سياسة وأمن » تصريحات

السياسة الخارجية العمانية وسط منطقة تموج بالتفاعلات

في 2015/11/25

السيد عبد العليم- الوطن العمانية-

يقوم الفكر السياسي للقيادة السياسية على مرتكز أساسي وهو أنه لمواجهة أية تحديات خارجية لا بد بداية من التصدي للتحديات الداخلية الأكثر صعوبة من الخارجية، ويتمثل ذلك في توحيد الجبهة الداخلية وجعل المواطنين يصطفون على قلب رجل واحد تحت قيادة واعية تستطيع أن تعبر بهم أمواج البحر العاتية، فتوحيد الجبهة الداخلية وثقتها في قيادتها هو أهم مقوم للنجاح الداخلي والخارجي.

أحد تعريفات السياسة الخارجية أنها مجموعة الأفعال وردود الأفعال التي تقوم بها الدولة في البيئة الخارجية بمستوياتها المختلفة، سعيًا لتحقيق أهدافها والتكيف مع متغيرات هذه البيئة. أي أنها خطة أو استراتيجية علنية تحكم عمل الدولة مع العالم الخارجي بما تملكه من مبدأ السيادة والإمكانيات المادية والعسكرية. وتتمثل أهم أهدافها في الحفاظ على أمن واستقرار وسلامة الدولة وتحقيق التنمية الاقتصادية وحماية مصالحها الوطنية وأمنها الداخلي وازدهارها الاقتصادي، وتعزيز هيبة ومكانة الدولة في المجتمع الدولي بتحقيق صور إيجابية لها. وتحاول الدولة تحقيق ذلك عبر التعاون السلمي مع الأمم الأخرى أو عبر الحرب والعدوان والاستغلال للشعوب الأخرى، ويتولى تحديد السياسة الخارجية وإرساء مبادئها قائد البلد. وهناك خمسة عوامل محددة للسياسة الخارجية قي أي دولة وهي: الموقع الجغرافي، وعدد السكان، والموارد الطبيعية، والقوة العسكرية والمعنوية، وأخيرا النظام الداخلي للدولة. وتخضع السياسة الخارجية لتفاعل فريد من نوعه ألا وهو التفاعل بين البيئة الداخلية والخارجية وما يحتويه ذلك التفاعل من ضغوط مختلفة ومتعارضة. وتتغير السياسة الخارجية للدول وتتكيف باستمرار مع التغييرات الخارجية والداخلية على حد سواء. وكلما تقاعست الدول في تكييف سياساتها الخارجية مع التغييرات البيئية المحيطة، كلما زادت الفجوة التي تفصلها عن العالم الخارجي، الأمر الذي يضفي سمة العزلة أو الشذوذ عما هو مألوف في إطار الجماعة الدولية. وتقوم السياسة الخارجية على التخطيط الذي يمكن الدولة من توقع التطورات المستقبلية وتوفير الأدوات اللازمة للتعامل مع تلك التطورات، ومن ثم فهو يقلل من حالة عدم اليقين التى تميز السياسة الخارجية بحيث لا يفاجأ صانع السياسة الخارجية بمواقف جديدة ليس مستعدا للتعامل معها.

وبتطبيق ذلك على السلطنة، فإن المتابع للسياسة الخارجية العمانية منذ انطلاق النهضة الحديثة يقف منبهرا أمام تلك القدرة غير العادية في إدارة علاقات الدولة بمحيطها الجغرافي والإقليمي والدولي. ذلك الإطار الذي شهد ويشهد الكثير من الأزمات وعدم الاستقرار ومحاولات الاستقطاب. وفي كل الحالات نجد موقفا واضحا ومميزا للسلطنة من تلك المشاكل والأزمات. حيث لم تتخذ السلطنة موقفا متسرعا أو متشنجا من أي أزمة تندلع أو تنساق مسرعة إلى دعاوي غير مدروسة بإقامة تحالفات معينة موجهة. ومرد ذلك هو وعي صانع السياسة بطبيعة الشخصية العمانية والدراسة العميقة لتاريخ البلد وجغرافيتها، وإدراك الإمكانيات المتاحة ومدى القدرة وبأي طريقة يمكن التأثير على الغير بغية تحقيق الأهداف المرجوة.

