لم تكن الجهود الدبلوماسية لمجموعة السفراء العرب في جنيف التي أجهضت، للعام الثاني، مشروع قرار تشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم حرب اليمن أخيراً، تعبيراً عن انتصار توافقية المجتمع الدولي حول الأزمة اليمنية، كما سوّق إعلام السلطة الشرعية وحلفائها، معتبراً إياه نصراً، وإنما كان انتصاراً للصوت السياسي الذي تمثله السعودية، والدول الدائرة في ركبها.
وبقدر ما كانت النتيجة واضحةً منذ انطلاق الدورة الثالثة والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان التي تعمّدت تجاهل الصوت الحقوقي الإنساني الذي قارب ملف جرائم الحرب في اليمن بحيادية وموضوعية؛ إلا أن المؤسف التضليل الإعلامي الذي تعمّدت مجموعة السفراء تسويقه في تبرير هذا الرفض، إضافة إلى الزجّ بالمأساة السورية في أتون معتركٍ لم يكن سوى انتقاصٍ من آلام السوريين.
بلا أي أسس تستند إلى منطق حقوقي واضح، برّرت مجموعة السفراء العرب رفضها تشكيل لجنة دولية، لتفويت الفرصة على قوى دولية وإقليمية، تسعى إلى استنساخ السيناريو السوري، وإدخال اليمن في النفق نفسه، إذا ما تم تدويل الملف الحقوقي اليمني، وأن ذلك سوف يؤدي إلى مقاربة الحرب في اليمن من أزمةٍ سياسيةٍ إلى إنسانية، كما في الشأن السوري.
وبعيداً عن نظريات المؤامرة التي لا تزال النخب السياسية العربية تنطلق منها، في تفسير أزمات الشرق الأوسط، متجاهلةً دورها اللاوطني في إطلاق ماكينتها الجهنمية، فإن قياس سورية على اليمن وسيلة ناجحة كما يبدو لتخويف الغرب، وإن كان الغرض منه إعاقة إنصاف الضحايا اليمنيين الذين قتلتهم غارات التحالف العربي.
يدرك المجتمع الدولي، وكذلك المجموعة العربية في جنيف، اختلاف جذر الصراع في سورية عنه في اليمن، وكذلك مقاربة المجتمع الدولي والعربي الأزمتين، ففي الحالة السورية، تم الالتفاف على ثورة الشعب ضد النظام السوري، وحولت سورية، للأسف، بمشاركة دول عربية وإقليمية بما فيها إيران، إلى ساحةٍ لصراع الإرادات والمصالح الإقليمية. وأدى دخول روسيا، بكل ثقلها، في الساحة السورية إلى نقل الصراع إلى مستوىً أكثر تعقيداً من تضارب المصالح.
خلافاً للسياق السياسي للأزمة السورية، يتوافق المجتمع الدولي، وكذلك معظم الدول العربية، على اعتبار انقلاب جماعة الحوثي، بمعية قوات صالح، جذر المشكلة اليمنية، وعلى طبيعة الحل الذي يبدأ بإنهاء الانقلاب والتبعات المترتبة عليه، وفق تسويةٍ ملائمةٍ وإيجاد مسارٍ انتقالي واضح، كما ينحصر اللاعبون الإقليميون المؤثرون في الحرب اليمنية على السعودية بشكل رئيسي التي تقود التحالف، وحلفائها بدرجة أقل، وبالتالي، لا يمكن قراءة التدخلات الإيرانية في اليمن، إلا في سياق تنافسها الإقليمي مع السعودية.
المبرر الآخر الذي طرحه السفراء العرب، هو تخوفهم من الدلالات السياسية لتشكيل لجنة تحقيق دولية، وهو ما يعني مساواة مليشيات الحوثي وصالح مع الشرعية اليمنية، من حيث الرمزية السياسية والمسؤولية القانونية والأخلاقية، وانعكاس ذلك على السياق السياسي للأزمة اليمنية، وإنه يخدم طروحات جماعة الحوثي وصالح، وينتزع لهم مكاسب في أي تسوية قادمة؛ إلا أن هذا التبرير الواهي لا يستند إلى مقاربات المجتمع الدولي التي لا تزال تتعاطى مع الشرعية اليمنية باعتبارها جزءاً من المشكلة والحل معاً.
