مركز كارنيغي-
عبد الله باعبود باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط، وأستاذ كرسي دولة قطر لدراسات المنطقة الإسلامية، وأستاذ زائر في كلية البحوث الدولية والتعليم في جامعة واسيدا في طوكيو. نشر مؤخرًا مقالًا لكارنيغي بعنوان "لماذا تبرز الصين كمروِّج أساسي للاستقرار في مضيق هرمز". أجرت "ديوان" مقابلة معه في أواخر أيار/مايو لمناقشة مقاله هذا والاطّلاع على وجهة نظره عمومًا حيال الدور المتغيّر للصين في الشرق الأوسط، ولا سيما تجاه دول الخليج.
مايكل يونغ: كتبتَ مؤخرًا مقالًا حول دور الصين في مضيق هرمز. ما هي فكرتك الأساسية فيه وما أبرز الخلاصات التي توصّلت إليها؟
عبد الله باعبود: جادلتُ بأن الصين، نظرًا إلى اعتمادها على منطقة الخليج للحصول على كمية كبيرة من النفط والغاز، لديها مصلحة وازنة في الحفاظ على الاستقرار والأمن في المنطقة، وخير مثال على ذلك توسّطها مؤخرًا في اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران. تتيح منطقة الخليج فرصة مهمّة للصين في تنافسها الجيو-استراتيجي العالمي مع الولايات المتحدة. فعلى خلاف واشنطن، تتمتع بيجينغ بعلاقات ثنائية وثيقة مع الدول الواقعة على جانبَي مضيق هرمز. وستصبح الصين، مع تنامي مصالحها في المنطقة، طرفًا فاعلًا أساسيًا في أمن المضيق. وهذا ما أكّده الاتفاق السعودي الإيراني، إذ ساهم في نزع فتيل التشنّجات في مضيق هرمز والمنطقة الأوسع.
يُضاف إلى ذلك أن الوجود العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في المضيق شجّع الصين على المشاركة في تحمّل عبء الحفاظ على أمن المنطقة لحماية مصالحها التجارية، ولا سيما أن بيجينغ عُرضة للتأثّر بشدّة من الاختلالات التي قد تطرأ على الإمدادات النفطية. وأظهرت المساعي التي بذلتها الصين في تسهيل ولادة الاتفاق بين السعودية وإيران أن بيجينغ تعوّل على النفوذ الاقتصادي الذي تتمتّع به في المنطقة لتعزيز دورها في التأثير على الديناميكيات الأمنية الإقليمية، ومدّ جسور دبلوماسية في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية من أجل حماية مصالحها التجارية. لم تعد الصين "راكبًا بالمجّان"، كما وصفها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، يعمل تحت المظلّة الأمنية الأميركية والغربية.
يونغ: هل يمكن أن تخبرنا ما يعنيه، من الناحية العملية، واقع أن الصين كانت الراعي الرسمي للمصالحة بين السعودية وإيران؟ وكيف يمكن أن تؤثّر بيجينغ على عملية تطبيق الاتفاق أو عدمه؟
باعبود: حقّقت الصين إنجازًا ملحوظًا على مستوى الديناميكيات الأمنية في منطقة الخليج، من خلال توسّطها في إبرام الاتفاق بين إيران والسعودية. صحيحٌ أن طهران والرياض كانتا تسعيان على ما يبدو إلى تخفيف حدّة التوترات بينهما عقب جولات عدّة من المحادثات التي سهّلتها كلٌّ من عُمان والعراق، إلا أن استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما لم يكن متوقعًا في هذا الوقت القريب، ولا سيما أن النزاع في اليمن لا يزال من دون حلّ.
اعتمدت الصين منذ فترة طويلة استراتيجية التوازن الدبلوماسي الحذر في الشرق الأوسط، محافظةً على علاقات جيدة مع الدول الإقليمية كافة. مع ذلك، شكّل توسّطها في إبرام اتفاق المصالحة بين طهران والرياض خروجًا عن هذا النهج المعتاد، إذ باتت بيجينغ تؤدّي اليوم دورًا أكبر في دعم عملية السلام بين الأفرقاء المتخاصمين في المنطقة. وقد أسهم توقيعها اتفاقيتَي شراكة استراتيجية شاملة مع إيران والسعودية في العامَين 2021 و2022 على التوالي، فضلًا عن كونها شريكًا تجاريًا أساسيًا للدولتَين، في تحقيقها موقعًا فريدًا قادرًا على التأثير بنتائج اتفاق المصالحة.
