حسين إبراهيم-
قطعت «هيئة الترفيه» في السعودية، نقطة اللاعودة في سعيها لتغيير الطبيعة الإسلامية المحافظة للمجتمع السعودي، بعد استضافتها في الرياض مغنية راب أسترالية أدت أغنية اعتُبرت سبّاً للذات الإلهية. وأثارت تلك الخطوة سخطاً مكتوماً داخل المملكة، حيث لا يجرؤ أحد على الجهر به، فيما ينعكس زيادة في مشاعر العداء لولي العهد، محمد بن سلمان، بين الإسلاميين في العالم الإسلامي، يستثني أنفسهم منها المفتون والدعاة الذين تموّلهم المملكة في الخارج
حتى ما قبل وصول مغنية الراب الأسترالية، إيغي أزاليا، إلى السعودية، كانت الأمور تسير على ما يرام، نسبياً، بالنسبة إلى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يقود، عبر «هيئة الترفيه»، مسعى إلى تغيير هوية المجتمع السعودي، أو شريحته الشابة على الأقل، بما يتلاءم مع مشروعه المستقبلي للحكم، والذي يقوم على تحويل المملكة من قبلة للمسلمين إلى قبلة للمال والأعمال والرياضة والترفيه والسياحة، وغيرها.
حتى ذلك اليوم في 25 آب الماضي، والذي اعتلت فيه المغنية أحد مسارح الرياض بدعوة من «الهيئة» التي يرأسها تركي آل الشيخ الذي يسميه بعضهم اختصاراً «تآش»، كانت المؤسسة الدينية الوهابية المقلَّمة أظافرها، تستطيع تمرير ما يجري من دون كثير ضجة، حتى إن بعض السعوديين الموالين لولي العهد، نظّر إلى أن حفلات الرقص والغناء في المملكة ينطبق عليها ما ينطبق على باقي بلاد المسلمين، ما دامت لا تقترب من مكة التي تُعتبر وحدها العاصمة الإسلامية المحرّمة.
أغنية أزاليا تضمنت عبارات تدعو للسجود «لإلهك الانثى»
ما حدث بعد ذلك يُعتبر أكبر اشتباك حتى الآن، وإن كان مخفياً، بين الحملة التي يقودها آل الشيخ الذي يُعتبر واحداً من أهم مساعدي ابن سلمان ومنظّري عهده من جهة، وبين كل مؤسسات الدولة الموروثة ذات الصبغة الإسلامية المحافظة، بل المتشدّدة، والتي مثّلت القاعدة الأساسية للحكم في العهود السابقة، من جهة أخرى. ولم يعد خافياً أن سياسة ابن سلمان الجديدة هي محاولة لاقتلاع تلك القاعدة، كسبيل وحيد للاطمئنان إلى كبح التهديدات لحكمه في المستقبل.
على ضفاف هذا النهج، قامت نهضة الإمارات التي تُركت لها مهمة تلبية حاجات جيوش العمال الذين عملوا لصالح الشركات الغربية الكبرى، خلال عشرات السنين في كل أنحاء الخليج النفطي، وتحديداً في المملكة، التي أخذت على عاتقها مهمة «الجهاد» ونشر العقيدة الإسلامية، بما يتلاءم مع الطبيعة المحافظة لمجتمعها، وفي الوقت نفسه، يؤدي مهمات محدّدة لمصلحة المشروع الأميركي. ما يرمي إليه ولي العهد السعودي الآن، هو استرداد ذلك الدور من أبو ظبي.
الأغنية التي أدتها أزاليا وتناولت فيها الذات الإلهية بالإساءة، أحدثت هزة في العالم الإسلامي، وزادت في إحراج المؤسسة الوهابية التي لا يجرؤ أحد ممن فيها على إغضاب ابن سلمان، ولا سيما بعد أن رأوا بأم أعينهم كيف حكمت محكمة سعودية أخيراً بالإعدام على الناشط السعودي، محمد الغامدي، بسبب تغريدات انتقد فيها ولي العهد على حسابين وهميين على منصة «X» أحدهما يتابعه شخصان فقط والثاني يتابعه ثمانية أشخاص، وبعد أن زُجَّ بالكثير من رجال الدين وقضاة الشرع في السجون لمدد طويلة، لا لأنهم انتقدوا الحاكم أو عارضوه، وإنما فقط لأنهم لم يكونوا غلاظاً في الأحكام بما يكفي لإسكات الأصوات المعترضة عليه من داخل المؤسسة وخارجها.