يقوم الفكر السياسي للقيادة السياسية على مرتكز أساسي وهو أنه لمواجهة أية تحديات خارجية لا بد بداية من التصدي للتحديات الداخلية الأكثر صعوبة من الخارجية، ويتمثل ذلك في توحيد الجبهة الداخلية وجعل المواطنين يصطفون على قلب رجل واحد تحت قيادة واعية تستطيع أن تعبر بهم أمواج البحر العاتية، فتوحيد الجبهة الداخلية وثقتها في قيادتها هو أهم مقوم للنجاح الداخلي والخارجي. ويتأكد هذا الأمر في الوقت الحالي بشكل كبير، حيث وسائل الاتصال الحديثة جعلت بلدان العالم على علم تام بأحوال شعوب البلدان الأخرى. فعندما يكون هناك مثلا اضطرابات وانقسامات داخلية وعدم اصطفاف وطني لا يكون هناك تقدير من دول العالم لتلك البلد حتى لو قام زعيمها بجولات خارجية عديدة، حيث تكون النظرة إلى ما يجري داخل ذلك البلد وليس إلا شخص الزعيم الزائر. فالوحدة الداخلية والاستقرار يمثل رصيدا كبيرا في علاقة الدولة بالدول الأخرى. وهذا ما دأب قائد البلاد على إنجازه منذ اليوم الأول لتولي الحكم في السلطنة. فوحد العمانيين على أساس من التسامح المجتمعي وعلى أساس المساواة أمام القانون.

ثم كانت الدراسة المتعمقة من جانب القائد لتاريخ بلده وكيف واجه أسلافه مثل تلك الأوضاع التي يكون فيها التحديات هائلة داخليا وخارجيا. وكيف ارتبط تاريخ عمان الممتد بمراحل من الازدهار الداخلي والخارجي ومراحل من التراجع. وميزان ذلك يتوقف على توحد العمانيين. فما توحد العمانيون إلا وشهدوا ازدهارا داخليا قويا انعكس على علاقاتهم الخارجية. فلم تكن عمان امبراطورية وذات أسطول يجوب بحار ومحيطات العالم إلا عندما كان أبناؤها متحدين. وما تراجعت عمان وتعرضت للاحتلال وإلا وكان أبناؤها منقسمين على أنفسهم ومتصارعين. فكانت الفكرة الرئيسية للقيادة أنه إذا كان على هذا البلد أن يخرج من عزلته وينهض، فعليه أولا أن يوحد أبناءه لأن هذا هو أساس قوتهم الحقيقية.

ثم إدراك القيادة التام لبقية المحددات الرئيسية الأخرى للسياسة الخارجية، فبعد تماسك أبناء البلد، كان هناك إدراك لطبيعة الموقع الجغرافي الفريد للسلطنة من حيث امتدادها الساحلي على بحر العرب والخليج العربي، ووجود أهم ممر بحري في العالم وهو مضيق هرمز الذي تشرف عليه السلطنة والذي يربط منطقة الخليج الغنية بالنفط بالعالم الخارجي، حيث تمثّل حلقة الوصل بين بلدان الشرق الأوسط ودول شرق آسيا، وتعد البوابة الاقتصادية الرئيسية لمعظم سفن الخليج العربي. ومن ثم محيطها الإقليمي الذي طالما عانى من التوترات وعدم الاستقرار. وكان المنطلق في ذلك هو ترسيم حدود السلطنة مع جيرانها وجوارها والتي كان أحدثها ترسيم الحدود البحرية مؤخرا مع إيران، حيث تم كل ذلك بطريقة سلمية مدروسة وحكيمة.

