حسين إيبيش- معهد دول الخليج العربي في واشنطن-
في 27 ديسمبر/كانون الأول 2018، أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، التي أغلقت لنحو 8 أعوام خلال الحرب الأهلية المريرة والدموية التي مزقت سوريا.
وسرعان ما أعلنت الكويت والبحرين أنهما سوف تحذوان حذوها. لكن هذه لم تكن سوى الحلقة الأكثر إثارة في سلسلة من التحركات الخليجية والعربية الأخرى لإعادة التواصل مع نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، مما يشير إلى بدء مرحلة جديدة في الصراع الإقليمي، الذي لا نهاية له فيما يبدو، في سوريا.
والآن، بدلا من السعي للتأثير على نتيجة الصراع، سيحتاج اللاعبون الخارجيون، مثل دول الخليج، إلى تحقيق مصالحهم سياسيا، وعبر الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية، مع التخلي الكامل عن أي عنصر عسكري.
ومنذ سقوط حلب في يد النظام، كان من الواضح أن دول الخليج لن يكون أمامها خيار سوى إعادة التعامل مع نظام "الأسد". لكن بإمكانهم محاولة تكرار النجاح النسبي الذي حققوه في العراق لتقويض الهيمنة الإيرانية عبر الإغراءات الإيجابية، مثل المساعدات المالية والتجارة والدعم السياسي، مع التركيز على إعادة دمج العراق وسوريا في المدار العربي الإقليمي من خلال التركيز على هويتهما وتراثهما العربي.
وفي حين قد يبدو الوضع الإيراني في معظم أنحاء العراق راسخا منذ بضعة أعوام، إلا أن إيران اليوم تكافح للحفاظ على نفوذها في الوقت الذي يتبنى فيه مختلف الوكلاء مواقف أكثر استقلالية. وكان تشكيل الحكومة الجديدة في العراق مقبولا، ولكن لم يكن مثاليا من وجهة النظر الإيرانية. ويبدو أن المصالح الأمريكية والخليجية استفادت بشكل أفضل نسبيا من إيران من التطورات السياسية الأخيرة في العراق.
وفي سوريا أيضا، هناك الكثير من الأمور للتعامل معها، لكن إعادة الارتباط مع نظام "الأسد" هو الدواء المر للعديد من العرب، بسبب مئات الآلاف من القتلى، والملايين الذين نزحوا - في المقام الأول- بسبب الحرب الوحشية التي شنها النظام معظم العقد الماضي.
بداية إماراتية
وليس من المستغرب أن تتولى الإمارات زمام المبادرة في إعادة التعامل مع الحكومة في دمشق. فلقد كانت الإمارات دائما أكثر تشككا من بعض شركائها من دول الخليج العربية في انتفاضات "الربيع العربي"، حتى عندما كانت تواجه أنظمة وحشية مثل تلك التي في سوريا وليبيا.
ودخلت قطر، على وجه الخصوص، في شراكة مع تركيا لدعم مجموعة من القوى المتمردة في سوريا، وخاصة الإسلاميين، وقامت السعودية بتمويل وتسليح جماعات أخرى، مثل القوات السورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، لكنها دعمت أيضا بعض الفصائل التي كانت إسلامية أكثر من اللازم بالنسبة للإمارات والولايات المتحدة أيضا. وعلى النقيض، عملت الإمارات بشكل أساسي مع العناصر التي تقودها الولايات المتحدة والأردن في جنوب سوريا، ونشطت بشكل كبير في العمل الاستخباراتي.
وبعد فترة ليست طويلة من سقوط حلب، أدركت الإمارات أن إعادة الارتباط مع دمشق كانت حتمية، وأنها الطريقة الوحيدة لدول الخليج وحلفائها لمتابعة مصالحها في بيئة ما بعد الحرب. ولكن ظل إسقاط "دولة الخلافة" التي أنشأها تنظيم الدولة مهمة رئيسية، ولهذا السبب ولأسباب أخرى، حثت الولايات المتحدة الإمارات على عدم إعادة فتح سفارتها في سوريا.
ومع ذلك، ومع قرار الولايات المتحدة المفاجئ بالانسحاب من سوريا، والذي ورد أنه بدأ بالفعل، اختفت الاعتراضات الأمريكية فعليا، وأعلنت الإمارات عن تحركها الدبلوماسي في نهاية ديسمبر/كانون الأول، وتلتها البحرين والكويت.
وكان قرار الإمارات نقطة تحول واضحة، لكن عملية إعادة الارتباط العربي مع نظام "الأسد" كانت قد بدأت بالفعل.
وفي وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول، أصبح الرئيس السوداني "عمر البشير" أول رئيس من الجامعة العربية يزور دمشق منذ 2011. وأعادت الأردن فتح العلاقات التجارية مع سوريا، واستأنفت تونس رحلاتها المباشرة إلى البلاد.
