محمد نور الدين-
ليس أفضل من توافق بدء الجولة الخليجية للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مع الذكرى السنوية لمحاولة الانقلاب الفاشلة عليه، في الـ 15 من تموز 2016. فبعد سبع سنوات من توتّر العلاقات بين تركيا وكلٍّ من السعودية والإمارات، تشكّل زيارة إردوغان الحالية للمملكة اليوم الاثنين، ما يشبه الطيّ الكامل لصفحة الماضي القريب والانتقال إلى علاقات مميزة. ويساعد في ذلك، التحوّلات التي طرأت على المشهدَين الإقليمي والدولي، والتي باتت تتيح لبعض الدول، ومنها السعودية والإمارات، هوامش معيّنة لانتهاج سياسات «جديدة» في قضايا أقلّ ارتباطاً بقوى عظمى كانت على الدوام ولا تزال، على رغم كلّ شيء، تملي سياستها من موقع السيّد للتابع.
في الـ 15 من تموز 2016، كاد إردوغان أن يصبح من التاريخ لو أن الانقلاب الذي قاده عناصر في الجيش التركي نجح في خلْعه وربّما قتْله في المنتجع الذي كان يقيم فيه، آنذاك، في منطقة مرمريس السياحية. لكن فشل الانقلاب أَطلق حملةً شرسة قادها الرئيس التركي، ووُجّهت ضدّ طرفَين أساسيَّين، هما الولايات المتحدة والإمارات، اللتَين اتّهمهما إردوغان علناً بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، وتمويلها عبر بعض الجماعات التابعة لفتح الله غولين، والمتغلغلة في صفوف الجيش التركي. ولم تَسلم السعودية وأطراف خليجية أخرى، إضافةً إلى مصر ومعظم الدول الأوروبية، من وضْعها في قفص الاتهام التركي. ومع أن القطيعة بين أنقرة وكل من أبو ظبي والرياض والقاهرة، بدأت عمليّاً منذ إطاحة الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، في مطلع تموز 2014، غير أن محاولة الانقلاب في 2016، كانت القشّة التي قصمت ظهر بعير العلاقات بين هذه الأطراف.
وممّا فاقم التوتّرات بين تركيا والسعودية، وقوع حادثة مقتل الصحافي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، في عام 2018، في مقرّ القنصلية السعودية في إسطنبول، وثبوت الواقعة التي استغلّها الرئيس التركي، ليُطلِق أوسع حملة تشهير بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان. ولولا الجهد الاستثنائي للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في تبرئة ابن سلمان، لما نجحت الرياض في احتواء الموقف وتداعياته على صورة وليّ العهد في العالم.
لاحقاً، مع انتهاء الانتخابات البلدية في عام 2019، وما أفرزته من نتائج، كان جرس الإنذار يقرع بشدّة لإردوغان: خسارة الانتخابات في المدن الكبرى، ولا سيما في إسطنبول وأنقرة للمرّة الأولى منذ عام 1994. وواكب ذلك، بل سبقه، نتيجة الضغوط الأميركية، تدهور سعر صرف الليرة التركية، وسط تراجع مهول في المؤشّرات الاقتصادية. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية في أيار 2023، كان إردوغان يعدّ لخطّة انتشال تركيا ممّا هي فيه، أي دعم الاقتصاد بما يحول دون تأثيراته السلبية على وضع الزعيم التركي في الانتخابات الرئاسية.
وهكذا، فجأة، في صيف عام 2021، بدأت عجلات التواصل تتحرّك من قِبَل أنقرة من جديد باتّجاه كلٍّ من أبو ظبي أولاً، والرياض ثانياً. ولم تكن المعادلة من وجهة نظر إردوغان معقّدة. فبالنسبة إلى الإمارات، قضى الاتفاق بطيّ ملفّ اتهامها بمحاولة الانقلاب، في مقابل ضخّها المال في الاقتصاد التركي على شكل ودائع نقدية أو استثمارات. أما السعودية، فكانت المعادلة بسيطة: نقل الملفّ القضائي لمقتل خاشقجي من القضاء التركي، حيث وقعت الجريمة على الأراضي التركية، إلى القضاء السعودي و«يا دار ما دخلك شرّ». وبهذه «المقايضة»، خرج الجميع على قاعدة «رابح - رابح»؛ بل إن إردوغان تمكّن من لجم تدهور سعر صرف الليرة لعدّة أشهر عشية الانتخابات بحدود الـ 20 ليرة مقابل الدولار الواحد. وتجمع التقديرات داخل تركيا على أن الحدّ الأدنى الذي أنفقته الرياض وأبو ظبي، لتثبيت سعر صرف الليرة التركية، إضافة إلى المكرمات التي كان إردوغان يوزّعها يميناً وشمالاً تحت عنوان زيادة الرواتب وتسهيلات القروض والإعفاءات من غرامات وفوائد، لا يقلّ عن 50 مليار دولار؛ حتى إذا انتهت الانتخابات، انفلت سعر الصرف من جديد وارتفع خلال أيام من 20 إلى 26 ليرة مقابل الدولار الواحد.
