 8)، فهو شفاء وهو رحمة للمؤمنين.
نعم هو شفاء لأن الله تعالى شفى به الصدور، ذلك لأن كل ما يتعلق بحياة هذا الإنسان حله في كتاب الله.
فالله تبارك وتعالى جعل هذا الكون وهذا الوجود وهذه الحياة سراً عجيباً ولغزاً مُعمّى، فالإنسان إن لم يستهد بهدي كتاب الله تعالى فإن الحياة أمامه تكون لغزاً لا يفهم أولها وآخرها، ولا مبدأها ولا مصيرها، ولا ماذا يترتب على وجوده فيها.
وقد جعل الله تعالى في كتابه الكريم حل هذا اللغز ذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الكتاب تعريفاً بهذا الإنسان من أين جاء وإلى أين ينتهي وماذا عليه أن يعمل فيما بين مبتدئه ومنتهاه، فهو حل لغز العقيدة إذ عرّفه أولاً بربه، عرّف القرآن الإنسان بربه سبحانه وتعالى وأنه هو الخالق وأنه هو الرازق، وبيّن له من خلال مشاهد هذا الكون سر ربوبية الله وألوهيته، فهو يطوف بهذا الإنسان بين أرجاء الكون على أن الكون كله مسرح لاعتبار هذا الإنسان.
فعندما يتلو الإنسان مثلاً قول الله تبارك وتعالى:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة ـ 163)، ثم يتلو بعد ذلك قوله عز وجل:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة ـ 164).عليه أن يعتبر وأن يدرك ماذا يراد منه، فإنه عُرفّ بأن الإله المعبود إنما هو إله واحد، ثم أتبع ذلك ما أتبع من بيان حقائق هذا الوجود، وأن في خلقه السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى آخر ذلك آيات لقوم يعقلون، هذه الآيات إنما هي لمن تدبر وتفكر وأمعن، فإن السموات والأرض يعني الكون كله إنما هو وحدة متكاملة، كل جزء منه مكمل لبقية الأجزاء، فلا يمكن أن يصدر ذلك إلا من إله واحد، إذ لو كان هنالك تعدد في الآلهة لأدى ذلك إلى اختلاف حال الكون، لأن لكل واحد منهم لو تعددوا إرادة مستقلة وفي هذه الحالة كل واحد منهم يستقل بمراده فيؤدي ذلك إلى الاختلاف بينهم، ولكن هذا الانسجام بين أجزاء هذا الكون وهذا التناسق العجيب إنما هو دليل على وحدانية الله سبحانه.
وكذلك ما ذكر مما يقع في هذا الكون من اختلاف الليل والنهار بنظام رتيب عجيب، وما ينزله الله سبحانه وتعالى من السماء من ماء وما يترتب على ذلك من نبات هذه الأرض بحيث جعل في ما ينزله من ماء خاصية الإنبات وجعل في هذه الأرض خاصية النبات، وبهذا النزول يتم التلاقح ما بين الخاصيتين فيؤدي ذلك إلى أن تنبت الأرض ما تنبته، وما يتبع ذلك من بيان الفلك التي تجري في البحر وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض كل من ذلك يدعو الإنسان إلى الاعتبار، فهذا الذي يقرأ كتاب الله إنما يطلب منه أن يعتبر، ويطلب منه أن يتملاه.
كذلك عندما يأتي إلى نحو قول الله سبحانه ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل:59)، عليه أن يعتبر بأن عليه حقوقاً واجبة وفروضاً لازمة لخالقه سبحانه وتعالى الذي هو الإله الواحد، وأنه وحده هو الذي يستحق العبادة، وكل إله يعبد من دونه ليس له أي شيء من حق هذه العبادة، وإنما إشراكه مع الله تبارك وتعالى إنما هو إنقلاب إلى الضلال وحيرة في هذه الحياة وانطماس لبصيرة العقل، ثم ما يتبع ذلك من قوله سبحانه وتعالى (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل 60 ـ 64).كل من ذلك يستدعيه أن يقف عند كل كلمة من هذه الكلمات، وعند كل جملة من هذه الجمل، وأن يتملى ما فيها ويستذكر ما انطوت عليه حتى يكون موصولاً بربه سبحانه، كذلك هو أيضاً شفاء من حيث تعريف الإنسان بسنة الله تعالى في خلقه لأن الله تبارك وتعالى يبين في كتابه سننه في هذا الخلق، فهو يدعو إلى الاعتبار بمصير القوم الظالمين.
ففي مصير القوم الذين ظلموا أنفسهم وانقلبت عاقبتهم إلى السوء عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين، فكم من أحد منهم كان يخيل أنه ينطح السماء بقرنيه ويطأ الجوزاء بنعليه وإذا به ينقلب إلى مصير فيه عبرة للمعتبرين (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (النازعـات:26)، كما كان لفرعون وقارون وهامان وغيرهم من الأمم التي بادت، عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، كل هؤلاء في مصيرهم عبرة للمعتبرين، والله تبارك وتعالى يدعو الناس إلى الاعتبار بمصير القوم الظالمين في القرآن الكريم (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ((الأنعام ـ 6)، فإذاً عندما يقرأ قصص الأمم الماضية عليه أن يعتبر، وأن يقف وقفة المشاهد لمصيرهم ومنقلبهم وما كانوا عليه، ثم كذلك بالنسبة إلى العبادات وبالنسبة إلى الأحكام والمعاملات والوصايا المتعلقة بالأخلاق وبغيرها في كل من ذلك ما يدعوه إلى الاعتبار، وأن يتكيف وفق تعاليم القرآن الكريم.
فإذن لو حاول أن يعد نفسه لتلقي هذا البيان الإلهي على هذا النحو لطار عنه ما يجده من الكسل وما يأتيه من التثاؤب عندما يتلو كتاب الله تبارك وتعالى بنفسه، فعليه الاعتبار أي أن يقرأ القرآن قراءة متدبر معتبر متعظ مدّرك، وبحول الله تبارك وتعالى يتغلب على هذه المشكلة.