ولم تكن العديد من الدول العربية الكبرى قد قطعت العلاقة مع النظام السوري، ولا سيما مصر والجزائر. ووضعت الإمارات نفسها كأساس لإعادة التواصل خلال عام 2018، بما في ذلك التحضير لاستثمارات جديدة في الصيف الماضي، شملت رحلات هامة لرجال الأعمال الإماراتيين في شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول، كما تم استئناف التعاون الطبي، وإصدار تأشيرات للسائحين السوريين، ودراسة مشروعات عقارية جديدة.
وبالإضافة إلى إعادة فتح السفارة، تستعد الإمارات لاستئناف رحلاتها المباشرة إلى دمشق للمرة الأولى منذ 6 أعوام، وزادت المساعدات المقدمة إلى اللاجئين السوريين، وتقول إنها سترسل وفدا رفيع المستوى إلى سوريا قريبا.
دوافع استراتيجية
ويبقى تطبيع الخليج العربي الأوسع مع النظام السوري مدفوعا أكثر بالحاجة إلى ضمان عدم ظهور إيران كفائز كبير من الحرب الأهلية السورية.
وتتزايد المخاوف العربية، لا سيما في منطقة الخليج، وخاصة في الرياض، من ظهور تركيا كقوة مهيمنة إقليمية. وبعد التدخل العسكري الروسي الإيراني المشترك بين عامي 2015 و2016، الذي أنقذ نظام "الأسد" من الانهيار، تحولت الأهداف التركية في سوريا من تغيير النظام إلى مواجهة النفوذ الكردي في شمال سوريا، واستخدام سوريا كمنطلق حيوي لتعزيز صورة إقليمية أوسع.
ويرى المسؤولون الأتراك إن بلادهم هي "الزعيم المنطقي الوحيد" للمسلمين حول العالم، وألمحوا بقوة إلى أن تركيا، وليس الدول العربية أو إيران، يجب أن تكون القوة الإقليمية المهيمنة في الشرق الأوسط.
وبدأت مدرسة فكرية في المنطقة تحذر من أن تركيا، التي تعد أكثر استقرارا وقوة وتطورا من الناحية التكنولوجية من إيران، وربما أكثر طموحا، أصبحت تهديدا إقليميا أكثر خطورة لطموحات الدول العربية الكبرى، وحتى لـ (إسرائيل).
ويُنظر إلى إيران على أنها مفرطة في أطماعها، وتئن تحت العقوبات، ومتناقضة داخليا، في حين لا تعاني تركيا من أي من هذه المشاكل، ولديها مجموعة من المزايا الأخرى، وليس أقلها عضويتها في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وارتباطها ارتباطا وثيقا بواشنطن.
لذا، فإن إعادة الارتباط الخليجي مع سوريا يهدف إلى تقييد إيران وتركيا معا. ومع قرار الانسحاب الأمريكي من الحرب الأهلية السورية، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب آثار ذلك بالنسبة لدول الخليج هي إقامة علاقة عمل إيجابية مع روسيا ونظام "الأسد".
وسيتم التركيز على تقديم الحوافز للجهات الفاعلة في سوريا، وخاصة الحكومة، للتفكير في مصالحها الوطنية بشكل مستقل، مع اعتبار روسيا راعيتها الأساسية، بدلا من إيران أو تركيا.
ومع هذا التركيز المزدوج على إيران وتركيا في سوريا، يجعل ذلك الدول الخليجية أقرب إلى جدول الأعمال الإقليمي الإسرائيلي.
وسعت (إسرائيل) أيضا إلى الحد من الوجود الإيراني الأصلي أو عبر حزب الله، لا سيما في نطاق 40 ميلا من حدودها الجنوبية والغربية مع الأردن ولبنان ومرتفعات الجولان المحتلة.
ودعمت (إسرائيل) ذلك الهدف عن طريق الغارات الجوية العديدة، والأعمال العسكرية الأخرى، لفرض هذه الخطوط الحمراء.
ويعد الدور الإسرائيلي في سوريا أمرا حاسما بالنسبة لمصالح دول الخليج العربية، باعتبارها تقود العمليات الأكثر مباشرة وقوة ضد إيران في سوريا، وكونها العائق الأخير أمام إنشاء ممر عسكري من إيران إلى لبنان عبر البحر الأبيض المتوسط، في حال انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من شرق سوريا.
وستواصل كل من (إسرائيل) ودول الخليج العمل بشكل منفرد على تعزيز النفوذ الروسي في سوريا في مواجهة الهيمنة الإيرانية والتركية على المناطق الرئيسية، للحد من الدور الإيراني والتركي المستقبلي في سوريا.
وفي الوقت نفسه، سيتزايد الدعم الخليجي العربي للجماعات الكردية المسلحة في شمال وشرق سوريا، وخاصة في ساحات المعارك الحاسمة، مثل عفرين ومنبج، مع أو بدون تدخل أمريكي مباشر، مع مساعدات إعادة الإعمار لهذه المناطق، الأمر الذي أصبح عاملا حاسما في السعي لاحتواء كلا من الهيمنة التركية والإيرانية في سوريا والعراق وما وراءهما.
