سياسة وأمن » تصريحات

هل تمارس الجزائر نوعاً من الوصاية على علاقات تونس بالخليج؟

في 2024/12/24

وجدان بوعبدالله \ البيت الخليجي للدراسات

 14 عاماً مرت على اندلاع شرارة الربيع العربي في تونس، تغير خلالها النظام السياسي التونسي بشكل جذري ومعه بعض أنظمة دول شمال أفريقيا والمغرب العربي تباعًا. عقد من الزمن راوحت فيه أولويات دول الخليج كذلك مكانها بعد أن عرفت أزمة غير مسبوقة على خلفية هذا الربيع بالذات.

وبسقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر، بعد صموده لأكثر من عقد، باتت معظم الدول الخليجية ومعها شمال أفريقيا متوجسة من أي حراك قد ينسف الاستقرار في المنطقة.

كان الربيع العربي محطة تاريخية فارقة في مسار العلاقات بين دول الخليج ودول شمال أفريقيا، إذ تباينت مواقف دول الخليج من الحراك الثوري في تونس. ففيما رحبت به قطر منذ اندلاعه، تصدت له الإمارات والسعودية والبحرين التي طالها الربيع ووصل الحراك إلى قلب الخليج.

التوجس من الربيع العربي لم يكن خليجيًا فحسب، فموقف الجزائر من ثورة تونس كان حازماً بعد أن عرفت حراكًا شعبيًا تحت حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة متأثرة بسقوط نظام زين العابدين بن علي.

ما تزال الجزائر، رغم تغير النظام الرئاسي، متوجسة من أي هبة تقع في الجوار، ولذلك، تمارس اليوم بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون ما يشبه الوصاية على تونس بحسب وصف الكثير من المراقبين وينعكس هذا على علاقات تونس بالخليج كذلك.

سوق عمل ضخمة

رغم تقلص الاستقطاب الخليجي في دول المغرب العربي بعد المصالحة الخليجية، إلا أن الخليج ما زال يمثل سوق العمل الأهم لسكان دول شمال أفريقيا، لا سيما الجزائر وتونس حيث ترتفع معدلات البطالة في صفوف الشباب وحاملي الشهادات العليا. كانت البطالة ولا تزال تهدد استقرار أنظمة الدول الهشة لا سيما الفقيرة منها، ومن بينها تونس.

ولئن مثل الخليج على مر العقود مُتنفسًا مهمًا لخلق مواطن العمل لآلاف الأسر المغاربية، إلا أن السياسة التي تربط الخليج بالمغرب العربي لم تكن يومًا مستقرة أو متشابهة من دولة إلى أخرى، ما جعل من هذه السوق بدورها محكومة بالمزاج السياسي ومنحنيات العلاقات.

انتعاشة فأزمة

ترتبط دول الخليج بعلاقات تاريخية بتونس والجزائر، لكنها لم تكن يوما متشابهة في القُطرين. عُرف عن بورقيبة علاقته الوثيقة والقديمة بالسعودية وصداقته بالملك فيصل بن عبد العزيز منذ كان وزيرًا للخارجية. بدأت الصداقة بين الرجلين في العام 1946 حين شارك بورقيبة إبان الاحتلال الفرنسي في العيد الرابع عشر لتأسيس السعودية في مقر البعثة السعودية في الولايات المتحدة. حافظ الرجلان على علاقات مميزة كللت بزيارة فيصل إلى تونس في العام 1966 بعد أن توج ملكًا، وعاد إلى تونس في زيارة رسمية ثانية في العام 1973.

يروي الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي في حوار مع قناة العربية أن بورقيبة زار السعودية في الخمسينيات من القرن الماضي قبل استقلال تونس ودعمه “ماليًا وسياسيًا” لدحر الاحتلال.

بقيت السعودية في صدارة قائمة أصدقاء تونس منذ ذلك التاريخ محافظة على روابط وثيقة باتت عرفًا في الدبلوماسية التونسية. لا ترتبط العلاقات الثنائية بالاستثمار فقط مثلما يظن كثيرون، صحيح أن الرياض تبقى المستثمر الخليجي الأول في تونس تليها الكويت، لكن ما يجمع البلدين يتجاوز الاختلاف الكبير في الأيديولوجيا ومراكز القوى.

لاحقا انضمت قطر إلى قائمة أصدقاء تونس في الخليج، لكن العلاقة توترت في عهد بن علي على خلفية التقارير الإعلامية لقناة الجزيرة، في المقابل حافظت تونس على علاقات وطيدة بالإمارات بعد أن ورث بن علي عن بورقيبة صداقته بالشيخ زايد.

فور قيام ثورة 2011، وحكم المنصف المرزوقي الذي تحالف مع الإخوان، باتت تونس أرضية للتنافس الخليج ومحاولات الاستقطاب بين قطر من جهة والإمارات من جهة ثانية.

