مع الجلسة الجديدة لمحاكمة آية الله الشيخ عيسى قاسم، يتداول البعضُ انتقادات “صارمة” لمستوى “الاحتجاج السياسي” على هذا الاستهداف الاستفزازي للشيخ قاسم، وهي انتقادات توجه بالخصوص نحو شخصيات تنتمي إلى الأوساط السياسية التي كانت تدعي الارتباط ب”خط العلماء” وخاصة في المراحل السياسية السابقة، حيث كانت تقدّم نفسها في فترات “الرخاء السياسي” على أنها “الأجدر” و”الأقدر” على إدارة الوضع السياسي تحت “عباءة” الشيخ قاسم، إلا أنها بدت اليوم “غائبة” عن مشهد النصرة له، على الرغم من تجاوز الخليفيين لكل “الخطوط الحمراء” بحقّ الشيخ قاسم، وعموم الهوية الدينية والوطنية للمواطنين.
ولا يتردد بعض المتابعين في توصيف ما يجري من هذه “الجهات” بأنه “خذلان مخزٍ” للقيادة العلمائية في البلاد، والتي طالما “تدشق هؤلاء بالالتفاف حولها” و”الاحتجاج بها” في محطات سياسية سابقة، إلا أنها اليوم “لم تقدم إثباتا عمليا على هذا الولاء العلمائي”، ليس فقط مع الاستهداف الأخير للشيخ قاسم، ولكن أيضا منذ أن تصدّر إمام جامع الإمام الصادق بالدراز المشهد العام في تثبيت العناوين الأساسية للحراك الشعبي، وعبر شعاراته التي وصفها البعض ب”قناديل الثورة”، ومن ذلك شعار “اسحقوه” في إطار ردع المعتدين على الحرمات، وتأكيده على “العودة للشعب” في أي خيار أو تفاوض يتعلق بتقرير مصيره، إضافة إلى مواقفه المتعددة التي عبر فيها عن الصمود وعدم القبول ب”الذل” وأن النظام وأتباعه “سيعجزون ولن نعجز”، وهي المواقف التي كانت إحدى أبرز العوامل في تسريع آل خليفة لحربهم ضده والتعدي على منبره وشخصه، وبأسوأ الأقوال والسياسات.
يذهب بعض الناشطين إلى إفشاء “لوم شديد” ضد طيف من السياسيين المعارضين الذين كانوا فيما مضى يصارعون من أجل الدخول في “البرلمان”، وهم اليوم “صامتون” أو “غير عابئين” إزاء الاستهداف “الأقسى والأقصى لراية العلماء”. كما يتبادل الناس استياءا من “التعاطي الاعتيادي” للمشروع الخليفي ضد الشيخ قاسم، وخاصة من جانب جهات سياسية أضحت تتبادل خبر محاكمة الشيخ قاسم بوصفه من الأخبار “العادية”، وتنأى عن الدخول المباشر في ميدان الدفاع عن ساحته التي يقول البعض بأنها “ساحة الفداء الأخيرة التي يتمحص فيها الخيط الأبيض من الأسود”.
هذا التلكؤ أو “البرود” في نصرة الشيخ قاسم يضعه متابعون في ذات السياق الذي يواصل فيه بعض السياسيين السعي من أجل “مد الجسور مع النظام” والقبول بمحاكمه “الجائرة” من خلال المضي في الطعن على قرار حل جمعية الوفاق، وهو موقف يراه معارضون مخالفا لطبيعة “الظرف القائم الذي يشن فيه الخليفيون حربهم المفتوحة على وجود المواطنين وهويتهم”، وخاصة مع امتناع الشيخ قاسم عن حضور المحاكمة التي أكد العلماء بأنها “غير شرعية”.
