صباح نعوش- البيت الخليجي-
كأس العالم لكرة القدم، أكبر تظاهرة رياضية عالمية، تتسابق الدول على استضافتها لأسباب إعلامية واقتصادية. وهذا العام تستضيف قطر مونديال 2022 ما سيحقق لها مكاسب مالية وتجارية واستثمارية وازنة. لكن رغم ذلك، لا يجوز المبالغة في تقدير هذه المكاسب، خاصة في الوقت الحاضر المتسم بمؤشرات عالمية سلبية.
اهتمت وسائل الإعلام اهتماماً منقطع النظير بالتداعيات الاقتصادية لمونديال قطر. وهناك توقعات أن ينتقل الناتج المحلي الإجمالي من 161 مليار دولار في عام 2021 إلى 201 مليار دولار في عام 2025، أي أنه سيزداد بنسبة معدلها السنوي 6.2%. ويعتقد محللون أيضاً حصول الدولة على إيرادات سنوية من السياحة والاستثمارات الأجنبية بقيمة خمسة مليارات دولار لغاية 2035، وأن قطر ستحقق عائدات تتراوح بين أربعة وخمسة ريالات عن كل ريال أنفقته.
من الصعب الاعتماد على هذه التخمينات لأنها لا تستند إلى أسس متينة ومقبولة وتبالغ في الإيجابيات الاقتصادية.
تاريخيَا، حققت الدول التي استقبلت المونديال عدة مكاسب اقتصادية بدرجات مختلفة. هذه المرة تجري بطولة قطر تحت تأثير عوامل عالمية سيئة من النواحي الصحية والاقتصادية والسياسية: هبوط السياحة الدولية بفعل وباء كورونا، وارتفاع نسبة التضخم عالمياً، والتداعيات العسكرية والسياسية والاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا.
لا شكّ أن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى ارتفاع النمو في قطر للعام الجاري بنسبة 3.2%. لكن هذا الارتفاع لا ينجم فقط عن البطولة بل كذلك وبصورة خاصة عن تصاعد أسعار الغاز على الصعيد العالمي من جهة وزيادة إنتاج الغاز القطري من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك أن هذه النسبة التي يتكرر ذكرها في وسائل الإعلام ليست في الحقيقة عالية، فهي تعادل تقريباً المعدل العالمي. بل أنها من أضعف نسب النمو في الخليج، إذ يبلغ النمو في الكويت 7.6% وفي السعودية 8.2%، ويصل في العراق المتخبط بالمشاكل المالية والسياسية إلى 9.5%.
تكلفة هائلة
تعتمد النتائج الاقتصادية للمونديال اعتماداً أساسياً على مؤشرين:
الأول، أهمية البنية التحتية الرياضية.
فكلما كانت هذه البنية متطورة وكافية وملائمة هبطت الكلفة وازدادت المكاسب.
الثاني، يرتبط بالمكانة السياحية للبلد المضيف.
إذ أنّ البلدان السياحية تحقق نتائج إيجابية تفوق تلك التي تحصل عليها البلدان الأخرى.
وعلى هذا الأساس يمكن تفسير المكاسب المهمة للمونديال على الاقتصاد الفرنسي في 1998 والاقتصاد الألماني في 2006، في حين لم تصل البرازيل وروسيا إلى مثل هذه النتائج.
أنفقت قطر أموالاً طائلة لاستضافة المونديال، كما أنها ليست من البلدان السياحية المعروفة. ولذلك، لا يمكنها الوصول إلى النتائج التي حققتها الدول الأخرى.
عند دراسة تكلفة المونديال في جميع البلدان نلاحظ أنها تنصب على الملاعب بالدرجة الأولى. بمعنى أن الكلفة المعلنة من قبل قطر وقدرها 220 مليار دولار ليست من متطلبات المونديال، لأن الكلفة الكلية للملاعب الثمانية التي ستجري عليها المباريات لا تتجاوز سبعة مليارات دولار.
استغلت السلطات العامة البطولة لإنجاز مشاريع تناولتها رؤية قطر 2030 التي جرى إعدادها في 2008 أي قبل سنتين من حصول الموافقة على الاستضافة في قطر. أرادت الحكومة تحقيق هدفين في آن واحد، التنفيذ الفعلي لهذه الرؤية أولاً، والهدف الإعلامي ثانياً في الترويج للسياسة الاستثمارية القطرية.