وبالتالي، فإن تشكيل لجنة تحقيق دولية لن يضرّ بالمعادلة السياسية الواضحة في اليمن، والتي لا تقبل التأويل. الأنكى من هذه التبريرات اللامنطقية تبجح الشرعية اليمنية بأن رفضها تدويل الملف الحقوقي ناجمٌ عن حرصها على السيادة الوطنية، إذ من المخجل حقاً أن يتحدث أيٌّ من أطراف الصراع اليمنية عن سيادةٍ وطنيةٍ هي من شرَع أولاً بتقويضها.
لم تجرؤ المجموعة العربية أن تكون نزيهةً، وتوضح مسببات رفضها مشروع قرار تشكيل لجنة دولية، والذي كان سوف يؤدي، في حال التصويت عليه، إلى التعامل مع ضحايا مليشيات الحوثي وصالح وضحايا قوات التحالف على قدم المساواة. وهذا ما لا تريده مجموعة السفراء العرب التي احتشدت خلف الدبلوماسية السعودية. ودفعاً للحرج لا أكثر، عمدت إلى تقديم مشروعٍ تحت البند العاشر، وهو دعم اللجنة الوطنية التي شكلها الرئيس عبد ربه منصور هادي لوجستيا وفنياً، واعتبارها الجهة الوحيدة المخولة للتحقيق مع مجمل انتهاكات أطراف الصراع في اليمن.
ورأت المجموعة العربية أن قصور اللجنة الوطنية ليس لأنها ممثلة لطرف ما، وإنما في افتقارها لدعم فني من الأمم المتحدة، وبأنها، خلافا للجنة التحقيق الدولية التي تشكلت في سورية، لجنة وطنية، وأن التقارير الدولية في سورية مسيسة. لكن، حتى لو تجاهلنا الظروف التي نشأت فيها اللجنة، وادّعينا حسن النية في التعاطي مع تقاريرها، وبأنها غير مسيسة، إلا أن القرار السياسي داخل هذه اللجنة محكومٌ بالإرادة السعودية التي هي طرفٌ في هذه الحرب، وهذا كافٍ لإسقاط مصداقيتها، مهما كانت جهود عامليها وحياديتهم.
انساقت المجموعة العربية في جنيف خلف الخيارات الملائمة للسعودية، لتجنيبها المساءلة في قتل المدنيين اليمنيين، في حين قاربت الدول الغربية هذا الملف وفق مصالحها، بمقدار ابتزازها السعودية، ويتضح هذا المنحى في الموقف البريطاني الذي رفض تشكيل اللجنة، ثم عمد بعدها إلى التصويت مع ألمانيا وفرنسا.
تسببت، في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، غارة للتحالف في محافظة الحديدة بتهديم حي الهنود الشعبي على ساكنيه الفقراء، ولم يفق اليمنيون من صدمتهم حيال هذه الغارة، خصوصاً بعد إلقاء السعودية المسؤولية على الشريك اليمني الذي منحها الإحداثيات، حتى قتلت في اليوم الثاني غارة أخرى للتحالف ساكني عمارةٍ في مدينة إب. وبعدها بيومين، قتلت غارة للتحالف عشرات الأطفال في مدينة صعدة، من دون أن يكلف المستشار العسكري للتحالف العربي، أحمد عسيري، نفسه بتقديم أي تفسير لما يحدث.
يعرف اليمنيون أنهم يقتلون منذ أكثر من عام وتسعة أشهر على يد مليشيات الحوثي وصالح وقوات التحالف، وأنهم أصبحوا بالنسبة للقتلة مجرّد أخطاء بشرية وخسائر مجانية، تسقطها أخطاء الإحداثيات، كما تقول السعودية. ولكن لم يستوعب هؤلاء المنكوبون، وهم يشاهدون التغطية الإعلامية للملف الحقوقي اليمني في جنيف، أن في هذا العالم مسوخا عربية ويمنية، قانونية وسياسية ودبلوماسية وحقوقية، تجاهد لطمس جرائم التحالف في اليمن، وتميز بين الضحايا اليمنيين، استنادا إلى هوية القاتل.
حدث في جنيف، في المحفل الأممي لحقوق الإنسان، وللمرة الثانية، انتصار إرادة الجلاد طيب القلب على الضحايا الأغبياء.
بشرى المقطري- العربي الجديد-