ونعرض هنا بعضا من التطورات في المنطقة التي تظهر الحنكة السياسية للقيادة ومدى حرصها على مصلحة شعبها الذي يمثل القاصم المشترك في كل تفاعلاتها مع الأزمات التي تعرضت لها المنطقة، حيث لم تتخذ مواقف متسرعة من أنظمة حكم معينة ولم تنظر إلى خلفية تلك الأنظمة أو القيادة فيها ويظهر ذلك بجلاء في علاقات السلطنة بمصر أكبر البلدان العربية. فعلاقات السلطنة بمصر علاقات متينة ومتميزة على مرور الزمن، حيث كانت علاقات السلطنة بمصر قوية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وعندما سلك السادات طريق الحل السياسي فيما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي أدركت السلطنة أن ذلك هو اختيار القيادة في مصر وأنه ربما راجع لمقتضيات المرحلة ولمصلحة وقتية تدفع في هذا الاتجاه، فكان تفهم القيادة لذلك، الأمر الذي جعلها تتخذ موقفها المغاير لكثير من الأنظمة العربية عندما أبقت على علاقتها بمصر بينما قطع أغلب البلدان العربية علاقاتها بها. ثم تبين لتلك البلدان أن موقف السلطنة كان واقعيا فأعادت كل تلك البلدان علاقاتها فيما بعد بمصر. ثم كانت علاقاتها القوية بمصر خلال حكم الرئيس حسني مبارك، ثم المجلس العسكري بعده ثم الرئيس محمد مرسي ثم حاليا مع الرئيس عبدالفتاح السياسي. حيث لم تنظر إلى خلفية أي رئيس من هؤلاء ولم تتخذ موقف من هذا مغاير لهذا بل إنها في النهاية تتعامل مع الواقع القائم في مصر. وهذا الموقف يجعلها محل تقدير من قبل المصريين باختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية، لأنها تأخذ موقفا متزنا تنظر فيه إلى مصر ومصلحة مصر في الأساس.

كما كان موقف السلطنة المتميز خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، حيث كانت في وضع تحسد عليه. فالعراق بلد عربي شقيق وإيران دولة مجاورة. فكان الموقف السياسي أشبه بالسير على الأشواك. وبالفعل لم تقطع السلطنة علاقاتها بأي من الطرفين، واحتفظت بعلاقتها معهما. بشكل يصعب على الكثيرين تحقيقه.

ثم جاءت الأزمة السورية ليكون للسلطنة فيها موقف مميز، حيث لم تقطع السلطنة علاقاتها بسوريا على غرار كثير من البلدان العربية. ووقفت جاهدة ضد قرار جامعة الدول العربية بقطع العلاقات وسحب السفراء. وانتقدت القرار ورأت أنه خاطئ ولا يساعد على حل الأزمة. ولم تسحب سفيرها لأسباب سياسية بل سحبته لدواعٍ أمنية. والآن بدا يظهر لعدد من البلدان العربية أن قرار السلطنة كان هو القرار الصائب بعدم سحب السفراء، فأعاد عدد من تلك البلدان علاقاته بدمشق. واللافت في ذلك أن أطراف الصراع الرئيسية في سوريا تقدر كلها السلطنة ويظهر ذلك في زيارة وزير الخارجية السوري للسلطنة وزيارة معالي يوسف بن علوي الوزير المسئول عن الشئون الخارجية لدمشق، ثم زيارة رئيس الائتلاف الوطني للمعارضة السورية خالد خوجة لمسقط مؤخرا. وذلك لأن علاقات السلطنة قائمة مع كل الأطراف ومحل تقدير من كل الأطراف.