وانطلاقاً من هذا الاعتبار قد لا تتجاوز مصروفات المونديال ثلاثين مليار دولار، أي 13.6% فقط من المبلغ المعلن. ففي عام 2021 بلغت الاعتمادات المخصصة للمشاريع الرئيسية 19.8 مليار دولار. شملت الدفاع والأمن والتعليم والصحة وغيرها. وخصص مليار دولار فقط للرياضة والثقافة، وذات الملاحظة تنطبق على السنوات السابقة.
ومع ذلك فإن كلفة المونديال (على افتراض أنها 30 مليار دولار) هي الأعلى في تاريخ جميع البطولات السابقة. وإذا كانت تكلفة الملاعب تعد من مصروفات المونديال، فمن غير المعقول إضافة تكلفة المترو مثلاً البالغة 19 مليار دولار إلى هذه المصروفات، فعند إلقاء نظرة على خريطته نلاحظ أنها تحتوي على 37 محطة، سبع محطات فقط تؤدي إلى الملاعب. وهكذا لم يتم إنشاء المترو لنقل المشجعين فحسب بل كذلك وبصورة خاصة لمعالجة الازدحام المروري الذي يكبد الاقتصاد خسائر فادحة.
عوامل أثرت على الإنفاق
خلال الفترة بين 2010 (سنة اختيار قطر لاستضافة المونديال) و2022 (سنة إقامة البطولة) حدث أمران في غالية الأهمية والخطورة أثّراً على الاقتصاد القطري برمته بما في ذلك التحضير للمونديال.
الأمر الأول الحصار الخليجي (من يونيو 2017 حتى يناير 2021) الذي أدى إلى قطع العلاقات التجارية بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى. كما توقفت المواصلات الجوية والبحرية والبرية. كان من الضروري إذن إيجاد منافذ أخرى وممولين آخرين للقيام بالمشاريع التي يتطلبها المونديال. قاد هذا الوضع على سيل المثال إلى استيراد الصلب من ماليزيا بدلاً من السعودية، وفي أغلب الأحيان أفضى الحصار إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد.
أما الأمر الثاني فهو وباء كورونا الذي أدى إلى تراجع صادرات قطر وتناقص إيراداتها. استطاعت الدولة التغلب على هذه المشكلة بفضل إمكاناتها المالية فهي تملك احتياطي نقدي هائل، ولها صندوق سيادي عملاق (جهاز قطر للاستثمار) تبلغ أصوله 450 مليار دولار ويحتل بالتالي المرتبة الخليجية الرابعة والعالمية التاسعة. كما تتمتع الدولة بدرجة عالية في التصنيف الائتماني. لذلك، سجل عام 2020 اعتمادات عالية للمشاريع الرئيسية بلغت 90 مليار ريال مقابل 80 مليار ريال في العام السابق.
أما في 2021 فقد هبطت إيرادات النفط والغاز بشدة وكذلك الإيرادات الأخرى. عندئذ، ظهر عجز هائل في ميزانية الدولة بلغ 34.6 مليار ريال. أسهم هذا الوضع في هبوط الاعتمادات المخصصة للمشاريع الرئيسية لتصل إلى 72.1 مليار ريال، أي انخفضت بنسبة 19.8% مقارنة بالعام السابق.
ورغم الإمكانات المالية العالية لقطر، ارتفع حجم ديونها العامة خلال فترة قصيرة من 258.2 مليار ريال في 2016 إلى 381.7 مليار ريال في 2020، أي بزيادة سنوية معدلها 11.9%. ويتضح ثقل هذه الديون من علاقتها بالمؤشرات الاقتصادية، إذ انتقلت من 46.7% من الناتج المحلي الإجمالي في بداية الفترة إلى 72.6% منه في نهايتها، وأنصب القسط الأكبر من الزيادة على الديون الخارجية التي تضاعفت خلال الفترة.
وهناك ثلاث ملاحظات حول هذه الديون:
الملاحظة الأولى هي تحسن الإيرادات العامة نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز اعتباراً من العام الجاري خاصة تحت تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا، الأمر الذي يسهم في سداد الديون بسهولة وبسرعة.
والملاحظة الثانية والأهم أن الديون ارتفعت لأسباب عديدة في مقدمتها تنفيذ مشاريع إنمائية وفق رؤية قطر 2030. بمعنى أن هذه الديون لم تتفاقم بسبب تصاعد النفقات العسكرية فقط. ومن المعلوم أن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للمديونية تتوقف على كيفية استغلال الأموال المقترضة.
