ذي أتلانتك-
نشرت مجلة “ذي أتلانتك” مقالا بعنوان “بيع فريق كرة القدم البريطاني غير المستساغ” قال فيه توم ماكتغوي إن بيع نادي نيوكاسل يونايتد إلى السعودية هو صورة عن أمر أكثر جوهرية وإحباطا عن حالة بريطانيا نفسها.
وقال “في مدينة نيوكاسل أبو تين في شمال إنكلترا، لا توجد كاتدرائية فلورنس أو كاتدرائية العائلة المقدسة لتعبر عن روح المدينة. ولا توجد كاتدرائية سانت بولز أو نوتدرام أو باسليكا دي سان ماركو، ففي نيوكاسل تعتبر الكاتدرائية والقلعة أمرين ثانويين، وحتى الجدار الروماني الذي أقامه الإمبراطور هادريان. ففي نيوكاسل، روح المدينة هو ستاد سانت جيمس بارك، العظيم الضخم غير المتوازن وأحيانا المتداعي والذي يرتفع فوق الأفق في وسط المدينة”.
وأصبح الملعب والنادي المحاصر الذي يشغله ملكا للسعودية أو على الأقل هيئة الاستثمار العام السعودية. وربما اعتقدت أن هذا سيكون مثيرا للجدل، فهذا ليس بلدا قديما يشتري نادي كرة قدم إنكليزيا، فهذا بلد يديره رجل توصلت المخابرات الأمريكية أنه المسؤول عن مقتل وتقطيع جثة صحافي، وهذا بلد يخوض حربا قاسية في اليمن. لكن القليل في نيوكاسل يهمهم كل هذا، ولماذا يهتمون؟ فالفرق المنافسة في الدوري الممتاز يملكها أجانب، مانشستر سيتي تملكه أبو ظبي وتشيلسي يملكه ملياردير روسي بروابط مع الكرملين، ولماذا يرفضون المال الذي سيقدمه آخرون؟
وأكد الوسيط الذي سهل عملية استحواذ السعودية على نيوكاسل أن السعودية كدولة لن تسيطر على نادي كرة القدم، ولكن هيئة الاستثمار العام والتي قال الوسيط إنها حريصة فعلا على حقوق الإنسان، مع أن البلد والهيئة خاضعان لسيطرة ولي العهد محمد بن سلمان.
وبعيدا عن فن الأداء الذي يخدم الذات في عملية البيع، فبيع نيوكاسل يونايتد يعبر عن أمر آخر وجوهري ومثير للإحباط عن حالة بريطانيا اليوم. فالدوري الإنكليزي الممتاز هو نتاج فكرة ومرحلة مختلفة، وقبل الأزمة المالية العالمية، البريكسيت ودونالد ترامب. وكان مثالا عن بريطانيا الرأسمالية والأوروبية المنفتحة حيث كانت تملك كل هذا وتربح.
وكان الدوري الأغنى والأكثر مشاهدة حول العالم وباستثمارات وقواعد ملكية أكثر انفتاحا من النوادي الأوروبية الأخرى ولكنه سوق نفسه بقوة للعالم أكثر من أي منافس. وكان مثل القطاع المالي في لندن قبل البريكسيت: اللاعب الأكبر ضمن شبكة أوروبية ولكنه كان عالميا في توجهه وثقافته واستثماره أكثر من منافسيه.
وسيكون نيوكاسل قادرا على المنافسة قريبا مع أفضل النوادي الأوروبية لأنه سيكون غنيا. ونحن هنا أمام رأسمالية في العمل، أو لنقل رأسمالية يدفعها البترودولار أو التي تدفع وقودها الدولة. وفي الحقيقة، فهذا النموذج هو مثل بريطانيا التي خرجت من ثورة مارغريت تاتشر في الثمانينات من القرن الماضي، والتي نسيته بشكل كبير الآن، فهذه العملاقة المحافظة فعلت الكثير من أجل دمج بريطانيا في أوروبا وأكثر من سياسي بريطاني منذ إدوارد هيث وغيره من الساسة البريطانيين المحافظين الذي أخذوا بريطانيا باتجاه الكتلة الأوروبية.
وكان هدف تاتشر الرئيسي هو إنشاء سوق أوروبي موحد تلعب فيه بريطانيا دورا مهما وتصبح غنية ولهذا فتحت البلد أمام الاستثمار الأجنبي ومن كل أنحاء العالم وقدمتها على أنها ذات الاقتصاد الأكثر ليبرالية والآمنة والرفيقة للتجارة من أي مكان في أوروبا. وأصبحت بريطانيا بالنسبة للمستثمرين اليابانيين والأمريكيين بوابة إلى السوق الأوروبي.
