لم يظهر الخليج بكياناته كافة على هذه الشاكلة من التخبط «النخبوي» من قبل، ربما لأن الجهاز الحاكم هناك يستشعر فائض قوة غير مبرر، يمكن أن يمهد له الطريق أمام اعادة انتاج واقع سياسي أكثر سلاسة مما يحصل منذ بداية «الربيع العربي»، خاصة اذا ما تقاطع الاستشعار هذا مع غزل أميركي من تحت الطاولة أمام الخطوات التصعيدية. الاحتمال الثاني أن يكون الاستشعار متمحوراً حول قناعة راسخة بقرب انتقال الواقع من السخونة إلى اللهب، وما يقتضيه من إعداد العدة والعتاد، بما في ذلك من «مبررات أخلاقية»، تجهز البيئة الحاضنة لسلّة خيارات «راديكاليّة»، يمكن أن تدخل دول «مجلس التعاون»، أو على الأقل الدول الأكثر حماوة وحماسة منها، في دوامة «عنفيّة» ستشكل بطبيعة الحال معبراً مباشراً لـ «الربيع المجنون» الى الجزيرة العربية، إنما بنسخة أكثر «جرأة وإقداماً».
عملت الدول العربية الخليجية خلال فترة السنوات الخمس الماضية على إقامة منظومة حمائية تقيها الرياح الحارة المقبلة من الشام والعراق أو من شمالي أفريقيا. وقد شكل «الانخراط الاستباقي» أحد أهم أعمدة المنظومة هذه. اذ سمح وبشكل كبير بتنفيس «الاحتقان» الإقليمي، خاصة عند اللاعبين الكبار في ساحات حروب الوكالة أو حروب بأطراف ثانية وثالثة. وطبعاً لم يقتصر الأمر على اعتبار الفعل الاستباقي فقط، حيث شكلت الارتباطات الدوليّة، مع الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، دافعاً إضافياً لتعزيز النشاط الخليجي في ساحات الصراع، وتغذيته بما يكفي من أسباب الاستمرار، طالما أن قدرة «الحسم» تبدو بعيدة المنال عن الجميع، في ظل خطوط حمراء أميركية وأخرى روسية، تمنع الاختراقات ذات الثقل «الاستراتيجي» في هذه الجبهات.
الانخراط المباشر في اليمن
شكلت الحالة اليمنية أحد أهم النماذج الخالصة للاتجاهات التصعيدية، والتي تتحكم حالياً بواقع الأجهزة الخليجية الحاكمة. فقد جاء الانتقال المفاجئ من مقعد «الداعم» الى مقعد «المنخرط»، بمثابة الإعلان عن انطلاق مرحلة جديدة، تتجاوز القراءة المرتكزة الى اعتبارات تتخطى «ثوابت» الأمن والأمان، والتي كونت طوقاً دائماً طوال العقود الماضية لاحتواء ظواهر التطرف او الذهاب بالمنطقة نحو نماذج فوضوية، خاصة أن الحاضنة الخليجية تشكل الأرض الخصبة والولادة بشكل دائم، لأشكال متعدّدة من «الاتجاهات» الإسلامية العنفية أو المتطرفة، والتي غالباً ما استثمرت وما تزال في العمليات البعيدة المدى، ضمن خطط عملانيّة لمواجهة وضرب أعداء دول التعاون وأعداء الولايات المتحدة، بسلاح ناري وثقافي ومجتمعي.
الحرب «العربيّة» على اليمن، أو «عاصفة الحزم»، لم تكن مجرد رد فعل تلقائي أو طبيعي على تهديد داهم للأمن القومي السعودي أو الخليجي، ولم تكن كذلك مجرد تنفيذ لقرارات ارتجاليّة على وقع الانقلاب الذي نفّذه الحوثيون على حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي، خاصة أن الرياض تدرك من مقعدها في مقدمة دول «مجلس التعاون»، أن ما حصل في اليمن في مرحلة العام 2011 وما تلاها، جاء كرد فعل مباشر على حالة التبريد القسرية التي فرضتها الأقطار العربية الجارة على الحراك الذي بدا، وإلى حد بعيد، سلمياً وغير ولاّد للحروب، تحديداً في إنتاجه «رومانسيات» وطنية غير مسبوقة، كالتلاقي في الساحات ما بين «الحراك الجنوبي» الساعي للانفصال، ومكوّنات «شماليّة وحدوية» كالحوثيين و «البعثيين» والناصريين أو حتى «الإخوان المسلمين» ممثلين بـ «التجمّع الوطني للإصلاح».
«الحزم» السعودي أظهر تبدلاً في المزاج العام لدى صناع القرار داخل المملكة وفي محيطها القريب. وجاء على وقع تبدل آخر في مزاج الإدارة الأميركية، حيث إن إقفال الملفات وتمريرها، كما اراد الرئيس الأميركي، أو على الأقل الحديث عن رحيل محتمل نحو الهادئ، فرض من المنظور الخليجي تعويضاً عربياً لفاقد الثقل الأميركي. هكذا جاء التصعيد العسكري في اليمن، وكذلك ارتفاع حدة الخطابة السياسية، بمثابة الترجمة الفورية لهذه القناعة، من دون النظر في أثرها القريب قبل البعيد، على منظومة العلاقات الإقليمية الهشّة، وتركيبة العلاقات المجتمعية القائمة على «حساسيات تاريخيّة» تتنوّع ما بين مذهبي وطائفي وقومي وعرقي. وهو ما يعني أن الاتجاهات السياسية الصاعدة حاليّاً، أدخلت بلدانها وفي مقدمها السعودية في عملية «مقامرة» استراتيجية غير واضحة المعالم لناحية محاولة استقراء الصورة النهائية.
