(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
تُعدّ أبسط تعريفات الاستثمار، وأكثرها مباشرة ووضوحًا، هي إنّه تصرّف يعني بالاستحواذ على أصول رأسمالية، بهدف تنميتها وضمان تحسين أدائها ومؤشّراتها، وينحصر هدف أي مستثمر كان في نقطتَين لا ثالث لهما، إمّا التوقّع بارتفاع قيمة استثماره مع مرور الوقت، أو بجلب عوائد مرتفعة، توفّر مصادرًا جديدة للدّخل، أو أن تُحقّق الهدفين معًا، أي ارتفاع القيمة والعوائد المباشرة.
وتزيد الأهداف مع الاستثمارات الأجنبية، بشكلٍ عام، والتي تحرص على حُزمة أهداف أُخرى، منها أن يكون العائد المتحقّق من الاستثمار أعلى ممّا قد توفّره السّوق الأصلية له، أو أن تتكامل مع مشروعاته الأُخرى بحيث يستفيد من أصوله الخارجيّة في تحسين استثماراته المحليّة وتنميتها ورفع كفاءتها، وبالطّبع قدرته على نقل أغلب عوائده إلى بلده الأم، كمؤشر على الربحيّة والنّجاح.
ويرتبط بهذه المقدّمة المنطقيّة نتيجة حتميّة، وهي أنّ رأس المال جبان، كما وهو شرّه للمكسب والمال، من يُريد أن يستثمر في سوق خارجية، فهو سيسعى –على الأقل- للحصول على عائد لا توفّره له سوقه، وفي الوقت ذاته، سيكون متحسّبًا مترقّبًا لكلّ ما من شأنه أن يهدّد أو يُحدّد حرّيته في نقل أمواله إلى حيث يُريد أو وقت أن يشاء.
بينما يعرف الاستثمار الأجنبي حدودًا للعقل الواجب اتّباعه والمنطق السليم للتصرّفات، حتّى المتهوّر منها، فإنّ الاستثمار العربي يتفرّد في شيئين لا يضاهيه فيهما أحد، الغباء والمزيد من الغباء، فلا تعرف لما يتمّ إنفاق مُذهل ومهول بهذا الشّكل على ملكية أندية رياضية في القارة الأوروبية، بل وتحوّلَ الأمر إلى سباق هزلي يجري فصوله أمام العالم، وتثبت –ومعها من الحقّ الكثير- أنّنا أمَم لم تعرف بعد معنى للدولة أو أدوار للسلطة.
منذ عامين، نجح صندوق الاستثمارات العامة السعودي في الاستحواذ على ملكيّة نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، ليصبح لدينا سباق خاص بين السعودية والإمارات (نادي مانشستر سيتي) وقطر (باريس سان جيرمان)، وهي كلّها استثمارات خياليّة، تكلّفت مئات الملايين في مراحلها الأولى، وتواصلت إلى أن عبَرت حاجز مليارات الدولارات.
والشّاهد الوحيد في قصة دخول ولي العهد إلى الدوري الإنجليزي الممتاز، أنّه وقبل وأثناء وبعد عمليّة الاستحواذ المُثيرة للقرف، فقد دأبت الصحافة الرياضيّة الإنجليزية على وضع المملكة وشخص صاحب السّلطة فيها، الأمير محمد بن سلمان، في مرمى هجومها اللاذع والدّائم، وموجهة أسوأ ما يمكن من اتّهامات إلى المملكة وأبشع ما أمتلكته من قصص لتشويه صورتها.
دفع صندوق الاستثمارات السعودية 300 مليون جنيه إسترليني، للحصول على النّادي الإنجليزي، البعيد تمامًا عن الشهرة وعن البطولات، ورغم عراقة الفريق، فإنّه لم يعرف الطريق إلى البطولات منذ عقود طويلة ماضية، بالتّحديد منذ عشرينيّات القرن الماضي، وكان يتأرجح بين الفرق المهدّدة بالهبوط أو التي تُصارع على مناطق البقاء الدافئة.
ومن ثمّ سيتحوّل النّادي إلى مصرف جديد للأموال العربية، بالضبط كما عاينّاه في التّجارب التي سبقت، وسيظلّ الغربي هو صاحب اليد العليا في تلك المعادلة، التي تثبت كم الحقد والعنصرية التي يحملها ضدّنا، ولا يرانا سوى مجموعات من المتطفّلين على حضارته وحياته ومسابقاته، وسنبقى ممتهنين كلما زاد تلهّفنا على تقليدهم أو تجربة العمل معهم.
