الخليج الجديد-
تسميات وصور مختلفة تشع ببهاء الماضي وألقه، وعبق القِدم الذي يحكي للأجيال تاريخاً طويلاً ما غادر ذاكرة سكان الخليج العربي، وبإصرار يحاولون الحفاظ عليه تعظيماً لتاريخ مشرف، كان أساساً لبزوغ فجر جديد، عَبّدَ الطريق وصولاً إلى حاضر مزدهر.
من بين تلك الصور العالقة في قلوب شعوب بلدان الخليج قبل عقولهم، مدفع رمضان، هذه الآلة المدمرة الفتاكة القاتلة، التي صارت فيما بعد حبيبة قريبة مقربة؛ حين ارتبطت بأحب المناسبات إلى قلوب المسلمين، شهر رمضان، الذي يعلن المدفع فيه نهاية وقت الصيام، في زمن لم تكن تعرف أجياله بعدُ مكبرات الصوت التي توصّل صوت المؤذن المُعلِن لوقت حلول الإفطار إلى أبعد مدى.
وتدريجياً، وصل العرف باعتماد المدفع معلِناً وقت الإفطار إلى دول الخليج، بعد اعتماده لأول مرة في القاهرة، وكان مجموعة من الجند وبأمر من السلطان المملوكي خشقدم، جربوا مدفعاً على سبيل اختباره لكونه مدفعاً جديداً، وصادف ذلك غروب أول يوم من رمضان عام 865هــ، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك.
وبدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولاً بعد مصر، ثم إلى بغداد أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقلت إلى مدينة الكويت، ثم انتقلت إلى أقطار الخليج كافة، فاليمن والسودان ودول غربي أفريقيا ودول شرقي آسيا.
اليوم، وبفعل التطور الهائل في الصناعات والتقنية، ما عاد مدفع الإفطار يعتمد مؤقتاً ومنبهاً للصائمين، وبدأ التخلي عنه منذ بداية القرن الماضي، مع انتشار المساجد التي تطلق أذانها من خلال مكبرات الصوت، وباعتماد الساعات المنبهة، ومنبهات الهواتف الجوالة، بالإضافة إلى المحطات التلفزيونية التي تبث الأذان بجميع أوقاته.
لكن الناس في الخليج يعلمون جيداً أهمية مدفع الإفطار، الذي يمثل عندهم قيمة كبيرة، فأصروا على إبراز حبهم واعتزازهم به، حيث وُضع في الساحات العامة، وفي المتاحف، كما صُنعت مجسمات وُضعت بأماكن عامة في جميع الدول الخليجية، باعتباره رمزاً من رموز الشهر الفضيل.
- مدفع المدينة
أهل المدينة المنورة بالسعودية أصروا قبل ثلاثة أعوام على إعادة مدفع الإفطار؛ لحبهم لتلك الصورة الرمضانية، وعاود المدفع العمل في رمضان بالمدينة المنورة بعد توقف 20 عاماً، قبل أن يتوقف هذا العام لأسباب فنية.
وفي قطر، يجتمع الناس والسياح ليشاهدوا مدفع الإفطار مدوياً بصوته، إيذاناً بالعودة إلى الزمن الماضي، وذلك مع دخول وقت المغرب طيلة أيام رمضان.
في حين تحرص شرطة دبي على إبقاء صورة المدفع الرمضاني وهاجة عند الناس طيلة شهر رمضان، وتواظب على إسماع صوته في الشهر الفضيل.
أما في البحرين، وعلى ساحل البحر بالعاصمة المنامة، فيتجمع الناس مع أولادهم الصغار من أجل مشاهدة إطلاق المدفع يومياً، وقت حلول موعد المغرب.
الكويت التي كانت السباقة بين دول الخليج في استخدام المدفع، وبها اقتدى جيرانها، تصر على ألّا يغادر المدفع الصورة الرمضانية لديها.
وفي سلطنة عُمان، وعلى الرغم من اندثار عادة إطلاق مدفع رمضان، تبقى آثاره ومجسماته وأعداد منه تُشاهد في المتاحف والمناطق السياحية والعامة.