وأزاليا التي تقاضت مليوني ريال عن حفل الرياض من «هيئة الترفيه»، مغنية تتوجّه خصوصاً إلى النسويات، وتضمنت أغنيتها التي أدتها على المسرح عبارات تدعو إلى السجود «لإلهكَ الأنثى»، وتخاطب الله بالقول: «قل لأنبيائك إن أحداً لا يمكنه إيقافنا». وفي النهاية، تسبب مستوى الإحراج بوقف الحفل، لكن بذريعة مختلفة، بحسب ما صرحت به المغنية نفسها، التي قالت إن الجمهور السعودي تفاعل معها بشكل كبير، وعزَت الإيقاف إلى تمزق سروالها الضيق أثناء الأداء. وبالفعل، أظهر شريط فيديو سروال المغنية ينشق عن الفخذ في منتصف الأغنية.
خُطب الجمعة التي أعقبت الحفل في أنحاء المملكة والتي تُحدّد مواضيعها سلفاً وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، تجاهلت تماماً ما حصل، وكانت الخطبة في المسجد الحرام في مكة عن دعاء النوم، وفي المسجد النبوي عن الرؤيا. وكذلك، لم يجرؤ الكثير من الدعاة والمفتين في معظم أنحاء العالم الإسلامي على ذكر ما حدث، لكونهم يتمولون من السعودية.
الأغنية التي أدّتها الأسترالية إيغي أزاليا واعتُبرت سبّاً للذات الإلهية أحدثت هزة في العالم الإسلامي
لكن مع ذلك، ضجّ العالم الإسلامي بانتقادات عنيفة لما حصل، وصدرت بيانات قوية اللهجة في مهاجمة ما جرى، عن «هيئة علماء المسلمين» التي كان يترأسها الراحل يوسف القرضاوي، والكثير من الدعاة، ولا سيما أولئك المحسوبون على جماعة «الإخوان المسلمون».
تلك الضجة عكست تململاً مكتوماً داخل السعودية نفسها، حيث ما زال وسم «نرفض ما يحدث في بلاد الحرمين» يتصدر التغريد على منصة «X» منذ الحفل. وشن المغردون هجوماً لاذعاً على ولي العهد السعودي، واصفين ما يحدث بأنه «فجور وفساد» في أرض الحرمين. واغتنم المعارضون السعوديون في الخارج الحادثة لتسجيل نقاط على الأخير.
ولم يكن ابن سلمان وحده المعرَّض لهجوم، وإنما كذلك رجال الدين الموالون له، ولا سيما «هيئة كبار العلماء» والمفتي عبد العزيز آل الشيخ، والذين وصفهم بعض المغرّدين بأنهم «علماء بلاط ومرتزقة باعوا دينهم لقاء مناصب دنيوية فانية»، متسائلين عن أن هؤلاء «إذا لم تحرّكهم حادثة سبّ الله في الرياض فمتى سينتفضون؟».
هل ستنجح «هيئة الترفيه» في المهمة المسندة إليها ضمن «رؤية 2030»؟ ذلك يبقى سؤالاً كبيراً، وترتبط الإجابة عليه باعتبارات أخرى تتعلق بموقع المملكة في عهد ابن سلمان، وموقف الآخرين منها، ولا سيما الولايات المتحدة التي احتضنت النموذج السابق للحكم واستخدمته إلى الحد الأقصى في حروبها الخارجية، الباردة والساخنة، لأكثر من ثمانين عاماً. فالسعودية تقف اليوم على أكبر مفترق في تاريخها، سواء في هويتها كدولة ومجتمع، أو في أدوارها الخارجية، وموقعها في هذا العالم، والذي سيبقى موقعاً حساساً ومهماً، بغض النظر عن الاتجاه الذي تسير فيه.