وكالات-
تواصل المملكة العربية السعودية، بثوبها الجديد، كسر "الخطوط الحمراء"، وذلك منذ صعود الأمير الشاب محمد بن سلمان إلى ولاية العهد؛ حيث اتخذت سلسلة قرارات وأوامر ملكية كانت محظورةً عقوداً طويلة، فيما بات يُعرف في منصات التواصل والشبكات الاجتماعية بـ"علمنة" و"تغريب" المملكة.
"جديد" السعودية هذه المرة، هو ما أعلنه رئيس الهيئة العامة للرياضة، تركي آل الشيخ، بشأن تنظيم المملكة بطولة "البلوت"، المعروفة في بعض الدول العربية بـ"الورق" أو "الكوتشينة" أو "الشدة"، وذلك خلال الفترة المقبلة، متجاوزاً سلسلة طويلة من الفتاوى التي تُحرِّم اللعبة تحريماً "لا لبس فيه".
وتُعد لعبة "البلوت" أحد فروع أوراق اللعب الشهيرة، وتنتشر في دول الخليج العربي، وتقوم على أربعة لاعبين، ولها قوانينها الخاصة التي تميزها عن باقي فروع ألعاب الورق، التي تحتاج أربعة لاعبين أيضاً.
- تفاصيل البطولة
وأعلن الحساب الرسمي للهيئة العامة للرياضة السعودية، التي تُعد الجهة المسؤولة عن جميع الأنشطة الرياضية في المملكة، إطلاق بطولة "البلوت" على كأس الهيئة العامة للرياضة، قبل عدة أيام، بجوائز مالية تُقدر بمليون ريال سعودي؛ منها نصف مليون لصاحب المركز الأول.
معالي رئيس مجلس الإدارة الأستاذ تركي آل الشيخ يوافق على إطلاق بطولة المملكة للبلوت على كأس الهيئة العامة للرياضة بجوائز مالية قدرها:
— الهيئة العامة للرياضة (@gsaksa) February 15, 2018
نصف مليون ريال لصاحب المركز الأول
و250 ألف ريال لصاحب المركز الثاني
و150 ألف ريال لصاحب المركز الثالث
و 100 ألف ريال لصاحب المركز الرابع pic.twitter.com/DozsxjCfPO
ويحتضن مركز "أبسك" للمعارض والمؤتمرات في العاصمة السعودية الرياض فعاليات البطولة، التي ينظمها الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية والذهنية، خلال الفترة ما بين 4 و8 أبريل المقبل.
وعيَّن "آل الشيخ" لاعب كرة القدم السابق شويش الثنيان مديراً للبطولة، على أن تبدأ الهيئة تسجيل اللاعبين الراغبين في المشاركة، عن طريق الموقع الذي سيُدشَّن لذلك.
- الملك سلمان و"البلوت"
ويأتي الإعلان عن إقامة بطولة رسمية للعبة "البلوت" بجوائز مالية ضخمة، بعد ظهور العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهو يشارك أصدقاءه وأقاربه اللعبة الشهيرة، بمجالس التسلية في أوساط الشباب العاطلين عن العمل.
ووفقاً للفيديو المتداول على منصات التواصل والشبكات الاجتماعية، فقد جلس الملك سلمان على طاولة مخصصة للعب وهو يستمع لابن أحد مستشاريه وهو يلقي له قصيدة "مدح"، ليقوم بعدها بدعوة بعض الحضور للعب معه.
هذا الملك سلمان يلعب بلوت دايما وهنا بالمقطع قدامه الدفتر ويسجل علشان يوزع جوائز،، وش عندك؟؟ pic.twitter.com/5qAzsvMFMP
— عبدالعزيز العتيبي (@AbdulazizAtLaw) February 15, 2018
وكان حساب "العهد الجديد" على "تويتر"، والذي دأب على نشر وكشف أسرار عن الأسرة الحاكمة السعودية، قد أعلن قبل عدة أشهر، أن الملك سلمان "أدمن" اللعبة، ولا يتركها إلا لتناول الطعام.
لمن يسأل عن الملك؟
— العهد الجديد (@Ahdjadid) September 9, 2017
الملك حاليا يقضي معظم وقته في لعب البلوت مع أصحابه القديمين من الرياض ولعدة ساعات،تخيل بلوت ثم غداء ثم بلوت ثم عشاء وهكذا
وقال "العهد الجديد"، في تغريدات سابقة تعود للتاسع من سبتمبر الماضي: "لمن يسأل عن الملك؟ الملك حالياً يقضي معظم وقته في لعب (البلوت) مع أصحابه القديمين من الرياض ولعدة ساعات.. تخيَّل بلوت ثم غداء ثم بلوت ثم عشاء وهكذا"، لافتاً إلى أن "طبيبه الخاص نصحه بأن يخفف من الجلوس ومن لعب البلوت"، حسبما قال.