البحرين واستهداف «النخبة الدينية»
في البحرين جاءت ملامح التصعيد أكثر «تجذّراً». فبرغم غياب مشاهد الحرب الحامية بأشكالها كافة، إلا ان اتجاهات الأزمة حالياً تقدّم مجموعة كاملة من الاحتمالات، التي قد تفضي في الغالب إلى نتائج وخيمة على الصعد كافة. ولا يمكن بطبيعة الحال فصل السلطة البحرينية عن المنظومة الخليجية، وإدراج خطواتها في مواجهة المعارضة ضمن سلّة محليّة خالصة. فمنذ دخول قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين العام 2011، أصبحت الرياض عنصراً فاعلاً وأساسياً في الساحة البحرينية الى جانب أطراف أخرى كالإمارات، وذلك بمعزل عن ارتباطات بحرينية أخرى مع البريطانيين والأميركيين، لما تقدمه من قواعد وتسهيلات لوجستية للاساطيل الأطلسية في مياه الخليج، وما يعنيه ذلك من تموضع «طبيعي» إلى جانب المنظومة الأميركية في مواجهة الخصوم وعلى رأسهم إيران.
جاءت عملية «الثورة المضادة» التي شنها النظام البحريني على المعارضة خلال الاسابيع القليلة الماضية، وما يزال، بمثابة المقدمة «المثاليّة» لإنتاج حالة عربية فوضوية جديدة، يغرق فيها الجميع في مستنقع الخيارات الصعبة، المتخطية كل الاعتبارات «الدينية والوطنية». فلم يحصل من قبل أن تخطى نظام عربي حدود «التصدير الإعلامي» لخطواته، مهما جاءت جارحة او جذرية او قاسية. فالاستهداف المباشر والواضح والعلني لرجال الدين، وبشكل تصاعدي، يظهر رغبة مباشرة من النظام باستبعاد «النخبة الدينية» عن المشاركة بالمعترك السياسي وقيادة الحراك الشعبي، خاصة أن رجال الدين في البحرين يشكلون «النخبة التاريخية الطبيعية» للقاعدة الشعبية، أو على الأقل للغالب من هذه الطبقة، على أن يسير الأمر بالتوازي مع استهداف خط الدفاع الثاني عن الحراك الشعبي، الممثل بمجموعة من النشطاء والحقوقيين والمدوّنين، حيث مُنع هؤلاء من السفر الى خارج البلاد، فيما اعتقل العديد منهم وفي مقدمهم نبيل رجب رئيس «مركز البحرين لحقوق الإنسان».
يمكن الربط بين خطوتين أساسيتين نفذتهما الرياض والمنامة خلال الفترة الأخيرة: الأولى تمثلت بإعدام السعودية لرجل الدين المعارض نمر النمر، وما أظهره ذلك من «تحرّر» خليجي من بعض الخطوط الحمراء التاريخية. وبطبيعة الحال لم يتسبّب الأمر بانهيار المملكة واندلاع الحرب الداخليّة. لكن ذلك لا يعني أن المسألة لم تخلق في الدوائر المذهبية المغلقة حالة يمكن أن تتطور في ظل الاستثمار السلبي المناسب الى نموذج عنيف، يقود البلاد الى انسلاخ مجتمعي خطير. لكن طالما أن الأمر لم يحصل خلال الساعات القليلة التالية للإعدام، استشعر السعوديون بفائض من السيطرة، انتقل خلال شهور قليلة الى جارتها الصغرى البحرين، التي وجدت في أرضيّتها ما هو مناسب لتنفيذ خطوات تصعيديّة مشابهة، كرفع عقوبة السجن على زعيم المعارضة الشيخ علي سلمان ثم إسقاط جنسية آية الله عيسى قاسم أكبر مرجعيات البحرين.
لا تحمل الخطوات التصعيدية في البحرين خلفيّة مذهبية واضحة، لكنها ستفضي الى ما هو أخطر على الساحة الداخليّة، طالما أن المستهدف هم «النخبة الدينية» في بيئة تقليدية شديدة التديّن، اضافة لكون علماء الدين في البحرين، كما العراق وايران، من ساسة الصف الأول في المعارضة أو الحكم، بحسب وضع كل دولة على حدة.
هكذا، فإن ناتج اختلاط الاستهداف السياسي، مضاف اليه طبيعة المستهدف ودوره ومنبره، يُدخل البحرين ومعها دول الخليج في مرحلة جديدة من الخطابة الطائفية الخالصة. اذ إن الاستفزاز المذهبي الحالي سينتج بعد تحوّله الى رد فعل، مجموعة أخرى من الاستفزازات في الطرف المقابل، طالما أن الأرضيّة العربية مجهّزة وبشكل بسيط، إنّما فعّال، لإعادة إنتاج الحروب ذات الصبغة المذهبية وبوتيرة استيلاد سريعة. فالبحرين التي شكلت دوماً خاصرة رخوة للسعودية، قد تكون اليوم، وللمرة الأولى أكثر ميلاً نحو «تصدير» الفوضى الى الرياض من زاويتها الشرقيّة. والخطأ البحريني القاتل، المدعوم سعودياً، كــــان في تحويل عملية انسلاخ الجهاز الحاكم عن فئة مجتمعية ضخمة تمثل الغالبية السكانية، وهو ما سيخلق أرضيّة مناسبة للاســــتثمارات المتعددة، طالما أن القبضة الأمنية لم تعُد ناجعة في احتواء الأزمـــات، في ظل غياب عمليّة الاحتواء السياسي التقليدي.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-