عرفت السياسة الخارجية الإماراتية تحولين مهمين، تميز الأول في عهد الشيخ زايد بدعم محور المواجهة مع إسرائيل، وتميز الثاني منذ بداية تسعينات القرن الماضي بتبنِّي خطاب محاربة الإرهاب والتركيز على المقاربة الأمنية في التعامل معه.
مـقـدمة
لسنوات عديدة، وتحديدًا منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة مؤسسها، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تتبع سياسة وسطية تضع الوساطة في القضايا الإقليمية في قلب علاقاتها الدولية. وفي عهد حكم الشيخ زايد، الذي امتد من عام 1974 وحتى وفاته في العام 2004، انتهجت الإمارات العربية المتحدة سياسة خارجية معتمِدة أساسًا على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج، وأيضًا مع الدول العربية والإسلامية.
وقد كان الشيخ زايد يؤكد، خلال السنوات الأولى لبناء دولة الإمارات العربية المتحدة، على إقامة علاقات صداقة مع جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وكذلك مع أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي بعد إنشائه في العام 1981.
وفي يونيو/حزيران من العام 1972، أدلى الشيخ زايد بتصريح لصحيفة "الأمل" قال فيه حينها: إن "الاتحاد حريص على أن يكون له موقف موحَّد، وأن يسير في نفس الاتجاه ويتبع نفس النهج الذي تنتهجه المملكة العربية السعودية".
السمة الأخرى البارزة، التي كانت تطبع السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة خلال السنوات الأولى من فترة تأسيس النظام الفيدرالي، هي الالتزام بـ"العروبة"، وبشكل أخص بقضية فلسطين، وقد اتخذت نصرة فلسطين أشكالًا سياسية ومالية على حدٍّ سواء. هذا وقد شاركت دولة الإمارات العربية المتحدة في الحظر النفطي العربي الذي استمر من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 وحتى مارس/آذار عام 1974 (رغم أن مشاركة إمارة دبي في الحظر تأخرت ثلاثة أيام عن انضمام إمارة أبوظبي للحظر النفطي العربي).
وقد خفضت تلك الدول آنذاك صادراتها إلى الولايات المتحدة الأميركية وهولندا كردِّ فعل على دعمهما إسرائيل خلال حرب "يوم الغفران" أو "حرب أكتوبر/تشرين الأول" عند العرب، وقدمت في الوقت نفسه دعمًا واسع النطاق للدول الواقعة على "خط المواجهة" في الصراع مع إسرائيل.
كما قدمت جهات متبرعة، تتخذ من دولة الإمارات مقرًّا لها، إعانات إغاثية معتبرة وعددًا من المساعدات المباشرة للإسهام في التنمية داخل فلسطين، والتي قدَّرها، عبد المنعم المشَّاط، بأكثر من عشرين مليار دولار موزعة على فترة عقدي السبعينات والثمانينات. ومرة أخرى، كانت الإجراءات التي اتخذتها حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة متسقة مع التوجهات الإقليمية العامة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي خلال نفس الفترة، عبر إرسالها مساعدات وتبرعات خارجية إلى الدول الواقعة على "خط المواجهة".
انخراط أمني متزايد
مع نهاية عقد التسعينات، طرأت تحولات كبرى على سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية، وذلك بعد تقدم السنِّ بالشيخ زايد، وتحول اهتمام دولة الإمارات تدريجيًّا عن الالتزام بالقضايا العربية والإسلامية وانخراطها وتفاعلها الاستباقي مع أهم التطورات الطارئة على الاقتصاد العالمي ونظام الحكم الدولي من أجل مُراكمة قدرات احتياطية هائلة من القوة "الناعمة" و"الصلبة"، وإيجاد مكان لها في مجالات اقتصادية مختارة بعناية مثل مجال الطيران المدني والطاقة المتجددة والتمويل الدولي.
هذا وقد تعمَّقت العلاقات الإماراتية مع الولايات المتحدة الأميركية، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وقد ضمت قائمة الخاطفين إماراتييْن اثنين من بين المهاجمين التسعة عشر، ومن ثم ظلت العلاقة مع أميركا تمثِّل حجر الزاوية في سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية. وانطلاقًا من هذا، شاركت الإمارات عسكريًّا، إلى جانب قوات الولايات المتحدة الأميركية، في كل صراعات الشرق الأوسط منذ حرب الخليج عام 1991، باستثناء غزو العراق بقيادة أميركية في العام 2003.
