رأي الوطن العمانية-
جاءت اكتشافات حطام سفن أسطول البحار البرتغالي فاسكو دي جاما الغارق (عامي 1502م – 1503م) من سفن الهند الشرقية البرتغالية المتجهة إلى الهند في مياه جزر الحلانيات بمحافظة ظفار والتي أجرتها وزارة التراث والثقافة بالتعاون مع مؤسسة بلو ووتر ركفوريز البريطانية في أربع مراحل بدأت في عام 1998م، وانتهت في نهاية العام المنصرم، لتؤكد بالدليل شاهدًا مهمًّا في بعده المادي والمعنوي على العمق الحضاري لعُمان، ودورها المحوري العظيم في الملاحة البحرية، وربط العلاقات الحضارية والتجارية المتبادلة بين أوروبا والشرق الأقصى، لتبسط بلادنا قوتها المثلى مكونة ملتقى لحضارات مختلفة من حقب تاريخية متنوعة، ويتمثل هذا الشاهد في غرق أساطيل السفن في المياه العمانية الإقليمية لأسباب مختلفة قد تكون طبيعية في بعضها، وأخرى في معارك بحرية قديمة بقدم التاريخ.
ويأتي هذا الإعلان عن المشروع (الذي يعد باكورة المشاريع التي تـُعنى بالبحث والتوثيق والحماية للآثار المغمورة بالمياه في السلطنة والتي تم فيها الالتزام بالمعايير العالمية المتمثلة في بنود اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي المغمورة بالمياه لعام 2001م) ليركز بنتائجه وأبعاده المستقبلية على تفصيل أكثر دقة، يستطيع من خلالها الباحثون في هذا الشأن معرفة الكيفية التي أدار بها البرتغاليون التجارة البحرية والحرب في المحيط الهندي خلال تلك الفترة التاريخية الهامة، إضافة إلى أهمية موقع حطام السفينة تاريخيًّا باعتبارها واحدة من أوائل سفن الاكتشافات التي تسبق من الناحية الزمنية أي اكتشاف آخر لغرق السفن الايبيرية بحوالي 30 أو 50 عامًا، حيث من المؤمل أن تقود تلك الاكتشافات إلى اكتشافات جديدة أخرى، ويعد هذا الموقع هو الأول من نوعه من مواقع التراث الثقافي المغمور بالمياه، وتم اكتشافه والتنقيب عنه بمنهج علمي دقيق من قبل فريق من علماء الآثار والمختصين، وهو من المواقع التي هي بمنأى عن صائدي الكنوز.
ويتوج هذا الجهد شراكة حقيقية واضحة تمثلت في الفكرة والعلم والعمل بتعاون ذلل من خلال مفرداته العوائق التي تصدرت مشهد عمليات البحث والتنقيب مع الجهات الأساسية في العمل؛ لذلك شهدت العمليات مشاركة فاعلة بين “المشروع” والجهات الحكومية الأخرى على رأسها البحرية السلطانية العمانية وسلاح الجو السلطاني العماني وشرطة عُمان السلطانية ووزارة البيئة والشؤون المناخية، بالإضافة إلى أهالي جزر الحلانيات وعدد من المؤسسات والمعاهد المختصة من خارج السلطنة كلٍّ حسب اختصاصه، ليشكل في خاتمته نواة لأول فريق وطني متخصص في التعامل مع متطلبات حماية التراث الثقافي العماني المغمور بالمياه، ويؤكد في الوقت نفسه اهتمام السلطنة في بناء القدرات الوطنية للعناية بمفردات التراث الثقافي المادي منه وغير المادي.
وإذ تنهج وزارة التراث والثقافة منهجًا علميًّا رصينًا في الحفاظ على العمق الحضاري لعُمان من خلال مفرداته الثقافية بتعدد أشكالها وتنوع مواقعها الجغرافية، واهتمامها الكبير في البحث والتنقيب عن جزء مهم في تاريخ عُمان البحري وما يرتبط به وحمايته، فقد قامت الوزارة بإنشاء برنامج علمي لدراسة الآثار المغمورة بالمياه في السلطنة والذي من ضمن أعماله البحث والتوثيق لمواقع التراث الثقافي المغمور بالمياه في المياة الإقليمية العمانية، حيث من المؤمل أن تشهد متاحف السلطنة عرض المقتنيات التي يتم العثور عليها بعد الانتهاء من عمليات الترميم والتحليل.
إن هذه الشواهد العظيمة تأتي كنتيجة طبيعية لما تسعى إليه مؤسساتنا الرسمية لتؤكد من خلال رسالتها العمق التاريخي والحضاري لعُمان في بيئاته المختلفة، وتشير إلى أن الرؤى المتدفقة نحو تأكيد ذلك العمق لا يتم إلا بفعل البحث الواقعي والربط بين التاريخ وحضارة هذا الوطن زمانًا ومكانًا وبين النتائج التي تثبت بواقعها القطعي عظمة الدول والإمبراطوريات التي أسهمت في أن تكون جسرًا لعبور قوافل الثقافة بين الشرق والغرب، وأسست لرؤية حكيمة تنتهج مواصلة البحث بعمق أكبر يحقق الهدف السامي الذي تسعى له بعيدًا كل البعد عن الانهزامات والبحث عن تاريخ يساند الواقع الآني ولا يلتفت إلى الماضي.