سياسة وأمن » لقاءات

السودان: تحوّلات في المشهد السعودي؟

في 2016/11/15

رغم أنّ خلوة الشيخ الكباشي، أحد قيادات الطرق الصوفية في السودان، اعتادت على أناشيد الأذكار وضرب النوبات حيث يتحلق المريدون حول الشيخ، إلّا أنّ جمعة الأسبوع الثالث من تشرين الأوّل / أكتوبر الماضي كانت مختلفة، إذ استقبلت ضيفا هو خالد الغامدي إمام الحرم المكي ومعه مجموعة من العلماء السعوديين والسفير السعودي في الخرطوم.
أثارت الزيارة الدهشة، وأدى تكرارها مع قيادات صوفية أخرى إلى تعزيز الانطباع أنّ الرياض تبعث رسائل أنّها قد تكون على طريق تبني خطاب ديني جديد يسعى إلى لمّ شمل أهل السنة، وإضعاف الأسلوب التكفيري للمخالفين في الرأي والممارسة. فالمنهج السلفي الوهابي الذي تعتمده السعودية يتصادم مع ممارسات الصوفية السائدة في السودان (وفي سواه). وأصبحت الملاسنات التي تجري بين بعض الشخصيات المنتمية إلى الصوفية و "جماعة أنصار السنة المحمدية" ذات المرجعية الوهابية ملمحاً ثابتاً في بعض المناسبات مثل الاحتفال بالمولد النبوي، وهي ملاسنات وصلت أحياناً إلى مرحلة الاشتباك، مع سعي جماعة أنصار السنة إلى وقف ما يعتبرونه ممارسات ذات ملامح شُركية. ولهذا لفتت الأنظار زيارة الغامدي إلى الشيخ عبد الوهاب الكباشي، حيث قوبل بالطبول والأذكار وإنشاد المدائح النبوية في حفل استمر من الرابعة بعد الظهر إلى حوالي العاشرة مساء، وأمّ الغامدي خلاله جموع المصلين في صلاتي المغرب والعشاء.

من على البعد: غروزني

هذه الزيارة قد تكون أحد ردود الفعل السعودية على حدث آخر اكتمل قبل شهرين، وعلى الرغم من انعقاده في منطقة طرفية على بعد آلاف الكيلومترات، إلّا أنّ الرسالة التي وجهها كانت شديدة الوقع على الرياض. والمقصود "مؤتمر أهل السنة والجماعة" التي عقد في غروزني في الشيشان، وزعيمها رمضان قديروف، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. البيان الختامي للمؤتمر الذي قيل إنّ أصابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تكن بعيدة عنه، خاصة أنّه هو الذي افتتح المؤتمر، قام بتعريف لأهل السنة والجماعة وحددهم بالآشاعرة والماتريدية وأهل المذاهب الأربعة والتصوف الصافي علماً وأخلاقاً، مستثنياً بذلك الوهابية. وفي إشارات لا تخلو من مغزى، تحدّث ذلك البيان عن الفكر المنحرف والسلفية التكفيرية.
مثل هذه المؤتمرات كانت تعقد في الغالب بمبادرة سعودية ومشاركة وتمويل كبير من قبل الرياض، وهو ما لم يحدث هذه المرة، إذ شارك حوالي مئتان من علماء المسلمين من مختلف أنحاء العالم. وإلى جانب الغياب السعودي، كان لافتاً الحضور المصري الكبير الذي شمل شيخ الأزهر أحمد الطيب ومفتي مصر شوقي علّام ومستشار الرئيس السيسي أسامة الأزهري، إلى جانب مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة، الأمر الذي يصوغ رسالة سياسية لا تخطئها العين.
التطور الذي يثير الانتباه في بيان مؤتمر غروزني أن تأتي هذه الضربة من مجموعات سنية في الوقت الذي تخوض فيه الرياض معارك ديبلوماسية وعسكرية وإعلامية وأيديولوجية مع الشيعة. وهو ما يشير إلى فتح جبهة ثانية جديدة مع مجموعات سنية. وفي الإيديولوجيا كما في القضايا السياسية والعسكرية، فإنّه من الخطورة والصعوبة بمكان العمل على جبهتين في وقت واحد. وهذا فيما يبدو أحد الأسباب التي دفعت إلى خطوة زيارة السودان والتواصل مع بعض قيادات الطرق الصوفية تحت اللافتة الكبيرة لتوحيد المسلمين وأهل القبلة.
للصوفية تاريخ متجذّر في السّودان، خاصة وقد أسهمت في نشر الإسلام في البلاد وأعطته ملامح يشير إليها البعض بعبارة "الإسلام السوداني"، وفيه قدر كبير من التسامح نتيجة لتفاعله مع البيئة المحلية. فتاريخ أسلمة السودان يرتبط بالهجرات من الجزيرة العربية عبر مصر وشرق السودان التي يعتقد البعض أنّ بداياتها تعود إلى فتح مصر في القرن السابع الميلادي، وربّما قبل ذلك، وخاصة بعد الاتفاقية التي أبرمها عبد الله بن أبي السرح مع دولة المقرّة المسيحية وعرفت بـ"اتفاقية البقط" وأحد أبرز بنودها السماح بحرية العبادة. وبسبب أنّ الحضارة الإسلامية كانت بازغة وقتها، فقد استطاعت طلائع العرب والمسلمين أن تخلق واقعاً جديداً أسهم في تسريع عملية الأسلمة والتعريب في السودان الشمالي، وهو ما تُوِّج بإقامة "سلطنة الفونج" في مطلع القرن السادس عشر إثر اضمحلال مملكتي "علوة" و"المقرّة" المسيحيتين. وفتحت دولة الفونج الباب واسعاً أمام المشايخ والأئمة الذين تبوأوا مكانة عليا في المجتمع وأسهموا في نشر مختلف ممارسات أهل الصوفية، ومن بينها الأذكار والطّبول، إلى جانب تعليم القرآن وأساسيات الدين.