والملاحظة الثالثة هي أنه في نهاية العام الجاري سوف ينتهي الإنفاق على المونديال، أي سيتوقف الصرف على قسط من المشاريع الرئيسية، عندئذ، ستنخفض الحاجة للقروض فتهبط الديون.
السياحة والاستثمارات الأجنبية
يسود الاعتقاد أن مونديال قطر سيقود إلى تحسن السياحة فيتحقق أحد الأهداف الرئيسة لرؤية قطر 2030 وهو تقليل الاعتماد على الغاز والنفط. ويذهب البعض إلى أن هذه التظاهرة الرياضية ستؤدي إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية التي شهدت انخفاضاً في السنوات الماضية. في الواقع، لا تسمح الرؤية بمثل هذه الاستنتاجات، فهي لا تسعى إلى تقليل الاعتماد على النفط والغاز بقدر ما ترمي إلى التوفيق بين استفادة الجيل الحالي والأجيال القادمة من المواد الطاقية. لذلك فهي تهتم بالدرجة الأولى بالاستغلال الأمثل لعوائد هذه المواد وتحاول الموازنة بين التنويع الاقتصادي ودرجة استنزاف هذه المواد.
ومفهوم التنويع الاقتصادي الوارد في الرؤية ينصرف إلى تشجيع الصناعات المعتمدة على المواد الطاقية والاهتمام بالبحث العلمي للنهوض بمستوى التنمية التكنولوجية.
لا تتضمن الرؤية ما يشير إلى تنمية السياحة لتنويع مصادر الدخل. جاء الترويج للسياحة بعد الموافقة على استضافة قطر للبطولة أي بعد ديسمبر 2010، في حين يعود تاريخ صدور الرؤية إلى عام 2008.
بطبيعة الحال سيقود المونديال إلى زيادة عدد السياح وارتفاع إيرادات السياحة. من المتوقع أن يخف الضغط على الميزان الجاري الذي يتكون من الميزان التجاري وحساب الدخل وحساب الخدمات. ويتكون حساب الخدمات بالدرجة الأولى من الأموال التي ينفقها الأجانب في قطر (دائن) والأموال التي ينفقها القطريون في الخارج (مدين). في عام 2020 بلغ الدائن 12.9 مليار ريال، في حين وصل المدين إلى 24.5 مليار ريال.
من المتوقع أن يقود المونديال إلى تقليص هذا العجز المزمن والهائل. وهو سمة أساسية من سمات المالية الخارجية لدول الخليج باستثناء البحرين، لكن الخطأ يكمن في المبالغة في التأثير الإيجابي للمونديال على هذه الحساب. أما زيادة الاستثمارات الأجنبية فهي لا تنجم عن البطولة بقدر ما تتأتى من عوامل عديدة أساسية: المكانة الدولية المرموقة للغاز القطري، واستقرار سعر صرف الريال الذي يمنح الثقة للمستثمرين بالسياسة النقدية، ومالية عامة لا تعاني من عجز إلا نادرًا، كذلك فائض ميزان المدفوعات الذي يقود إلى تزايد الاحتياطي النقدي فترتفع قابلية الدولة على مواجهة التزاماتها المالية. أيضًا، الدخل الفردي المرتفع الذي يقع في المراتب العالمية الأولى، وانخفاض الضغط الضريبي على الشركات والأفراد، وتطور البنية التحتية خاصة في الوقت الحاضر، وارتفاع كبير لأسعار الطاقة وما يترتب عليه من زيادة الإيرادات، وأخيراً الاستقرار السياسي بعد المصالحة الخليجية. يمكن القول أنّ مونديال قطر عامل آخر يضاف إلى هذه العوامل المشجعة للاستثمارات الأجنبية، لكنه ليس الأهم بينها.
أنفق القطريون أموالاً طائلة خلال السنوات العشر المنصرمة ضمن مشاريع رؤية قطر 2030. خُصص قسط منها للبنية التحتية الرياضية وللمرافق التي يتطلبها المونديال، ولهذه الاستثمارات تداعيات اقتصادية إيجابية خاصة في السنوات القادمة التي ستشهد هبوط الإيرادات العامة لجميع البلدان المصدرة للنفط والغاز. رغم ذلك، لا يجدر بنا المبالغة في تقدير التداعيات الاقتصادية للمونديال التي قد تقتصر على السياحة في السنة الجارية. بالمقابل، ستحقق قطر مكسباً لا يستهان به هو أنها أول بلد عربي يستقبل بطولة العالم لكرة القدم التي سيشاهدها مليارات البشر.