-لعبة "مُحرمة"
وكان عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، الشيخ صالح بن فوزان الفوزان قد أفتى بتحريم لعب "الورق"؛ إذ قال: "إذا كان بعِوَضٍ؛ فهو الميسر والقمار الذي جعله الله قريناً للخمر، وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان، وأخبر أنه يوقع العداوة والبغضاء؛ فهو حرام شديد التحريم".
وأضاف قائلاً: "أما إذا كان بدون عوض؛ فإنه يحرم أيضاً؛ لأنه يضيع الوقت على الإنسان، وربما يسهر في هذه اللعبة ويترك صلاة الفجر مع الجماعة أو في الوقت، وأيضاً يختلط الإنسان بأشكال من الناس غير مرغوب فيها، ويحصل في أثناء اللعب من الكلام البذيء والشتم وغير ذلك ما لا يخفى. فعلى المسلم أن يبتعد عن هذه الألعاب الدنيئة التي تضيع عليه وقته في غير فائدة".
وكان مفتى المملكة الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز، قد أفتى في 19 نوفمبر 1981، بتحريم لعبة "البلوت"، ولو كانت بدون عوض (القمار)؛ لأنها "تشغل عن ذكر الله، وتضيع الوقت بلا فائدة، وتفضي إلى الشحناء والبغضاء".
- "تويتر" يشتعل
وبمجرد الإعلان عن البطولة، حتى انتشر وسم :"#بطولة_المملكة_للبلوت" كالنار في الهشيم، واحتل المرتبة الأولى في لائحة الأكثر تداولاً في السعودية؛ حيث تضمن تبايناً واضحاً في الآراء ما بين مؤيد للفكرة (قلة) وساخر بشدة (أغلبية) لإقامة أول بطولة رسمية للعبة "الورق" في البلاد.
وانقسمت الآراء على موقع التغريدات القصيرة "تويتر" إلى قسمين؛ إذ يرى الطرف المؤيد، أن لعبة "الورق" تحظى بشعبية وجماهيرية واسعتين في دول مجلس التعاون الخليجي منذ القِدم، وأنه لا بد من الاهتمام بالإرث والتراث والحفاظ عليه بشتى الطرق والوسائل.
في الجهة المقابلة، يرى الطرف الآخر -وهم الأكثرية- أن اللعبة تُعد مدخلاً لـ "القمار المحرم دينياً"، فضلاً عن مساوئها وانعكساتها السلبية على المجتمع، بينما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك؛ حين اعتبروا إدراج "البلوت" تحت مظلة البطولات والمسابقات الرياضية التي تحظى برعاية رسمية "مضيعة" للوقت، ومحاولة لإلهاء الشعب وأفراده عن قضاياه الرئيسية وحقوقه السياسية والاقتصادية، وصرف أنظاره عن الأزمات الحقيقية، فضلاً عن "خلق مادة دسمة للحوار والمجادلة تستنزف الوقت"، وهو ما اعتادت عليه نظم الحُكم الشمولية.
أما النقطة الأكثر أهمية، والتي استحوذت على اهتمام قطاع واسع من المغردين؛ فتملثت بتسليط الضوء على "تناقض" رجال الدين السعوديين، المقربين من أروقة صنع القرار؛ بعدما حرموا لعبة "البلوت" سابقاً، وأباحوها حالياً، وفقاً لأهواء "الحاكم"، من وجهة نظرهم.
وبدا غضب السعوديين واضحاً بشدة؛ حيث اعتبروا إقامة بطولة رسمية لـ"البلوت"، مع رصد مكافآت مالية ضخمة لها، تُعد "سخافة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع الأسعار، وفرض متزايد للضرائب، فضلاً عن تضييعها للوقت، وما يرافقها من شتائم ومشاحنات وضغائن بين الأصدقاء، وفتح الباب لـ "القمار".
وتأتي إقامة لعبة سبق تحريمها، منسجماً مع تراجعات كثيرة في السعودية، تحوَّل فيها الأمر "المُحرم" إلى "التحليل"؛ بفضل فتاوى أُعدَّت خصيصاً لتوافق "هوى" الحكام، على غرار ما حدث بشأن السماح للمرأة بقيادة السيارة، فضلاً عن سلسلة القرارات والتوجهات الرسمية التي وصفت بأنها "تغريبية" و"مخالفة" لما استقر في وجدان السعوديين عبر عقود طويلة.