يوضح انخراط الإمارات العربية المتحدة في أفغانستان، منذ العام 2001، تطور مقاربة الإمارات العربية المتحدة في التعاطي مع القضايا الدولية، وكذلك قدرتها على المزج بين توظيف القوتين: "الناعمة" والصلبة". لقد كانت دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى جانب المملكة العربية السعودية وباكستان، واحدة من بين دول ثلاث فقط اعترفت بنظام طالبان عند سيطرته على السُّلطة في العام 1996.
لكن وبعد سقوط نظام طالبان، سارعت دولة الإمارات إلى الرمي بكل ثقلها خلف دعم حكومة حميد كرزاي التي صعدت إلى سدَّة الحكم في ديسمبر/كانون الأول من العام 2001.
وقد كان عناصر من قوات الجيش الإماراتي متمركزين في أفغانستان في الفترة ما بين العام 2001 وحتى العام 2014، وكانت تلك القوات الإماراتية، وهي القوة العسكرية العربية الوحيدة، منخرطة بقوة في مجال العمل الإنساني مثل تقديم المعونات والخدمات الطبية، بالإضافة إلى دعم العمليات القتالية للقوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي.
تزامنت العمليات العسكرية الإماراتية في أفغانستان بالتوازي مع انتهاج مقاربة إنسانية ركزت على أهمية السلامة والاستقرار كشرطين أساسيين لإنجاح عمليات تقديم المساعدات وخطط التنمية.
طيلة العقد الماضي، وبوتيرة متزايدة، باتت دولة الإمارات العربية المتحدة دولة مساهِمة، وليس فقط مجرد دولة مستهلكة، في نسيج البنيات الأمنية ليس في منطقة الخليج فحسب، بل وعلى نطاق أوسع في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا وضعنا الأمور في سياقها السابق، فإننا سنجد بالفعل أن نطاق وحجم المساهمة في العمليات العسكرية في أفغانستان كان تمهيدًا لانخراط دولة الإمارات جنبًا إلى جنب مع حلف الناتو في عملية أخرى سُمِّيت "عملية الحامية الموحدة" والتي كانت ليبيا مسرحًا لها في الفترة ما بين مارس/آذار وأكتوبر/تشرين الأول 2011، ومساهمة الإمارات أيضًا، على المستوى الإقليمي، في تدخل قوات درع الخليج في دولة البحرين في مارس/آذار 2011، ثم مساهمتها على مستوى أشمل بكثير من خلال انضمامها، باعتبارها جزءًا من عملية "عاصفة الحزم"، إلى التحالف العربي بقيادة السعودية، الذي أطلق عملياته العسكرية في اليمن في 26 مارس/آذار 2015.
تُظهر كل هذه الأمثلة ازدياد الثقة في السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبارها حلقة أمنية متجذِّرة حول ولي عهد (أبو ظبي)، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وتأكيدًا لسيطرته على صناعة القرار السياسي.
تحول في مراكز القرار
خلال السنوات القليلة الماضية، حدث تحولان على مستوى السلطة في دولة الإمارات كان لهما تأثير واضح على مستوى دوائر صنع القرار السياسي وسياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية؛ فقد حدث تحول في النفوذ داخل فيدرالية الإمارات السبع، انتقل على إثره النفوذ من إمارة دبي إلى إمارة أبوظبي، ومن أيدي حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة "الصوري"، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، إلى أيدي ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد.
هذا ولم يُسجَّل أي ظهور علني للشيخ خليفة منذ إصابته بجلطة دماغية في يناير/كانون الثاني 2014، ومن غير المرجَّح أن يعود إلى الحياة العامة مستقبلًا. وعلى الرغم من أن محمد بن زايد كان يمسك بمقاليد الحكم الفعلي "من خلف العرش" في أبوظبي لسنوات عديدة، إلا أنه كان يتوخى الحذر في تصرفاته، حتى العام 2015، على مستوى الفيدرالية واضعًا في حساباته ضرورة تجنب الديناميات غير المتوازنة داخل أسرة آل نهيان، وكذلك على مستوى العلاقة البينية الداخلية مع إمارة دبي.