وماذا كانت النتيجة؟ حسب ديفي إدغيرتون، مؤلف كتاب “صعود وسقوط الأمة البريطانية” لم تؤد إصلاحات تاتشر لما كانت تريدها، فقد كانت تريد إعادة إحياء الرأسمالية البريطانية ومكانها في العالم. وبعد كل هذا فقد غمرت الأموال البريطانية مرة العالم، واشترت أسهما للشركات البريطانية.
وفي نهاية الستينات، يقول إدغيرتون إن بريطانيا كانت الأكثر ثراء من بين الدول الأوروبية، وبحلول الثمانينات لم يكن هذا هو الوضع، حيث اختارت بريطانيا بناء اقتصاد وطني بأسهم وصناعات مؤممة. ولم تؤد سياسات تاتشر إلى إنعاش الرأسمالية البريطانية و”لم تعد لبريطانيا رأسمالية وطنية وتحولت بدلا من ذلك إلى مركز مالي عالمي لرأس مال الآخرين”.
وعلى مدى السنوات الثلاثين اللاحقة أصبحت بريطانيا ولندن بالتحديد متداخلة في الاقتصاد العالمي قبل أن تنهار في 2008، مما دمر الاقتصاد والنموذج الاجتماعي الذي بنته من الأرباح.
ويرى إدغيرتون أن البريكسيت هي من ناحية صرخة للسيطرة الوطنية، وبالنسبة للعمال العاديين بمن فيهم الذين يعيشون في الأجزاء الفقيرة من بريطانيا مثل المنطقة التي تحيط بنيوكاسل فقد كان هذا بالتأكيد مفهوما. ومن هنا فالتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي كان في حد ذاته ليس استعراضا للعضلات وحنينا للإمبراطورية ولكنه كان رغبة بالعودة إلى بريطانيا التي ظهرت بعدها، عندما كان الاقتصاد وطنيا وليس دوليا. ولكن الدوري الممتاز ومشجعيه تصرفوا وكأن شيئا لم يحدث، فقد تدفق مشجعو النادي في سانت جيمس بارك وهم يرتدون كوفيات مزيفة للاحتفال بالثراء الجديد، ولو نظرنا إلى هذا فهو غير منسجم مع الحس الوطني.
فقد استمعنا لرئيس الوزراء بوريس جونسون وهو يتحدث أمام مؤتمر حزب المحافظين أن البريكسيت هي العلاج الضروري لاقتصاد بريطانيا وجعله معتمدا على المهارة أكثر وبرواتب عالية. وتفاخر عن دوره في إبطال إنشاء دوري ممتاز أوروبي والذي كان سيقضي على الدوري الإنكليزي الممتاز. وقال إن هذا يعكس الطبيعة المقطوعة للحياة المعاصرة والتي لا يمكن اقتطاع الناس من محيطهم الوطنية.
ومع ذلك هناك حس لدى الناس بالانقطاع عن الاقتصاد العالمي الذي لا سيطرة لهم عليه. وهناك المشكلة وهي أن بريطانيا لديها أهم دوري ممتاز في العالم ولكنها تسمح بشراء نواديها لمن يملك المال الكثير، لأن هذا يسمح بخلق أفضل منتج يمكن بيعه في السوق العالمي.
ويعطي بيع نيوكاسل صورة أخرى عن مرحلة أخرى في تاريخ بريطانيا، فهي صفقة جاءت من زمن لم تكن تهتم فيه البلاد بمصدر المال طالما جاء إليها، عندما كانت الصين أفضل صديق للغرب الذي لم يهتم بسجل البلد هذا في حقوق الإنسان وعندما كانت لندن ملجأ أي شخص يريد إنفاق ماله القذر.
كما أن استحواذ السعودية على نادي نيوكاسل ليس إشارة عن حاضر البلد ومستقبله، بل هناك صورة أخرى بدت من “أوراق باندورا” التي كشفت عن دور لندن المحوري في التهرب الضريبي. وكان من المفترض أن تكون هذه المرحلة قد انتهت بصدمة البريكسيت ووصول بوريس جونسون ولكنها لا تزال موجودة. وفي النهاية حصل نيوكاسل على شيء من الصفقة لكن ألم يخسر شيئا آخر ولا يوزن بالجنيه والقرش، فماذا يحدث عندما تتحول كاتدرائية الكرة إلى مغسلة لتبييض سمعة الآخرين.