تضاءل التنافس على تونس بعد المصالحة الخليجية، رغم اختلاف المواقف شأن حل البرلمان التونسي في العام 2021. وفيما رحبت السعودية والإمارات بالخطوة، تحفظت عليها قطر محتفظة بالود الذي كسبته بعد زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى الدوحة في العام 2020 بحثًا عن فرص للتعاون الاقتصادي.

وحتى بعد اعتقال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في العام 2023 لم تتدخل قطر على نحو مباشر.

يمثل نظام قيس سعيد بالنسبة للخليج، لا سيما بعد فوزه الكاسح وغير المفاجئ في انتخابات أكتوبر 2024، استمرارية ضرورية للاستقرار في شمال أفريقيا. فبين الاضطراب المهيمن على الأوضاع في الجارة ليبيا والقوة العسكرية الصارمة في الجزائر يحاول النظام التونسي المحافظة على تحالفاته، وإن بدا الاستقواء بالجزائر بينّا ومتصاعدًا.

علاقات غير متكافئة

لئن حافظ سعيد على علاقات معقولة مع الخليج، لا سيما السعودية والإمارات بعد انفراده بالحكم، إلا أنه لم يستفد من دعمهما المالي بعد سقوط الإخوان. وعلى النقيض، يشوب علاقة الجزائر بالإمارات توتر متصاعداً بلغ حد التلاسن وتبادل الاتهامات.

منح قيس سعيد النظام الحاكم في الجزائر ما لم يحصل عليه من أسلافه: تدخلاً مباشرًا في الشؤون الداخلية. فالزيارة التي أداها وزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار إلى الجزائر في أغسطس من العام 2023 لشرح خيارات تونس الخارجية قوبلت باستهجان سفراء تونس السابقين منتقدين تبعية النظام للجزائر وكأن تونس مطالبة بشرح علاقاتها بالخارج، وفي أي اتجاه تسير.

الغضب التونسي من “استصغار تونس” نما بشكل كبير بعد تصريح خبير جزائري سابق لقناة إماراتية قال فيه إن تونس ولاية جزائرية وكأنه ينطق بما يفكر به اللاوعي الرسمي الجزائري في تعامله مع تونس.

لم تكتف الرئاسة التونسية بالخروج عن العرف في قضية الصحراء الغربية، فاستقبلت زعيم البوليساريو أسوة بالجزائر، في سابقة تاريخية، بل استجابت في العام 2023 لطلب الجزائر باعتقال المعارضة الجزائرية أميرة بوراوي بعد أن عبرت الحدود التونسية خلسة، لكنها أفرجت عنها بعد ثلاثة أيام بطلب من فرنسا لكونها تحمل جواز سفر فرنسي الأمر الذي أغضب الجزائر، وكلف وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي منصبه، فأقيل بعد يوم واحد من الحادثة التي شكلت سابقة في الدبلوماسية التونسية.

تدخل تبون في الشأن التونسي لم يكن خفيًا، حتى في لقائه بمسؤولين أوروبيين كان يسمح لنفسه بالحديث عن تونس وكأنه يمنحها صك ثقة. لقاؤه في العام 2022 بالرئيس الإيطالي شمل الحديث عن “استعداد الجزائر وإيطاليا على مساعدة تونس للخروج من المأزق”.

الجزائر ودول الخليج

على غرار تونس، استفادت الجزائر حين كانت تحت وطأة الاحتلال الفرنسي من دعم السعوديين، ودعمت الرياض الثورة الجزائرية منذ اندلاعها في العام 1954، وتبنت القضية الجزائرية، وعرضتها أمام الأمم المتحدة في العام 1956.

توترت العلاقات بين الرياض والجزائر بعد غزو الكويت في العام 1990 وعدم تنديد الجزائر بالاحتلال العراقي. من جانبها، عارضت الجزائر تدخل الناتو في ليبيا في العام 2011 لإسقاط نظام معمر القذافي، ولامت الخطوة الخليجية الداعمة للأطلسي.

من نقاط الخلاف الكبيرة بين الجزائر ودول الخليج ملف الصحراء الغربية، إذ لم تنجح الجزائر في استمالة دول الخليج لتغيير موقفها، فقد أكد مجلس التعاون الخليجي في أكتوبر 2024 في الكويت بأن قراراته ثابتة بشأن مغربية الصحراء وأمنه.

قطريًا، ورغم الانزعاج من قناة الجزيرة، تحافظ الجزائر على علاقاتها بالدوحة مستفيدة من مخططات قطرية للاستثمار السياحي على الشريط الساحلي الجزائري وصناعة الدواء وإنتاج الأسمدة وتجفيف الحليب.

لكن كيف تبدو العلاقة بين الجزائر وأبوظبي؟

كانت العلاقات بين الجزائر والإمارات في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة متزنة وجيدة، ساب هذه العلاقات التوتر منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى الحكم بسبب الموقف الإماراتي الداعم لمغربية الصحراء الغربية وتطبيع المغرب مع إسرائيل وانضمامها إلى معسكر الإمارات المتقارب مع إسرائيل أو ما يعرف باتفاقيات أبراهام، تبع ذلك فتح الإمارات قنصلية لها في منطقة العيون بالصحراء الغربية.

