أرادت شبه الجزيرة العربية أم لم ترد، فإن لـ «ربيعها» المنطلق العام 2011، وإن حصراً في اليمن والبحرين، أثاراً باتت تتهدد توازنات «المنظومة» الفوقيّة العتيقة هناك، والتي نسجها الغرب بعناية في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع بدايات الربع الأخير من القرن الماضي. فالآليات المنتجة للتفوق، المرتكزة إلى قاعدة الإغراق المالي، لم تعُد مجدية في كبح جماح «القوى الصاعدة». كما أن المرحلة الحالية تشكل فرصة تاريخية لإحداث إعادة هيكلة قسريّة، تُخرج دول المنطقة نهائياً من رعايتها «الأحادية» لحروب الوكالة والأطراف الثانية والثالثة، وتدخلها في واقع منفتح على سلّة كاملة من الاحتمالات المستقبليّة، غير الخاضعة لـ «قواعد» الاشتباك الأميركية المفروضة «تاريخياً» بفعل الثقل العسكري المصاحب للحظوة السياسيّة في الخليج العربي.
قواعد الاشتباك في 2009
قبل سبعة أعوام من الآن، وفي قلب «حرب صعدة السادسة» بين الجيش اليمني و «الحوثيين»، شكلّ الصراع الحدودي المصاحب للحرب الأساسيّة، نقطة مركزية في بناء المرحلة المقبلة على اليمن. فقد كانت الاشتباكات حينها الاختبار العمليّ الأساسي لمدى صلابة الجبهة وانفتاحها على احتمالات تصعيديّة. ما يعني أن الحوثيين المنخرطين في القتال، إضافة إلى من يراقب المعارك تلك من أطراف يمنيّة، تمكنوا من تجميع «إضبارة» متكاملة لقواعد الاشتباك وحدوده مع المملكة العربية السعوديّة. وقد شكلت قواعد الاشتباك تلك عناصر غابت طوال الفترة التاليّة للحرب الأهليّة اليمنية، التي صاحبت الثورة على «الإمامة» في ستينيات القرن الماضي. هكذا شرّعت الرياض أبوابها العام 2009 أمام قيام «الحوثيين» بتنفيذ اختبارات تَحمُّلٍ عملانيّة، تظهر حدود القوة أو محدوديتها، في ظل معركة متكاملة فرضت تحريك كامل العضلة العسكرية السعودية، في رقعة جغرافية ضخمة.
تقوم سرديّة الرياض في حربها مع صعدة خلال تلك الفترة، على صدّ القوات السعودية لتسلل حوثي في المنطقة الحدودية في مركز الخوبة التابع لجازان. فيما تقابلها سرديّة يمنيّة ترتكز إلى صد الدعم العسكري المباشر القادم من السعودية لصالح الجيش اليمني وقتها، والذي تحوّل من قصف جويّ وحدودي إلى توغلات متبادلة. لكن الركيزة الأساسيّة التي قامت عليها عملية تحليل الحرب تلك، تكمن في تحول المعارك من مناوشات إلى انكفاء سعودي نحو الداخل، في مقابل «احتلال» حوثي لمناطق واسعة وصلت في بعض النقاط إلى عمق 70 كيلومتراً. وقد أصبحت قرية الخوبة السعودية في جبل الدخان عنواناً لتلك المرحلة. إذ شكلت المنطقة المدنية المأهولة الأولى التي «تسقط» بيد اليمنيين، ثم ساحة الحرب الأولى التي «تُهزم» فيها قوات النخبة السعودية، المتمثلة بسلاح المظليين والكتيبة 85 تحديداً، التي كان يُفترض بتدخلها تعويض فاقد القوة بعد انسحاب حرس الحدود. إلا أن النتيجة اختصرتها جملة نائب وزير الدفاع السعودي وقتها الأمير خالد بن سلطان: «لا نعلم عن المفقودين من الكتيبة شيئاً».