ردود أفعال سلبية

زيارة العلماء السعوديين إلى بعض أقطاب الطرق الصوفية في السودان صحبتها ردود أفعال سلبية داخل المعسكر السلفي داخل السودان. فقد كتب الدكتور حسن الهواري رئيس المجلس العلمي لجماعة أنصار السنة المحمّديّة في السّودان منتقداً تلك الزيارة التي قال إنّها أثارت انقسامات في الصف السلفي، بل والصوفي كذلك.. مما يثير تساؤلات عن حقيقة خدمتها لهدف توحيد أهل القِبلة. وقام الهواري بتفصيل اعتراضاته إذ قال إنّ الزيارة لم تتم في مكان محايد وإنّما في مقر أحد أقطاب التصوف وفي "ساحته العامرة بمظاهر الشرك" كالقباب والأضرحة، كما خالطتها بعض "طقوس أهل البدع" مثل دق الطبول والأذكار، وتعظيم الشيخ بما لا يليق بالمخلوق.. وكل هذا مما يطعن في رسالة أهل السنة، خاصّة أنّهم طوال تاريخهم كانوا يتبنون موقفاً ناقداً لممارسات الصوفية هذه، وأنّه ربما كان من الأوفق أن يتم اللقاء في مكان محايد وبترتيب من طرف ثالث مستقل.
ويعتقد أن هذه الانتقادات تعكس بعض الآراء الناقدة لما جرى في المعسكر السلفي داخل السعودية نفسها. وفي الواقع فإنّ ما يجري هناك حالياً أصبح يثير بعض التساؤلات عن التحالف القائم بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية، وهو التحالف الذي شكّل إلى حدّ كبير أحد أسباب المشروعية السياسية للحكم في السعودية.
ففي إطار عمليات الإصلاح التي أعلن عنها، وأبرز ملامحها "رؤية 2030" لولي ولي العهد الهادفة بحسب إعلاناتها إلى تقليل اعتماد السعودية على النفط والقيام ببعض الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية، ومن بينها تحجيم سلطة المطاوعة، أو "جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في فرض القانون والنظام وفق رؤيتهم. وهم كانوا يتمتعون في السابق بسلطة تنفيذية تشمل حق التوقيف، الأمر الذي جعلهم قوة مهابة. وصعود هذه المجموعات الأخيرة يعود إلى سبعينيات القرن الماضي إثر احتلال الحرم المكي من جهيمان العتيبي. رد الفعل الحكومي تمثل في التحالف مع هذا التيار وإطلاق يد هذه المجموعات مما أدى إلى بروز ما عرف وقتها بـ" حالة الصحوة" التي انتشرت ثم وجدت لها متنفساً في الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، مما فتح الباب أمام فكرة "الجهاد"، لتجد لها منفذاً على أرض الواقع. لكن احتلال العراق للكويت وتهديده للسعودية في مطلع تسعينيات القرن الماضي دفع الأخيرة إلى الاستعانة بالولايات المتحدة الأميركية لتنقل التناقض الثانوي بين الحكم في السعوديّة وقطاعات من أهل الصحوة بقيادة أسامة بن لادن إلى مرتبة أعلى، أدت فيما أدت إليه إلى أن أصبحت السعودية نفسها ساحة من ساحات القتال ضد هذه المجموعات التي صنفت رسمياً كإرهابية.
هذه التحولات في علاقات نظام الحكم بالمؤسسة الدينية تأتي في وقت صعب، إذ تتزامن مع تراجع ضخم في إيرادات الدولة بسبب التدهور في أسعار النفط العالمية، مما دفع إلى القيام ببعض الإجراءات القاسية مثل تقليص الإنفاق الحكومي ورفع كلفة بعض الخدمات، الأمر الذي أثّر على قدرة الحكومة على الإنفاق وبالتالي وضع على المحك أحد ركائز المعادلة السعودية وهي "دولة الرعاية". ويبقى مهمّاً مراقبة إذا ما كانت المؤسسة الدينية ستقبل بدور متناقص، وإذا كانت الأسرة المالكة ستتمكن من إيجاد بديل شعبي لرجال الدين قادر على استيعاب التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الساحة السعودية بحلول الجيل الثاني من أبناء الأسرة في الحكم.

السر سيد أحمد - السفير العربي-