علاوة على ذلك، فإن النية وراء الدعم الإقليمي للانتفاضة ضد نظام "الأسد"، وطرده من جامعة الدول العربية قبل 7 أعوام، لم تكن هي الطرد الدائم لسوريا من الحظيرة العربية.
وكان ذلك مرتهنا بتوقع أن النظام كان من المحتمل أن ينهار في نهاية المطاف، وكان تعبيرا رمزيا ودبلوماسيا عن رفض التكتيكات الوحشية التي كان النظام السوري يستخدمها. وكان قليلون يتوقعون التدخل الحاسم من قبل روسيا وإيران وحزب الله في خريف عام 2015، والذي عكس زخم ساحة المعركة لصالح النظام، وقاده في نهاية المطاف إلى النصر الحاسم في "حلب".
وأشارت السعودية إلى أنها لن تعارض بالضرورة إعادة الدمج المبكر لسوريا في جامعة الدول العربية، حتى مع استمرار نظام "الأسد".
علاوة على ذلك، من غير المرجح أن تكون البحرين أعلنت إعادة فتح سفارتها في دمشق دون ضوء أخضر من الرياض.
وكانت دول الخليج قد أدركت خلال فترة رئاسة "باراك أوباما" أن الولايات المتحدة لم تكن تنوي أن تكون قوة حاسمة في سوريا، ولهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة، كان من الضروري تعزيز علاقات دول الخليج مع موسكو.
ولم يتغير هذا تحت قيادة الرئيس "دونالد ترامب"، بل في الواقع تم تعزيزه بإصراره على سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا.
ويحث المسؤولون الخليجيون على أن يتم ذلك بطريقة حذرة وتدريجية، لئلا يصب في صالح الاستراتيجية الإيرانية أو التركية. ويبدو أن كبار المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، يتفقون مع هذا. لذا، ستكون إدارة فك الارتباط الأمريكي جزءا هاما من نهج الخليج الجديد تجاه سوريا.
تحول استراتيجي
ومع ذلك، كانت دول الخليج تتوقع أنها ستتحرك عاجلا أم آجلا لترتيب مع روسيا، وبالتالي مع نظام "الأسد"، لمنع إيران وتركيا من أن يكونا القوتين الخارجيتين المهيمنتين في سوريا ما بعد الحرب.
وتم بالفعل إرساء الأساس لهذا التحول الاستراتيجي مع روسيا ومع نظام "الأسد".
والآن، يتم وضع تلك الاستراتيجية موضع التنفيذ بشكل جدي ومفتوح. وكما هو الحال مع الاستراتيجية الخليجية في العراق، يبدو من الواضح على السطح أن إيران في وضع مهيمن وغير قابل للإيقاف، وأن دول الخليج لن تكون مهيأة للتحدي، خاصة بالوسائل غير العسكرية. ولكن في العراق، ثبت أن تشجيع المصالح والهويات الوطنية المستقلة وتشجيع الاندماج مع من العالم العربي، أثبت فعاليته في تقويض الهيمنة الإيرانية.
وهناك الكثير من العمل المنتظر في سوريا أيضا. ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن نظام "الأسد" يود أن يظل مدينا للقوات الإيرانية وحزب الله، أو أن لدى موسكو أي مصلحة في رؤية إيران وتركيا كطرفين مهيمنين في سوريا ما بعد الحرب أيضا.
علاوة على ذلك، ستكون إعادة الإعمار واسعة ومكلفة، ويمكن الاستفادة من الجيوب العميقة نسبيا لدول الخليج داخل سوريا، كما كان الحال في العراق، لتعويض الهيمنة الإيرانية.
علاوة على ذلك، لا يزال هناك على الأرجح أعداد كبيرة جدا من السوريين المعارضين لحكومتهم، والغاضبين من سلوكها، ويعارضون تماما أن يكون بلدهم تحت نفوذ غير مبرر لإيران وحزب الله. وقد تكون العلاقات الأفضل مع العالم العربي الأوسع ضرورية لكي يتصالح النظام مع هذه الشريحة الضخمة من الشعب السوري.
ويمكن لدول الخليج أن تكون فعالة في سوريا عبر استراتيجية جديدة تقوم على إعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع الدولة والنظام. إلى جانب ذلك، ليس هناك سوى عدد قليل من الخيارات الأخرى، إن وجدت.
ومع بدء انسحاب القوات الأمريكية الآن، قد تستمر عملية إعادة العلاقات هذه بسرعة أكبر مما كان يعتقد الكثيرون. وفي الواقع، لن يكون من المستغرب رؤية وزير الخارجية السوري يزور الخليج والعواصم العربية الأخرى في المستقبل القريب، وربما حتى حضوره قمة جامعة الدول العربية الـ 30 المقبلة في تونس، في مارس/آذار، رغم أن إعادة التأهيل الكامل للعلاقات قد يستغرق وقتا أطول.
وأشارت حكومات دول الخليج العربية بالفعل إلى أنها تجد التقارب مع النظام السوري أمرا مريرا، ولكنه ضروري وغير قابل للاستبدال بخيارات أخرى في الواقع.