محمد المنشاوي- الجزيرة نت -
في مفاجأة من العيار الثقيل، خرج علينا أحد مستشاري حكام دولة الإمارات مغردا بأن «التاريخ سيذكر أن دولة خليجية كان لها دور ما في طرد وزير خارجية دولة عظمى (يشير إلى إقالة ريكس تيلرسون)، وهذا قليل من كثير».
ويثير هذا الموقف الشفقة، ويعكس جهلا كبيرا بتفاصيل الحياة السياسية الأمريكية، وتعقيدات واشنطن التي يصعب على الكثيرين فهمها.
وقبل ذلك جاءت أخبار الكشف عن شخصية المواطن الأمريكي ذي الأصل اللبناني «جورج نادر»، ودوره في موضوع التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية؛ لتعيد تسليط الضوء مجددا على أنشطة الإمارات بواشنطن، وكيفية رؤية قيادتها، ممثلة في ولي عهدها «محمد بن زايد» لدورها ومكانتها، وإلى أي مدى فشلت هذه الرؤية مع استمرار كشف تفاصيل تخرج عن نصوص التقاليد الدبلوماسية المتعارف عليها في واشنطن.
دور واشنطن المزدوج
تلعب واشنطن دورا فريدا ومزدوجا في الشؤون العالمية؛ فمن ناحية هي العاصمة الأهم في عالم اليوم، ويحدد موقفُها من أي قضية مواقفَ بقية دول العالم باستثناءات قليلة، لكن طبيعتها السياسية وإجراءاتها القانونية تسمح أيضا ببقائها مدينة مفتوحة، يمكن التنافس فيها على التأثير في القرار الأمريكي تجاه قضايا عالمية كثيرة، عبر شرعنة ظاهرة اللوبي والعلاقات العامة.
فقد سمح مبدأ الفصل بين السلطات بانتشار مراكز قوى مختلفة (مثل البيت الأبيض، والكونغرس، ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وغيرها)، وأوجد ذلك بالتالي مساحات واسعة للتأثير على عملية صنع السياسة الخارجية المعقدة، حال فهم طبيعة العاصمة واشنطن وحدود التحرك داخلها.
ولفهم سلوك الإمارات في واشنطن؛ علينا العودة أولا إلى عام 2006 عندما أدركت أبوظبي وزنها الحقيقي حين تعلق الأمر بقضية جادة، وذلك إثر فشل محاولة شركة مجموعة موانئ دبي العالمية شراء حقوق إدارة ستة موانئ أمريكية، فخرج أعضاء الكونغرس الجمهوريون والديمقراطيون يعلنون رفضهم الصفقة، إذ لم يكونوا نسُوا بعدُ وجود شابيْن إماراتييْن ضمن الـ19 إرهابيا ممن قاموا بأحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية.
من هنا ظهر رفض تام لنقل حق إدارة الموانئ المذكورة إلى الشركة الإماراتية، ووقف اللوبي الإماراتي عاجزا عن المواجهة أو الرد، ومنذ ذلك الوقت صمّمت أبوظبي على ضرورة الوجود المكثف بواشنطن، وتعاقدت مع عدة شركات لوبي وعلاقات عامة مختلفة، وأدركت أن الدخول المؤثر في واشنطن ينبغي أن يمر عبر البوابة الإسرائيلية.
وكان تعيين السفير «يوسف العتيبة» سفيرا للإمارات في واشنطن منتصف 2008 بمثابة البداية الحقيقية للسعي الإماراتي للوجود المؤثر بواشنطن.
وبالفعل نجح «العتيبة» في تأسيس وجود ملموس في واشنطن عبر استراتيجية مركّبة، لخدمة أهداف أبوظبي العاجلة والأهداف المتوسطة والطويلة المدى (3-10 سنوات)، واختار «العتيبة» أهدافا سهلة التحقيق بمعايير واشنطن، وجاء ذلك مع بدء إرهاصات الربيع العربي عام 2011.
ملامح التحرك الإماراتي
انصبّت التحركات الإماراتية داخل واشنطن على اختيار أهداف سهلة التحقيق يمكن تلخيصها كالتالي:
1- إفشال الربيع العربي، والدفع نحو رفض الديمقراطية العربية والحريات والتنوع السياسي.
2- إفشال أي جهود لتحسين العلاقات الأمريكية مع إيران.