لكن تلك القيود سقطت خلال العامين الأخيرين عندما تمكَّن محمد بن زايد من تعيين أفراد من دائرة أسرته المباشرة، وغيرهم من الحلفاء المقربين، في أهم مواقع صنع السياسات الاقتصادية والأمنية في إمارة أبوظبي.
شراكة المتشددين
يتشكل المحور المركزي داخل منظمة دول مجلس التعاون الخليجي من كل من محمد بن زايد في أبوظبي وولي ولي العهد، محمد بن سلمان، في السعودية. وقد تطورت علاقة عمل بينية وثيقة بين الرجلين اللذين يتشاركان عقلية "يمكننا فعل ذلك" التي تشجعهما على انتهاج مقاربات طموحة لرسم "صورة أكبر" لقضايا بلديهما الداخلية، بل أيضًا لقضايا المنطقة.
بدت نتائج هذه الشراكة الجديدة بشكل أكثر وضوحًا في اليمن ونجحت في تجاوز تناقضات السياسات غير المنسجمة التي قسمت اليمن، بشكل فعلي، إلى مناطق نفوذ سعودية وأخرى إماراتية.
أما ما هو أهم من ذلك، فيما يخص دولة قطر، فهو أن محمد بن زايد ضمن دعم المملكة العربية السعودية لمقاربته المتشددة تجاه جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية الإقليمية. فقد التحقت المملكة العربية السعودية بدولة الإمارات العربية المتحدة في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، كان ذلك في شهر مارس/آذار من العام 2014، أي في نفس الفترة التي انقطعت فيها آخر مرة علاقات الدولتين الدبلوماسية مع قطر.
ورغم تعامل الملك سلمان البراغماتي مع جماعة الإخوان المسلمين بعد تقلده الحكم في يناير/كانون الثاني 2015، إلا أن موقف السعودية تغيَّر مرة أخرى ليتماهى أكثر مع الموقف الإماراتي في الأشهر الأخيرة.
يترك ذلك التقارب دولة قطر في وضع حساس للغاية كما يتضح من خلال الهجمة الإعلامية المدبرة التي تقودها وسائل إعلام تعمل انطلاقًا من السعودية والإمارات بدأت في أواخر شهر مايو/أيار 2017، ثم تلتها حملة منسقة لقطع العلاقات الدبلوماسية وفرض عقوبات اقتصادية على دولة قطر في الخامس من يونيو/حزيران (2017).
ويبدو أن كلًّا من الإمارات والسعودية عوَّلتا على أن افتقاد الرئيس، دونالد ترامب، الخبرة الكافية في مجال السياسة الخارجية يمثِّل فرصة أمامهما لتشكيل رؤية إدارة الرئيس ترامب حول عدد من القضايا الرئيسية.
في هذه الأثناء، تطورت علاقات شخصية وثيقة بين ممثلي القيادة في السعودية والإمارات وبين جاريد كوشنر، صهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره الأول من ناحية، وبين الزعماء السعوديين والإماراتيين وبين أعضاء بارزين في الإدارة الأميركية، مثل وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، مايك بومبيو، من ناحية أخرى.
وأثمرت تلك العلاقات الوثيقة عن تبني إدارة ترامب نفس المواقف، التي لا يمكن تمييزها عن تلك المواقف القادمة من الرياض و(أبو ظبي)، بخصوص إيران وجماعة الإخوان المسلمين.
بينما شعر قادة الإمارات ونظراؤهم في السعودية بإمكانية نهج سلوك أكثر جرأة، منحهم إياه الرئيس ترامب أثناء قمة الرياض، للتحرك السريع ضد دولة قطر والكويت وسلطنة عُمان، لم تحذُ الإدارة الأميركية حذوهما. الآن من المرجح أن تقود نتيجة هذه المواجهة الدبلوماسية مع دولة قطر إلى زيادة حدَّة الانقسامات بين النواتين الداخلية والخارجية لمنظمة دول مجلس التعاون الخليجي، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى انسحاب دولة عضو، أو أكثر، من المنظمة الخليجية.
* كريستيان كوتس أولريخسن، باحث في قضايا الشرق الأوسط بـ"معهد بيكر للسياسات العامة" بجامعة رايس في هيوستن، تكساس.
كريستيان كوتس أولريخسن- مركز الجزيرة للدراسات-