تغيب الرئيس الإماراتي عن القمة العربية في الجزائر في العام 2022 في تأكيد صريح على توتر العلاقات، وأصدر وزير النقل الجزائري نهاية نوفمبر 2024 تحذيرًا لمسؤولي البلاد من المرور بمطارات الإمارات وأجوائها وفق ما نشرته صحيفة العربي 21 في ديسمبر 2004 وهو منع يلخص ذروة التوتر بين البلدين.

واتهمت جهات جزائرية أبو ظبي بمد الرباط بأجهزة تجسس على الجزائر واختراق هواتف مسؤولين وصحفيين. ولأن الإعلام العمومي يلخص المزاج العام للنظام، اتهمت الإذاعة الجزائرية في ديسمبر 2023 الإمارات بتمويل حملات هدفها تشويه دور الجزائر في الساحل الأفريقي وإفساد العلاقات بين الجزائر ومالي والنيجر. وكانت مالي قد انسحبت بالفعل من اتفاقية الجزائر مطلع هذا العام متهمة الجزائر بالتدخل في شؤونها وبدعم الجماعات المسلحة الانفصالية.

اتهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في أبريل 2024 دولة عربية لم يسمها بتوظيف أموالها “في بؤر التوتر في العالم” في إشارة إلى الإمارات. وقال تبون “في كل الأماكن التي فيها تناحر دائما مال هذه الدولة موجود. في الجوار، مالي وليبيا والسودان. نحن لا نكن عداوة لأحد، لأننا محتاجون إلى الله -عز وجل- وإلى الجزائري والجزائرية. نتمنى أن نعيش سلميا مع الجميع، ومن يتبلى علينا فللصبر حدود”.

فهم الجميع هذا الإيحاء بأن الدولة المقصودة هي الإمارات. وفي يونيو 2024 التقى تبون برئيس الإمارات محمد بن زايد على هامش قمة الدول الصناعية السبع في إيطاليا، ظهر بن زايد يهمس في أذن تبون والأخير يشد على يده.

لكن التصعيد سبق هذه الحادثة، في العام 2022 عارضت الإمارات تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم مبعوثا أمميًا إلى ليبيا خشية تحقيق تقارب بين السعودية ومصر من جهة والجزائر من جهة أخرى. ويلخص الخلاف بشأن تعيين بوقادوم تناقض الموقفين الإماراتي والجزائري من السلطات الحاكمة في ليبيا، فأبوظبي تدعم المشير خليفة حفتر فيما تدعم الجزائر حكومة الوفاق السابقة.

تلقف الإعلام الجزائري هذا الخلاف، فنشرت جريدة الخبر في ديسمبر 2023 تقريرا عنوانه “الشر القادم من الإمارات إلى الجزائر والسودان” وسط حديث عن تدفق المخدرات من ليبيا إلى الجزائر تحت مظلة إماراتية.

ورغم الاتصال الإماراتي لتهنئة تبون بإعادة انتخابه رئيسا للجزائر في سبتمبر الماضي لم تهدأ النزاعات، بل شنت الصحافة الجزائرية هجومًا على الإمارات، ووصفت صحيفة الخبر السفير الإماراتي بأنه شخص غير مرغوب به، بل “شرير” متهمة أبوظبي بالتآمر.

اللافت أنه ورغم الصدع السياسي والدبلوماسي، تحافظ الإمارات على موقعها في الجزائر كأول مستثمر خليجي بحجم استثمارات يبلغ 661 مليون دولار في مجال تجميع العربات العسكرية والطاقة.

تدخل لطيف

مارست الجزائر بحكمها العسكري القوي، ضغوطا واضحة على تونس عبر التدخل في شؤونها الداخلية، رغم تأكيد تبون أن بلاده “تتدخل بلطف بين الفرقاء في تونس دون انحياز لطرف معين”. ومارست الجزائر ضغوطًا أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية ترجمها استقبال زعيم جبهة البوليساريو في تونس والحديث في روما عن حماية تونس. لا يتردد تبون في التصريح بأنه يسعى إلى أن لا تنهار الدولة في تونس وكأنه يقدم نفسه كجدار منيع يمنع هذا السقوط مستشعرا “الامتداد الأمني بين تونس والجزائر” وتبادل “إيقاف الإرهابيين بين البلدين” بما يوحي بشكل واضح إلى تفوق قوة الجزائر العسكرية.

هذه السطوة لا يمكن أن تكون منعزلة عن الإطار العام للعلاقات بين تونس والخليج، رغم اختلاف الأجندات والمصالح والمزاج العام في البلدين. بقي أن ننتظر في قادم الأيام كيف سيكون لسقوط نظام الأسد أثره في المنطقة برمتها بعد تحلل التحالفات القديمة.