في الواقع، تُعدّ الصين أكبر مستورد للنفط في العالم، ومستهلكًا أساسيًا للنفط السعودي والإيراني. إضافةً إلى ذلك، أجرى الصينيون استثمارات كبيرة في مشاريع بنى تحتية ضخمة في البلدَين.
وعلى الرغم من أن نجاح المصالحة سيعتمد في نهاية المطاف على مدى استعداد طهران والرياض لتقديم تنازلات، قد يكون نفوذ بيجينغ الاقتصادي فعّالًا في دفع عملية تنفيذ الاتفاق قدمًا. تخوض السعودية راهنًا عملية إصلاح اقتصادي سريع لتحقيق أهداف رؤية العام 2030، فيما تتخبّط إيران في ظل تدهور أوضاعها الاقتصادية نتيجة العقوبات المتنامية التي فرضتها عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها. ولا شكّ من أن تعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين وتوسيع استثماراتها في الدولتَين سيزيدان من جاذبية المصالحة.
يونغ: كيف تندرج منطقة الخليج الأوسع ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبأي طريقة يهدّد ذلك دور الولايات المتحدة في المنطقة؟
باعبود: لقد اتّسعت مصالح الصين في منطقة الخليج، متجاوزةً حاجاتها في مجال الطاقة لتشمل مجموعة أوسع من الأنشطة الاقتصادية، ما دفع بيجينغ إلى النظر إلى المنطقة على أنها ذات أهمية استراتيجية. ويشير تنامي حجم الاستثمارات الصينية في المنطقة، ولا سيما في مشاريع البنى التحتية الكبرى مثل الاتصالات والخدمات اللوجستية، إلى الأهمية التي تتمتّع بها منطقة الخليج الأوسع في مبادرة الحزام والطريق الصينية. يؤدّي الشرق الأوسط، بفضل موقعه الاستراتيجي عند تقاطع أفريقيا وآسيا وأوروبا، دورًا أساسيًا في طموحات بيجينغ العالمية، ويُعدّ محوريًا في التنافس المتنامي بين قوتَين عظيمتَين هما الصين والولايات المتحدة. وعلى الرغم من الانسحاب العسكري الأميركي المتصوّر من الشرق الأوسط، تسعى واشنطن إلى إثبات التزامها المتواصل بأمن حلفائها في المنطقة، حيث لا تزال تحتفظ بوجود عسكري ملحوظ.
على الرغم من أن نفوذ الصين العسكري في المنطقة محدود، تشعر واشنطن بالقلق حيال الانخراط المتزايد للشركات الصينية في شراكات في مجالَي الموانئ والتكنولوجيا، بما فيها مشاريع البنى التحتية للاتصالات، مثل إنشاء شبكات الجيل الخامس التي تشارك فيها شركة هواوي الصينية. وقد وجّهت واشنطن تحذيرات إلى حلفائها بأن التعاون مع مثل هذه الشركات قد يعرّض آفاق التعاون الأمني المستقبلي مع الولايات المتحدة للخطر. لكن، على الرغم من تنامي حدّة المنافسة بين بيجينغ وواشنطن، للجانبَين مصلحة في صون أمن المنطقة واستقرارها، ما قد يفسح المجال أمام تعاون محتمل بينهما.
يونغ: أشرْتَ إلى أن استجابة الولايات المتحدة للتقدّم الذي تحرزه الصين في الخليج ستتمثّل على الأرجح في دعم الاتفاقات الابراهيمية ومحاولة تحقيق تطبيعٍ للعلاقات بين السعودية وإسرائيل. ما مدى واقعية ذلك، وهل من شأن هذه المساعي أن تقوّض استراتيجية الصين، نظرًا إلى أن الرياض لن تقطع على الأرجح علاقتها مع بيجينغ؟
باعبود: وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطبيع العلاقات مع السعودية على قائمة الأهداف الأساسية لسياسته الخارجية. تُمثّل الاتفاقات الابراهيمية للولايات المتحدة فرصة لإحراز تقدّم أكبر على صعيد التعاون بين إسرائيل ودول الخليج، ما قد يُفسح المجال أمام تعاون أمني أكبر بين هذه الدول التي ترى جميعها أن إيران تمثّل تهديدًا إقليميًا كبيرًا. قد يعود هذا السيناريو بالفائدة على واشنطن من خلال توفير حماية أفضل لأمن إسرائيل القومي في مواجهة إيران، ويعزّز في الوقت نفسه محور حلفاء واشنطن في المنطقة.
