(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
هناك قواعد أساسيّة وبديهيّة في حكم الشّعوب، تؤكّد أنّ النّاس لا يخضعون لمنطق البيانات الإحصائيّة وجداولها ومؤشراتها، ولا المعادلات الرياضيّة الجامدة، وأنّ الإنسان هو الوحدة الأولى في المجتمع، يعمل ويتحرّك وفاقًا لعوامل عديدة تؤثّر فيه، وتدفعه أحيانًا إلى ركوب الأخطار والخروج عن المألوف ومخاصمة الطريق الآمن في حياته. فتاليًا؛ إنّ المجتمع قد يشذّ في حركته عن المعطيات ويكسر –إن أراد- كلّ مانع وأي حاكم.
التسلّط كما يصدّر الخوف للنّاس، قد يدفعهم أيضًا إلى الغضب والثورة. والإعلام مهما بلغ تأثيره أو وصلت درجة ولائه وتفرّده بالسّاحة، فإنّه يستطيع تمرير خداع بعض النّاس لبعض الوقت، وليس كلّ النّاس كلّ الوقت. وعمليّات الإصلاح المفروضة من سلطة سياسيّة عليا في القصور؛ قد تجذب تعاون النّاس وفي الشّارع، وفي الوقت ذاته، قد تلفظها الغالبية وتعمل على تدميرها وإفشالها، نكاية بالحاكم وكرهًا به.
هذه القواعد صار فرط تكرارها وسردها نوعًا من التّسليم بالقدرة الخلاّقة للشعوب الحيّة على الحركة، مهما تبيّن ثبات المجتمع أو هدوئه. وهي لا تُنسب لمفكّرٍ أو مؤلفٍ واحد، لكنّها محصّلة تجارب التاريخ الإنساني المعروف لنا، ودروس قائمة لكلّ طاغية يظنّ أنّ البقاء الدائم ممكن، وأنّ استلام مقعد قيادة شعب هو نهاية المطاف وخاتمة القصّة. في نموذج وليّ العهد السّعودي "محمّد بن سلمان"، حتّى لو افترضنا حسن النوايا، فهو لا يمثّل في إستراتيجيّة حكمه إلا نوعًا من فرض الإرادة والرؤية الضيقة الواحدة، وتأميم المجال العام لنفسه، ولنفسه فقط، وعبر إعلام وموارد وأفكار كلّها مستوردة غريبة عن المجتمع السّعودي. فهو يحاول بالقهر صناعة هذا التغيير الذي يريده أو يحلم به، بتحويل الدّولة المحافظة إلى صورة أو نسخة أخرى من أوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة.
آخر ما خرجت إبداعات الأمير به هو قصّة اجتذاب أفضل لاعب كرة قدم، في العالم، ليشارك في الدّوري السّعودي، تحديدًا مع "فريق الهلال". ففي مقابل ما يمكن الوصول إليه سعوديًا، من انتشار إعلامي مكثف في الغرب ودعاية هائلة عبر المواقع الرياضيّة وتصدّر نشرات الأخبار ووكالات الأنباء، فإنّ اللاّعب صاحب 36 عامًا، والذي يقترب عمره "الكروي" على النّهاية، سيحصل من أموال البلد على نحو مليار دولار. هذا الأمر المعلن علنًا، غير ما سيدفع في العمولات وجيوب السّماسرة وغيرهم كثر.
قبل "ميسي"، منافسه السّابق "كريستيانو رونالدو" أصبح اليوم هو الرّياضي الأعلى أجرًا، في العالم وفي التاريخ، براتب سنوي هائل وضخم مع نادي النصر نحو 136 مليون دولار. وبالطبع سيكون راتب "ميسي" المتوّج بكأس العالم- بحسب الأنباء- ضعف راتب اللاّعب البرتغالي، صاحب 38 عامًا، والذي جاء إلى السّعوديّة بعد أن أوشك على الاعتزال، ليحقّق ثروة هائلة ما كان له أن يحلم بها في فريقه السّابق "مانشستر يونايتد" الإنجليزي، ويختم بهذا العقد السّخي مشواره بصفته لاعب كرة قدم.
ما الذي سيحققه وجود "ميسي" في السّعوديّة؟!.. في الحقيقة؛ سيكرّر قصّة "رونالدو" ذاتها.. اهتمام إعلامي هائل ومكثف ويومي، سيجعل السّعوديّة بؤرة الأضواء ومحطّ الاهتمام وبطلة عدسات الكاميرات، كلّ حركة ستسّجل وتذاع مباشرة إلى أرجاء الكوكب، ونشرات الأخبار كلّها ستحرص على تغطية الشأن السّعودي، وبالطبع ستشير إلى وليّ العهد وخططه التحديثيّة...
كم سيستمر هذا؟.. شهرًا أو شهرين على أكثر تقدير، كما حدث بالضبط مع مجيء "رونالدو"، ثمّ سيخفت وهج الحدث تدريجيًا إلى أن يتبخّر..!
هل يستحقّ هذا كلّ ذلك التّبذير والسّفه الرّسمي؟! في الحقيقة؛ القصّة كلّها لن تتسبّب إلّا شروخًا هائلة داخل المجتمع السّعودي. فكيف يمكن تسويغ قيم الكدّ والاجتهاد والعمل لدى الأجيال الجديدة، وهم يرون بأعينهم لاعب كرة منتهي الصلاحيّة يحصل على مليار دولار في عامين فقط؟.. كيف تقنع مهندسًا أو طبيبًا أو عاملًا بأنّ للتفوّق أو للصبر مردودًا ما، على نفسه وأسرته ومستقبله ؟!...
ما سيصنعه هذا العقد المشين، في المجتمع السّعودي، هو نشر القهر على أوسع نطاق، وفي كلّ نفس وروح، المجتمع والنّاس سيتحوّلون تلقائيًا إلى ما يشبه الوحش في الأسر... نعم يُقدم لهم اللّحم السّهل في الأقفاص، لكنّهم لن يروا –حتى في من يطعمهم- سوى عدّو دائم وفريسة محتملة ومطلوبة، إذ ما عايشوا أي لحظة غضب أو جوع، وعند ضغط الحاجة سيحطّمون أقفاصهم ويفتكون بحرّاسهم.
إن كان في هذا البلد بعض عقل، ولا نطمع في كثير منه، فمن الأولى التركيز على اللاّعب السّعودي، الذي حقّق –للمصادفة- الانتصار الوحيد على بطل العالم في قطر، في العام 2022، وأن توفّر له الأجواء وتعظّم لديه الدوافع للتألق، فاللاّعب السّعودي ليس أقلّ من الأجنبيّ.. فقط ينقصه "نظام"..