3- تشويه وشيطنة قوى الإسلام السياسي، خاصة جماعة «الإخوان المسلمون» في دوائر واشنطن.
4- ادّعاء محاربة التنظيمات الإرهابية والأفكار المتطرفة بالترويج لدور الإمارات المزعوم في مواجهة تمويل الإرهاب والتطرف، والادعاء بإصلاح وتجديد الخطاب الديني.
وتسمح واشنطن لأي دبلوماسي عربي أو أجنبي بأن يستثمر علاقاته وأمواله للتأثير على موقف نُخَب واشنطن من قضية خارجية إقليمية تهم دولته، وله كذلك الحق في أن يغدق المال والرّشا المقننة لتحقيق أهدافه.
لكن هذا يجب ألا يجعلك تسيء الفهم فتحاول التأثير في اختيارات الناخب الأمريكي، أو أن تلعب دورا مشبوها في الانتخابات وما بعدها؛ وهذا ما قام به «يوسف العتيبة» و«محمد بن زايد».
أوجد «العتيبة» مجموعة من الحلفاء الذين يتبنون مواقف وسياسات الإمارات ويدافعون عنها، من منطلق تطابق أهدافهم الخاصة مع الأهداف الإماراتية السابق ذكرها، أو نتيجة إيمانهم بأن دولة الإمارات تقوم بهذه الجهود نيابة عنهم. وتكوّنت هذه الشبكة بصورة أساسية من:
- منظمات اللوبي الإسرائيلي المختلفة مثل منظمة «أيباك» وجماعات اليمين المتطرف الأمريكي (أقصى يمين الحزب الجمهوري).
- أشخاص من دائرة الرئيس «دونالد ترامب» أثّروا -بصورة مباشرة- على الرئيس «ترامب»، ودفعوه لقول ما قاله عن قطر في بدايات الأزمة الخليجية قبل التخلص منهم وطردهم من البيت الأبيض، ومن أهمهم «سباستيان جوركا» مستشار «ترامب» السابق لشؤون مكافحة الإرهاب والتطرف، و«ستيفن بانون» الذي كان أهم مستشاري «ترامب» وأُقيل من منصبه قبل شهور.
- مراكز أبحاث تقترب أهدافها من أهداف الإمارات مثل معهد هدسون ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات.
- أشخاص وجماعات معادية لإيران لأسباب مختلفة.
- جماعات وأشخاص يعادون فكرة وتطبيقات الإسلام السياسي.
- عدد غير قليل من أعضاء الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) ومن حزبيه (الديمقراطي والجمهوري)؛ وخاصة من أعضاء لجان فرعية متخصصة تركز على قضايا الأمن القومي.
- وسائل إعلام معروف عنها تبني نفس أهداف الإمارات لأسباب مختلفة، وهي مؤسسات يمينية محافظة مثل محطة «فوكس» الإخبارية وموقع «بريبارت».
وقد استخدم «العتيبة» مجموعة من الأدوات لتحقيق أهداف بلاده، منها:
أولا: التعاقد المباشر مع شركات علاقات عامة ذات خبرة ونفوذ في واشنطن، والاعتماد على شركات لوبي مؤثرة.
ثانيا: بناء علاقات جيدة مع مراكز الأبحاث عن طريق:
- تمويل برامج بحثية بصورة مباشرة، وتبني فعاليات وندوات ومؤتمرات في واشنطن وأبوظبي.
- خلق وتمويل وظائف بحثية في بعض المراكز، ودعم وتمويل بعض أعمال التوسع وتجديد المباني، ومن أهم هذه المراكز معهد الشرق الأوسط، ومركز السياسات الدولية والإستراتيجية.
- تأسيس مراكز أبحاث بصورة مباشرة تعمل بالطريقة الأمريكية وليس بالطريقة العربية، مثل معهد دول الخليج العربية.
- دعم برنامج بحثي في جامعة جورج واشنطن يختص بمكافحة الراديكالية، والخروج بمبادرات جذابة ترتبط بالأهداف السابقة، منها مبادرات «هداية» و«صواب» لمواجهة التطرف.
بين «بن زايد» و«ترامب»
يمتلك الرئيس «ترامب» علاقات متشعبة ومعقدة مع ولي عهد دولة الإمارات «محمد بن زايد»، وقبل سفره للرياض بأربعة أيام استقبله في البيت الأبيض بعدما ألحّ «العتيبة» على «غاريد كوشنر» (صهر «ترامب») طالبا اللقاء، واستغرب كثيرون أن يزور المسؤول الإماراتي واشنطن وهو سيلتقي «ترامب» بعد أيام أربعة في الرياض.