ثم كانت واحدة من القضايا الصعبة أمام الدبلوماسية العمانية والتي تمثلت في الموقف المتوتر بين إيران والولايات المتحدة على خلفية البرنامج النووي الإيراني. حيث وصلت حالة التوتر إلى تخوف من نشوب حرب في المنطقة. وبإدراك السلطنة لقوة ايران بوصفها قوة إقليمية صاعدة وجارة. ثم النظر في نفس الوقت إلى الولايات المتحدة بوصفها القوة العالمية الأولى. فكانت السلطنة في وضع بالغ الصعوبة في اتخاذ موقف في ظل تلك العلاقات المتوترة، والتي كان يمكن أن يكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة ويأتي في مقدمتها إمكانية التهديد بغلق مضيق هرمز، وهو الأمر الذي لم نسمع عنه برغم تزايد التوترات، وذلك بفضل الحنكة السياسية العمانية التي بدأت بمحاول جس النبض وتخفيف حدة التوتر من خلال عمليات الإفراج عن مواطنين أميركيين محتجزين في إيران فتواصلت مع القيادة الإيرانية وعملت على الإفراج عنهم, فكان ذلك بمثابة اختبار للثقة في السلطنة من جانب الأطراف. ثم انطلقت في مسار تخفيف التوتر بين الطرفين ومحاولة جسر الهوة والتقريب بين وجهات النظر في قضية من أصعب القضايا الدولية. فكانت ثقة الجانب الإيراني الذي طلبت القيادة العليا فيه من الجانب العماني السعي لايجاد حل سياسي. ثم كان التقاط الدبلوماسية العمانية بصيص أمل تمثل في وصول الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما للسلطة، حيث لمست لديه الرغبة في ايجاد حل سياسي للملف النووي الإيراني، فدخلت السلطنة بثقلها كوسيط بين الطرفين بحكم الثقة التي أولاها الطرفين لها ولقيادتها الحكيمة، فتكلل ذلك بالتوقيع على الاتفاق النووي مؤخرا، ليمثل ذلك إنجازا حقيقيا للسياسة الخارجية للسلطنة.

ثم جاءت الأزمة اليمنية وكان موقف السلطنة فيها هو السعي الدؤوب إلى منع نشوب الحرب من الأساس ثم السعي الجاد لوقف تلك الحرب التي تدمر اليمن. واللافت هنا أيضا أن يقدر طرفا النزاع في اليمن دور السلطنة وجهودها، ومن ذلك شكر الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وتقديره للسلطنة ولا سيما أن خروجه من اليمن إلى السعودية تم عبر السلطنة. ثم يأتي تقدير دور السلطنة من قبل زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي في رسالة شكر للسلطنة. فضلا عن زيارة الوفد الحوثي للسلطنة وسعي السلطنة إلى دفع الأطراف اليمنية إلى الحوار من أجل التوصل إلى اتفاق سلام ووقف الحرب وإنهاء معاناة اليمنيين.

وفي كل ذلك يظهر مدى حكم وعقلانية القيادة العمانية في اتخاذ قراراتها ومواقفها، والبعد عن التسرع والاندفاع في المشاركة في تحالفات حسب أهواء البعض تضر ولا تنفع تقوم على دعاوي لا تلتفت إليها السلطنة من قبيل الخلافات المذهبية وغير ذلك. وذلك أن نظرة القيادة تركز على الإنسان بغض النظر عن انتماءاته الدينية أو المذهبية أو العرقية. أو الوقوف مع طرف في نزاع ضد طرف آخر ومساعدته بالمال والسلاح كما يقوم البعض. فكما تقدر القيادة في السلطنة مواطنيها على أرضها تقدر مواطني البلدان الأخرى وتنظر إلى مصلحتهم بوصفهم بشرا وإخوة في الإنسانية. وقد انعكس كل ذلك على مصلحة المواطن العماني في النهاية حيث يرفل بالأمن والاستقرار والرخاء. وهذا أحد أوجه النجاح الحقيقي للقيادة الحكيمة.