الغريب أنّ الاستثمار الأميركي، وعلى عكس العربي، ذكي جدًا في تعامله مع كرة القدم، يراها ويؤمن بها مطيّة لتحقيق المزيد من العوائد المضمونة والأرباح السنوية الضّخمة، وهي بالتالي فرصة لهم لا توفّرها سوقهم القليلة الاهتمام بهذه اللّعبة، ويمكننا أن نأخذ واقعة وحيدة كشاهد هنا على فارق العقلية المرعب.
في العام 2005 كان نادي مانشستر يونايتد الإنجليزي واحدًا من أندية القمّة في عالم الكرة الأوروبية، يحمل الشياطين 20 رقماً قياسيًا في الدوري الإنجليزي الممتاز، بالإضافة إلى ثلاثة بطولات في دوري أبطال أوروبا، ويرتبط بأشهر الرّعاة العالميين وأكثرهم ثقلًا وقُدرة مالية، ما جعله في كلٍ إحصاء بين الأندية الثّلاث الكبرى في العالم كلّه، وإلى الحدّ الذي وصفته مجلة "فوربس" الاقتصادية بـ " نادي كرة القدم الأكثر قيمة في العالم".
هذا النادي النّاجح جدًا كان صفقة رائعة للملياردير الأميركي، مالكوم جليزر، الذي أتمّ استحواذِه عليه في 2005، مُقابل نحو نصف مليار جنيه إسترليني، لكن الأغرب أنّ الملياردير الذّكي لم يدفع جنيهًا واحدًا لشراء النادي، بل قام بعمليّة "خطّة شراء مدفوعة"، أي عن طريق الاستدانة بقروض من البنوك، ثمّ سدادها لاحقًا من عائدات النّادي.
هذه العقليّة الاستثماريّة، رغم تكاليفها الزّائدة، والتي وصلت بحساب الفوائد إلى 1.3 مليار جنيه إسترليني، منحت العائلة الأميركيّة أكبر نادٍ في العالم مجّانًا، وفوق ذلك، يحقّق النادي إيرادات سنوية مُذهلة، بفضل إدارة تسويق تعرف عملها جيدًا، ورغم أنّه تراجع خلال السنوات الأخيرة بفعل خطّة سداد الدّيون، إلّا أنّه يبقى دائمًا ضمن حزمة الكبار في إنجلترا وفي أوروبا.
في الحقيقة فإنّ النّتائج لا تهمّ عائلة جليزر على الإطلاق، لكن ما يهم ويحقّق مصالحهم هو سيل الأموال المتدفّقة من الرّعاة ومن المشاركة في البطولات أو الجولات الترويجيّة الواسعة التي ينظّمها النّادي مطلع كلّ موسم، وهو استثمار بلا شكّ يصلح كنموذج للفعالية والذّكاء والإدارة، رغم أنّه لا يعجب جماهير الكرة في مانشستر كثيرًا.
اليوم، وبسبب الضغط الجماهيري على إدارة النّادي من عائلة جليزر ومديره إد وودورد، فإنّه لو فكّر في طرحه للبيع، فلن تقلّ قيمته الفعليّة عن 4 مليارات دولار، في ظلّ حقيقة وصوله إلى عائدات صافية منذ العام 2015، عقب تسديد القروض كافّة التي موّلت عمليّة الشراء، وعلمًا بأنّ نادي آرسنال اللّندني، الأقل نجاحًا وعائدات، رفض رئيسه عرضًا من دانييل إيك لشراء ناديه مقابل ملياري جنيه إسترليني.
والفارق بين إستراتيجيّة عائلة جليزر في مانشستر يونايتد، وفكر صندوق الاستثمار السّعودي في نيوكاسل يونايتد، هو الفارق الكامل الكامن بين التّخطيط والحماقة، بين العقل الواعي والسعي وراء نزوة، وفي هذه المُقارنة المُخزية لا يبدو ولي العهد السعودي أكثر من صبي سيُصبح ملكًا، ومع التّقاليد العائليّة التي انتهكت، وتزايد ضغوط ومشكلات الوضع الداخلي، وهو يحمل كلّ بذور التّفجير والصّدام، فإنّه يتّجه إلى المجهول، ويتضخّم شعوره بعدم التّقدير والحقّ الضّائع، وتزداد بالتالي شهوة تحقيق أي إنجاز مهما بلغت تكاليفه ومهما أمتدّت آثاره، ولو كان نزوة جنونيّة في ملعب كرة قدم.