- مشاهير "يهلِّلون" لـ"آل الشيخ"
ورغم العديد من الفتاوى التي حرَّمت "البلوت" تحريماً واضحاً، فإن مشاهير الرياضة والفن في السعودية "سارعوا"، كالعادة، للتهليل لقرار الهيئة العامة للرياضة، ورئيسها تركي آل الشيخ، الذي أدخل بلاده في سلسلة أزمات دبلوماسية مع دول عربية؛ كالمغرب والكويت وقطر، منذ تعيينه على رأس الهيئة، في سبتمبر 2017.
وعلَّق الإعلامي الرياضي السعودي بقناة "العربية"، بتال القوس، على بطولة المملكة للبلوت، قائلاً: "البلوت إرث اجتماعي سعودي، وإعلان بطولة لها حدث سيفتح الأبواب لكثير من النقاشات"، قبل أن يضيف بقوله: "الجوائز قيِّمة، والبطولة تستحق هذا الصخب الذي رافق إعلانها؛ بل إن الصخب جزء من البلوت نفسها".
بدوره، أشاد مهاجم نادي الهلال والمنتخب السعودي، ياسر القحطاني، بقرار تحويل "اللعبة الشعبية الأولى في المملكة إلى بطولة ترعاها الهيئة العامة للرياضة بمكافآت مجزية" على حد قوله.
وأشار نجم اتحاد جدة ومنتخب السعودية الأسبق، حمزة إدريس، إلى أنه يفكر في المشاركة ببطولة المملكة لـ"البلوت"، ممتدحاً في الوقت نفسه إبداع زميليه السابقين في صفوف "العميد"، محمد نور والحسن إليامي، في اللعبة.
- "البلوت" على خُطا الشطرنج
ولم تكن هذه هي البطولة الأولى التي تُحدث جدلاً واسعاً بالسعودية، في عهد الملك سلمان وولي عهده؛ إذ نظمت الهيئة العامة للرياضة "كأس الملك سلمان للشطرنج"، أواخر ديسمبر الماضي، رغم أن اللعبة "محرمة" في البلاد؛ وفقاً لفتوى سابقة صادرة عن مفتي السعودية، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والتي وصف فيها رياضة الشطرنج بأنها "عمل من أعمال الشيطان، وممنوعة في الإسلام".
وتشهد السعودية تغييرات اجتماعية "دراماتيكية" غير مسبوقة؛ تزامناً مع "رؤية 2030"، التي تستند إلى تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، وتحديداً منذ إزاحة الأمير محمد بن نايف وتولّي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد بالسعودية.
- تغييرات اجتماعية "دراماتيكية"
وشهد شهر سبتمبر 2017 اتخاذ السلطات السعودية عدة قرارات تستهدف دمج المرأة في المجتمع؛ إذ سُمح بدخول النساء إلى "استاد الملك فهد الدولي" في العاصمة الرياض، وذلك على هامش الاحتفال باليوم الوطني الـ87 للمملكة، للمرة الأولى، قبل أن يُسمَح بدخولهن إلى ملاعب كرة القدم وتشجيع فرقهن المفضلة بداية من العام الحالي، في 3 مدن؛ هي: الرياض، وجدة، والدمام.
كما أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً يسمح بإصدار رخص قيادة للنساء، بعد سنوات من مطالبات وحملات كثيرة، دشّنتها ناشطات سعوديات، للحصول على الحق في قيادة السيارة داخل المملكة.
وإضافة إلى ذلك، رُفع الحظر الذي كان مفروضاً على تنظيم الحفلات الغنائية والفنية، فضلاً عن البدء بتدشين دُور للسينما، ووقوف المرأة على خشبة المسرح ممثِلةً أمام الرجل، لأول مرة منذ 50 عاماً، وبث التلفزيون الرسمي أغاني لـ"أم كلثوم"، والسماح بتدريس التربية البدنية في مدارس البنات.
ويشدد قادة السعودية في الديوان الملكي على "تمسُّكهم" بتطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة، لكن ولي العهد السعودي قال إن ذلك يتم وفق تفسيرات كانت متّبَعة قبل نحو ثلاثة عقود، في إشارة واضحة إلى تراجعه عن الفترة الماضية التي أُطلق عليها اسم "الصحوة الإسلامية".