أمّا العلاقة التركية مع قطر، فهي من نوع آخر، وأقرب إلى أن تكون «شعباً واحداً في دولتَين»، حيث كانت قطر ولا تزال الملتزم الرئيس بإخراج إردوغان وتركيا عند كل منعطف من أزماتهما. وفضلاً عن الاستثمارات القطرية في عدد كبير من المشاريع الكبرى وتملّك مؤسّسات، فإن الدوحة تُعدّ شريكاً مباشراً للمشاريع التركية في شمال سوريا، ولا سيما مشاريع بناء مدن جديدة خاصة باللاجئين في مناطق الاحتلال التركي لاستيعاب أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ سوري يخطّط إردوغان لإعادتهم إلى هذه المدن.
ولا شكّ في أن الانفتاح الخليجي - التركي يتزامن مع انفتاح خليجي - سعودي بشكل رئيس - على إيران، وهو الأمر الذي يساعد في تسهيل وتعزيز التقارب بين تركيا والدول الخليجية. وليس من الصعوبة التكهّن بأن الملفّ الاقتصادي سيكون هو الطاغي على زيارة إردوغان للسعودية والإمارات، وهو ما يبدو جليّاً بالنظر إلى الزيارات الممهّدة التي قام بها الفريق الاقتصادي التركي الجديد والمؤلف من نائب رئيس الجمهورية جودت يلماز، ووزير المالية الجديد محمد شيمشيك، والحاكمة الجديدة للمصرف المركزي حفيظة غايه إركان، إلى كل من السعودية والإمارات فضلاً عن قطر. ومن المتوقّع تالياً أن يتمّ خلال جولة «الشكر» و«جمع المال» هذه، توقيع عدد كبير من الاتفاقات الاقتصادية الثنائية، ولا سيما في مجال الطاقة والتنقيب عن النفط والغاز في تركيا، وتعزيز عمل الشركات التركية في الدول الخليجية في مختلف القطاعات.
وفي «ملتقى الأعمال التركي - السعودي» الذي انعقد في إسطنبول يوم الأربعاء الماضي، قال وزير التجارة التركي، عمر بولات، إن أكثر من 400 شركة سعودية تعمل في تركيا، وإن حجم التجارة مع المملكة يقارب السبعة مليارات دولار عام 2022، فيما بلغ في الربع الأول من العام الحالي ثلاثة مليارات دولار. وقال إن الهدف هو الوصول قريباً إلى رقم 10 مليارات دولار، وعلى المدى البعيد 30 ملياراً.
تساعد جولة إردوغان الخليجية في إرساء الاستقرار، لا سيما أنها تواكب البحث في ترجمة الاتفاق السعودي - الإيراني
وفي ضوء ما تقدَّم، ترى صحيفة «حرييات» أن جولة إردوغان الخليجية ستوفّر مصدراً مهمّاً للمال لتركيا. وهذا لا يقتصر فقط على الاستثمارات والمساعدات، بل كذلك على تكثيف الحركة السياحية الخليجية إلى تركيا. وبحسب الصحيفة، يُنتظَر توقيع اتفاقات بقيمة 40 مليار دولار مع الإمارات و10 مليارات مع السعودية في الحدّ الأدنى، فضلاً عن إطلاق تعاون مشترك بين الدول الثلاث في مجالات الطاقة والبنية التحتية والمواصلات والصناعات الدفاعية، واستثمارات في قطاع السيارات والمؤسسات المالية والقطاع المصرفي. كذلك، يُتوقع أن تَدخل إلى تركيا كميات كبيرة من العملة الصعبة مصدرها دول الخليج، من شأنها أن تعزّز وضع الليرة التركية، وهو ما سيجعل المركزي التركي يأخذ نفَساً عميقاً استعداداً لمرحلة جديدة واعدة تعطي الثقة بالإجراءات الاقتصادية التي سيتّخذها وزير المالية وحاكمة «المركزي».
وتساعد جولة إردوغان الخليجية في إرساء مزيد من الاستقرار في المنطقة، ولا سيما أنها تواكب استمرار البحث في كيفية ترجمة الاتفاق السعودي - الإيراني على أرض الواقع. ومع أن الانفتاح العربي على دمشق وقبول عودتها إلى «الجامعة العربية» قد حصلا، وعلى رغم وجود لاعبين إقليميين ودوليين مؤثّرين، غير أنه من غير الواضح بعد كيف يمكن أن ينعكس تعزيز العلاقات التركية - الخليجية كما الانفتاح العربي على سوريا، على إمكانية أن تؤدي دول الخليج، ولا سيما السعودية والإمارات، دوراً مسهّلاً في تحقيق المصالحة بين تركيا وسوريا.
وفي المحصلة، فإن التقارب التركي مع السعودية والإمارات لن يشهد «كمائن» إردوغانية في المستقبل القريب. فالاقتصاد التركي لا يزال في غرفة العناية، والانتخابات البلدية التركية على الأبواب، وكلّ ذلك يحتاج إلى المال الخليجي.