في المقابل، فإن المواطنين والعلماء (الذين تم اعتقال العديد منهم)، والقوى الثورية الحية؛ تقدم الدليل العملي على وفائها لخط العلماء، وتصديها للدفاع عن القلعة الأخيرة لهذا الخط. وباستثناء الوجوه السياسية التي كان يُنتظَر منها موقف عملي متقدّم؛ فإن هذا المجموع الشعبي والعلمائي هو اليوم الأكثر حضورا في خطّ الدفاع عن الشيخ قاسم، ولم يكتف بإصدار البيانات وتنفيذ “الحملات الإلكترونية” و”التغطيات التلفزيونية”، وقدم المثال العملي المتكرر على مفهوم “الفداء” و”التضحية” في درب “العلماء” والمنافحة عن المقدسات. وبحسب أحد المؤمنين بهذا الخيار، فإن الإصرار على الدفاع عن الشيخ قاسم وتنظيم البرامج الشعبية والثورية في الانتصار له؛ هو جزء من “عقيدة الممانعة الحقيقية التي أسسها القادة، وعلى رأسهم الأستاذ حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين”، مشددا على أن الاستمرار في هذا الدفاع “نابع من إيمان القوى الثورية بأن المشروع الخليفي باستهداف السكان الأصليين هو مشروع قديم، وأن الوقوف في وجهه قبل سنوات الثورة، يتواصل اليوم عبر تأكيد الدفاع عن الشيخ قاسم، لأن استهداف الشيخ قاسم قد يعبر عن بلوغ آل خليفة لمستوى متقدم من استهداف الوجود الأصلي للسكان، وهذا ما يجعل قضية الشيخ قاسم هي قضية حاسمة اليوم، وبحسب الموقف منها يتبين الولائي للعلماء من غيره”، بحسب تعبيره.
يدعو البعض للتحلي اليوم بقدر كبير من “الحصافة والشعور بالمسؤولية” ولاسيما مع مشهد “الخذلان” الملموس والمستهجن تجاه الشيخ قاسم من جانب سياسيين “بارزين” في الداخل، وكأنهم في وارد انتظار نهاية “الكارثة”، وعلى غرار ما حصلَ مع الشيخ علي سلمان، الذي وُجّهت نحوه “أطنان” من التضامنيات قبيل الحُكم عليه، وتضمينها بالتحذيرات الغليظة والتحذيرات النارية. إلا أن كل شيء هدأ وتوارى، واختفى الواحد تلو الآخر بعد الحكم على الشيخ سلمان، وبعد التغليظ على حكمه الأول، وبعد إغلاق “الوفاق”.
فهل ما يجري من حراك “سياسي” اليوم يتناسب مع إيمان حَمَلة “راية العلماء” والمؤمنين بخطهم؟ وأين أولئك الذين أوحوا للناس – فيما مضى – بأنهم ذائبون في عباءة الشيخ قاسم، وأنه لا معنى لحياتهم أو وجودهم في حال المساس بخيط رفيع من عباءته الكريمة؟ ماذا بعد استهداف صفوة العلماء الأوفياء، وتسليط القمع والمحاكم على البقية الباقية منهم؟ ألم يخرق الخليفيون آخر الخطوط الحمراء بعد؟ ألم يعتدوا على “خط العلماء الأصيل”؟ أليس ما يجرى اليوم هو استهداف لهوية المواطنين، ولشعائرهم ودينهم ومقدساتهم ووجودهم، كما أفصح كبار العلماء؟
المواطنون حاضرون في “ميدان الفداء”، وهم كانوا على أعلى درجات التضحية حينما احتشدوا في البلاد القديم قبل عام أو أكثر، وتفجّرت الدماء من عيونهم وأجسادهم تأكيدا للوفاء للشيخ سلمان. ومن المؤكد بأن التغيير الحقيقي ينجزه هؤلاء الناس، ومن يقف وراءهم من قوى حية تطابِق أفعالها أقوالها، ولكن على الذين يراقبون المشهد الداخلي في البحرين – وفي ظل النمو “الخفي” لأضلاع المتسلقين وأبطال “أحصنة طروادة” و”المهزومين”، بحسب تعبير الدكتور سعيد الشهابي – أن يضعوا في الحسبان أن جزءا أساسيا من خلل المشروع السياسي للمعارضة هو أنّ جزءا منه لا زال يتحرك في أيدي بعض أولئك الذين نموا وتناموا في عصر “المنافسة الشخصية”، والذين ثبُت – مع الوقت – استثمارهم الخاص والمؤقت لعنوان “خط العلماء”، وهم أنفسهم الذين يمررون “الإهانة” الشنيعة القائمة والمستمرة ضد الشيخ قاسم، كما مرّروا تلك التي نالت من الشيخ علي سلمان. فمنْ هم الولائيون؟ ومنْ خذلَ خطّ العلماء بعد ١٣ عاماً من حملات التعبئة المضادة ضد الممانعين؟
البحرين اليوم-