العلاقات قديمة بين «محمد بن زايد» و«ترامب» وفريقه؛ فقد كشفت صحيفة «واشنطن بوست» أن «بن زايد» رتّب اجتماعا سريا في يناير/كانون الثاني 2017 بين مؤسس شركة «بلاك ووتر» «إيريك برنس» (أخته بيتسي تعمل وزيرة للتعليم في إدارة «ترامب») ومسؤولين روس مقربين من الرئيس «فلاديمير بوتين» في جزيرة سيشيل، وذلك لإقامة خط اتصال خلفي بين موسكو والرئيس الأمريكي الجديد آنذاك.
أما «برنس» فهو يعرف «ترامب» منذ عقود، وله معه روابط مالية وتجارية متشعبة، إضافة إلى تبرعه هو وعائلته بملايين الدولارات دعما لحملة «ترامب» الانتخابية.
وقد بدأت خيوط هذه الترتيبات في الظهور مع محاولة «بن زايد» المجيء سرا إلى مدينة نيويورك، ليلتقي في «برج ترامب» مع ثلاثة من مستشاري «ترامب»، هم: «مايكل فلين»، و«غاريد كوشنر»، و«ستيفن بانون»، للاتفاق على تفاصيل الاجتماع.
وباءت محاولة «بن زايد» بالفشل في سفره السري إلى الولايات المتحدة والذي يمثّل خرقا للبروتوكول؛ إذ لم تُخطر الإمارات إدارة «أوباما» قبل الزيارة، رغم أن المسؤولين اكتشفوا ظهور اسم «بن زايد» في أوراق شركات الطيران بالمصادفة.
جدير بالذكر أن شركة «بلاك ووتر» هي الشركة الأمنية التي اقترفت جرائم لا تحصى في العراق، ثم غير مؤسسُها «برنس» اسمَها إلى «مجموعة الخدمات الحدودية»، وأبرم عقدا مع حكومة الإمارات قيمته 529 مليون دولار لجلب مقاتلين أجانب (أغلبهم من كولومبيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا)، ليصبحوا قوة شبه عسكرية قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية في دول كاليمن وليبيا، إضافة إلى مهام سرية وحماية منشآت الإمارات الحيوية من الهجمات الإرهابية.
وقد كشفت وسائل إعلام أمريكية شمولية تحقيقات التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية للبحث في احتمالات تدخل الإمارات لدى إدارة «ترامب»، مشيرةً إلى أن التركيز على «جورج نادر» يستهدف التحقيق في كيفية تأثير المال القادم من دولة صغيرة (الإمارات) على واشنطن في عهد «ترامب»، وما إن كان «بن زايد» نسّق ذلك مع «بوتين».
ولا تغفر أجهزة الاستخبارات الأمريكية محاولات اللعب والتأثير في مفاصل العملية السياسية الأمريكية الداخلية، ممثلة في انتخاباتها الرئاسية، ومن هنا يمكن أن نفهم فضح مسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لوقوف دولة الإمارات وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية، وهو ما أدى إلى اندلاع أزمة الخليج الحالية، على الأقل من الناحية الشكلية.
وفصّل مسؤولو استخبارات أمريكيون لصحيفة «واشنطن بوست» تفاصيلَ اجتماع مسؤولين كبار في الحكومة الإماراتية لمناقشة خطة قرصنة وكالة الأنباء القطرية في 23 مايو/آيار الماضي، أي قبل يوم من حادث القرصنة، وجليّ أن ذلك كان رد فعل محدودا من الاستخبارات الأمريكية على قيام «محمد بن زايد» برعاية اجتماع جزيرة سيشيل.
وفي النهاية؛ إذا تأكدت السلطات الأمريكية من سعي حكام الإمارات المباشر للحصول على نفوذ لدى البيت الأبيض مقابل تقديم دعم مالي لحملة «ترامب» الانتخابية خلال 2016، أو أن يكون هناك تنسيق بين أبوظبي وموسكو وحملة «ترامب»؛ فسيكون من الصعب على واشنطن أن تتجاهل هذا التدخل، ولذلك ستشهد العلاقات الثنائية بين البلدين تدهورا غير مسبوق.