حافة الهاوية
قرية الخوبة تلك عادت مجدداً إلى واجهة الحدث، بعدما تمكنت القوات اليمنية المشتركة من السيطرة على حاميتها في موقع الفريضة العسكري، إضافة إلى تدمير موقع القائم ومعهد القرن. وهذا يعني بشكل مباشر أن مكامن الضعف في الدفاعات السعودية لم تتغيّر، أو أن المملكة وصلت في هذه الأيام كما العام 2009 إلى حدودها النارية الكاملة. وهو ما يشي بانكشاف دفاعاتها أمام المهاجمين، الذين باتوا يملكون خرائط شبه ثابتة في المناورة والتوغل داخل الأراضي السعودية. هكذا أصبحت المنطقة الخاضعة لـ «احتلال» يمني مباشر، أو تلك المنفتحة على احتماليّة «السقوط»، واضحة المعالم، في ظل عجز «المدافعين» عن إيقاف هذا التحرك أو احتوائه بالحد الأدنى. إذ تقترب المعارك من اختراق خطوط بدت حتى الأمس القريب كأنها خطوط حمراء غير خاضعة لحسابات الميدان، بل لحسابات سياسيّة تتصل بطاولة الحلّ النهائي.
التطور الأبرز الذي ينفتح على احتمالات حافة الهاوية تلك، تمثل باقتراب القوات اليمنية المشتركة من مدينة نجران، بعد اقتحام اليمنيين موقع قيادة الفواز المطل على المدينة السعودية، وكذلك سيطرتهم على التلال المجاورة لموقع قيادة الفواز. وقد حصل هذا في إطار عملية عسكرية تقول القوات المشتركة إن الغاية منها تكمن في استكمال السيطرة على مواقع الشرفة وتبة القناصين، المقابلة مباشرة لمدينة نجران. وهي عملية تعد أكثر نجاحاً، برغم تعقيدها، من عمليّة «تحرير» صنعاء، التي تشنها على الطرف البعيد الآخر من الحدود قوات عاصفة «الحزم» وقوات الرئيس عبد ربه منصور هادي منذ بداية العام. حيث إن الأخيرة تبدو أشبه بحدث عسكري يومي، يتسم برتابة خطوط التماس في منطقة نهم، في ظل عجز واضح عن التقدم. هكذا، يسعى الحوثيون وحليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى تكريس قاعدة «أطلال» نجران في مقابل «أطلال» صنعاء، مع أن نهم تبعد عشرات الكيلومترات عن العاصمة اليمنية.
تتطلب النتائج «الأوليّة» للحرب القائمة حالياً بين اليمن والسعودية، إلى جانب الحرب الأهليّة اليمنية (جنوباً وشمالاً)، طاولة مختلفة ومتجددة بشكل كامل عن تلك الكويتية التي افترض الجميع أنها ستكون مدخلاً للحل النهائي. علماً أن أي مسار سياسي سيتأثر بالضغوط الأميركية المفروضة على الرياض منذ آذار الماضي، في سبيل «لفلفة» الحرب اليمنية وإقفال ملفها وتعويض فاقد العضلات العسكرية المبذولة عليها في جبهات أكثر «نجاعة» من المنظور الأميركي. علماً أن الواقع الحالي، خاصة في الأسابيع الأخيرة، أثبت أن «معطيات» ما قبل المعركة من حسابات أوزان وفارق قوة، كان نتاجاً لعملية نظرية مرتكزة إلى «جردات» مخازن الأسلحة لدى الطرفين، من دون قراءة متأنيّة للحسابات «المصاحبة»، من عناصر بشرية وجغرافية وفارق خبرات، بل حتى تفوق عددي. ما يعني أن الحرب القائمة على «الاستفراد» بفصيل يمني «منقلب» على نظامه، لم تعد مجدية، وأن النديّة بما تعنيه من تخطٍ قسري لمرتكزات الرياض في الحوار، كالقرارات الدولية وما شاكل، أصبحت عناصر معطّلة للحل، لا العكس.
عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-