وفيما من المستبعد أن يعرقل هذا السيناريو اتفاق المصالحة الذي توسّطت الصين في إبرامه بين السعودية وإيران، قد يضع بعض العقبات في وجه مصالح بيجينغ الإقليمية. فتطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج قد يؤثّر على مصالح الصين من خلال عزل إيران سياسيًا عن المنظومة الأمنية الإقليمية. صحيحٌ أن السعودية عازمة على تحفيف حدّة التوترات الإقليمية مع إيران، إلا أن الرياض لا تزال تعتبر طهران خصمًا أساسيًا. وقد تؤدي مواءمة المصالح بين السعودية وإسرائيل، من خلال تهميش إيران وإثباط محاولات دمجها في اقتصاد المنطقة، إلى عرقلة طموحات الصين الرامية إلى إنشاء منطقة نفوذ خاصة بها في الخليج، ما يضعف مبادرة الحزام والطريق الصينية.
مع ذلك، ذكرت تقارير أن السعودية فرضت شروطًا محدّدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل - منها توثيق التعاون الدفاعي الأميركي، وتوفير ضمانات أمنية أميركية، وتخفيف القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية إلى المملكة، والحصول على المساعدة الأميركية في تنفيذ مشروع نووي مدني - يُرجّح أن تواجه معارضة من الكونغرس في واشنطن. علاوةً على ذلك، أدّى تزايد أعمال العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ أن تسلّمت السلطة حكومة يمينية متطرّفة برئاسة نتنياهو في كانون الأول/ديسمبر الماضي، إلى تراجع إمكانية قبول السعودية والعالم الإسلامي الأوسع باتفاق مع إسرائيل.
يونغ: يبدو أن الصين لا تستطيع أن تتنافس مع الولايات المتحدة على المستوى الأمني. لماذا هذا الأمر مهم، وكيف تتوقع أن تعالج الصين هذا الوضع؟
باعبود: على الرغم من أن الجيش الصيني يحتلّ المرتبة الأولى عالميًا من حيث عدد القوات العاملة في الخدمة، فإن خبرات الصين العسكرية وإمكانياتها البحرية والجوية لا تزال متأخرة عن نظيرتها الأميركية بشكل كبير. فعمليات تمديد النفوذ الأميركي لا تزال بلا منازع، نظرًا إلى شبكتها الواسعة من القواعد البحرية المنتشرة خارج الأراضي الأميركية، في حين أن القاعدة العسكرية للصين في جيبوتي هي قاعدتها الوحيدة خارج حدودها. إضافةً إلى ذلك، لا تستطيع الصين بعد التنافس مع هيمنة واشنطن على سوق السلاح العالمي، إذ بلغت حصة الولايات المتحدة من تجارة الأسلحة العالمية 40 في المئة بين 2018 و2022، مقارنةً مع 5.2 في المئة للصين.
مع ذلك، حقّقت الصين اختراقات مُلفتة في سوق السلاح في الشرق الأوسط على مدى العقد الفائت، بما في ذلك إبرام اتفاقات مهمة في المجال الدفاعي مع حلفاء بارزين للولايات المتحدة مثل مصر والسعودية. وفيما تسعى دول خليجية عدة إلى تنويع شبكة مورّدي الأسلحة لديها والحدّ من اعتمادها على الأسلحة الأميركية، ستحاول الصين حتمًا زيادة حصّتها في سوق السلاح المدرّ للربح في المنطقة. وستعمل كذلك على إقامة شبكة من القواعد العسكرية خارج حدودها، مع تركيز خاص على منطقة الشرق الأوسط، كما أظهر الجدل الذي أثارته الأنباء عن بدء بيجينغ بمشروع بناء قاعدة عسكرية في ميناء خليفة في أبوظبي.
لا تبدو الصين على عجلة من أمرها لتحلّ مكان الولايات المتحدة، وهذا ليس هدفها على الأرجح. لكن مزيج نفوذها الاقتصادي والسياسي ومصالحها الأمنية والاستراتيجية سيؤدّي إلى تكثيف انخراطها في الأمن الإقليمي. بصرف النظر عن التنافس بين هاتَين القوتَين العظيمتَين، قد يعود الانخراط الأمني المتزايد للصين في منطقة الخليج بالفائدة على الأمن الإقليمي والعالمي.