ياسر الشيمي- مركز كارنيغي للشرق الأوسط-
تعتبر الرياض وحلفاؤها الخليجيّون القاهرة شريكًا أمنيًّا محوريًّا. فقد عرضت مصر، التي تمتلك جيشًا دائمًا يُعَدُّ الأكبر والأقوى في العالم العربي، أن تكون أبرز حصن منيع للأمن القومي العربي الخليجي. وفي وقت يركّز فيه السّعوديّون والإماراتيّون على مراقبة توسّع النّفوذَيْن الإيراني والإسلام السياسي في الشّرق الأوسط، يشكّل هذا العرض جزءًا من سياسة ذكية وانتهازيّة تهدف إلى ضمان تدفّق المساعدات من الخليج. لكن، فيما قدّمت القاهرة دعماً واسع النطاق للحملة ضدّ حركات الإسلام السياسي والدول الراعية لها، امتنعت عن تقديم التزامات جوهريّة بخوض مواجهة خطيرة مع إيران.
منذ العام 2013، حصدت مصر مكافآت كبيرة جرّاء المنافسة المتزايدة بين دول الخليج العربي وإيران، إذ ضمنت عشرات مليارات الدولارات بفضل التمويل السعودي والإماراتي. فقد ساعد السعوديون والإماراتيون القوات المسلّحة المصرية على شراء أسلحة متطوّرة من فرنسا وألمانيا وروسيا، وتعهّدت الرياض بالقيام باستثمارات لا تقلّ قيمتها عن 10 مليارات دولار في شبه جزيرة سيناء المضطربة. وكانت هذه المساعدات الاقتصادية والعسكرية حيوية بالنسبة إلى مصر، فيما كانت تسعى جاهدةً للتعافي من التداعيات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية-السياسية للثورة التي اندلعت في 25 كانون الثاني/يناير 2011، ومن التدخّل العسكري الذي تبعها في 3 تموز/يوليو 2013.
في المقابل، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً وتكراراً أنّ الأمن القومي لدول الخليج العربي يشكّل خطّاً أحمر بالنسبة إلى مصر. وقد أجرى الحلفاء تدريبات عسكرية مشتركة، ودعمت مصر بفعالية جهود دول الخليج العربي – الجهود الإماراتية بالدرجة الأولى- لمحاربة مقاتلين من تنظيمات إسلامية في ليبيا المجاورة. كما سارعت القاهرة للانضمام إلى الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات على قطر، التي تتهمها مصر بدعم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. وانضمت القاهرة أيضاً، رمزياً على الأقل، إلى التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب الذي تقوده السعودية، والذي يركّز على مواجهة إيران.
قد يستنتج المراقب العادي أنّ مصر انحازت بشكل حاسم إلى المملكة العربية السعودية، لكن إلقاء نظرة أعمق على الأمر كفيلٌ بكشف أنّ القاهرة تتبنّى موقفاً استراتيجياً دقيقاً، خاصة تجاه إيران. ففي ظلّ حكم السيسي، تركّز السياسة الخارجية المصرية على أولويات استراتيجية عدة، هي: 1) القضاء على الإسلام السياسي في مصر والمنطقة، بسبب التهديد المتصوّر الذي يطرحه لسلامة الدول-الأمم في العالم العربي؛ و2) دعم الجيوش، وخاصة تلك التي تقاتل الميليشيات المحلية والجماعات الإرهابية؛ والحفاظ على توازن دقيق بين القوى العالمية (الولايات المتحدة وروسيا) والدول الإقليمية الوازنة (السعودية وإيران)، لضمان تلقّي مساعدة استراتيجية منها جميعاً.
لذلك، في حين أنّ القاهرة ملتزمة إيديولوجياً بمكافحة الحركات الإسلامية السنيّة، إلا أنها لا ترغب في الانجرار إلى صراع مكلف مع قوّة إقليمية أخرى. لقد سعت مصر أحياناً إلى استرضاء السعوديين من خلال تصعيد لهجتها تجاه إيران. وما حصل في كانون الثاني/يناير من العام 2016 خير دليل على ذلك، فبعد وقت قصير من اقتحام المحتجّين الإيرانيين السفارة السعودية في طهران، صرّحت مصر بحزم بأنّ "تجاوزات إيران في جميع أنحاء المنطقة كثيرة"، وأنّها تقف إلى جانب السعودية. لكن في أكثر من مناسبة، قاومت القاهرة مطالب السعودية لها بتصعيد هذا العداء الظاهر، عبر قطع العلاقات مع حلفاء طهران أو غيرها من الوسائل.
هكذا، فشلت الرياض في الحصول على المقابل الذي كانت تتوقعه. إذ لم يحصل السعوديون إلا على اثنين من مطالبهم الأربعة الرئيسية من القاهرة، وهما: عكس مسار التحوّل السياسي الذي قاده الإسلاميون في مرحلة ما بعد العام 2011 في مصر، إلى جانب الدعم المستمرّ لجهود مكافحة الإسلاميين في المنطقة؛ وكذلك نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير، الواقعتين في البحر الأحمر، إلى المملكة العربية السعودية. أما الطلبان اللذان لم تتمّ تلبيتهما - وهما مساندة الميليشيات المدعومة من دول الخليج في سورية (الأمر الذي لم يعد يمثّل أولوية بالنسبة إلى هذه الدول)، ونشر قوّات مصرية لمحاربة الحوثيين في اليمن – فكلاهما مرتبطان بالمنافسة بين السعودية وإيران. وقد شارك المصريون في الحملة السعودية في اليمن بشكل رمزي وحسب، إذ أرسلوا سفناً بحرية إلى مضيق باب المندب؛ ولكن من ناحية أخرى، عرضوا بشكلٍ مثير للتحدّي توفير دعم دبلوماسي - ومساعدات عسكرية سريّة حسبما زُعم - لنظام الأسد.
وصلت التوترات السعودية- المصرية إلى ذروتها في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 2016، عندما صوّتت مصر لصالح قرار روسي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يهدف إلى دعم الحكومة السورية. واتّهم المندوب السعودي لدى مجلس الأمن القاهرة باتخذها "موقفاً مؤلماً" وبـ"كسر الإجماع العربي". وقد استعرضت الرياض عضلاتها الاقتصادية ردّاً على ذلك، عبر تعليق إرسال شحنات نفطية قيّمة إلى القاهرة. في المقابل، ردّ السيسي بتصريح غاضب مفاده أنّ مصر "لن تركع إلا لله"، واتّخذت القاهرة تدابير رمزية عدّة لتذكير السعوديين بأنّ أمامها خيارات عديدة. وتشمل هذه التدابير عرضاً بتقديم دعم دبلوماسي إلى الحكومة العراقية المتحالفة مع إيران، واستقبال علني لمسؤول أمني في نظام الأسد، علي مملوك، ونشر الصحف الموالية للحكومة مقالات تدين "احتضان الرياض" المزعوم للإرهاب. ثم انتهت الأزمة بعد أسابيع قليلة فحسب مع ما كان في الأساس تراجعاً سعودياً.
بعدما أسفرت المحاولات السعودية لإجبار رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على الاستقالة، عن اندلاع أزمة سياسية في لبنان، بدا أنّ القاهرة تنأى بنفسها مجدّداً عن الأسلوب السعودي الخشن. وقد أوردت تقارير نفي الرئيس المصري صحّة الرواية السعودية الرسمية بشأن استقالة الحريري، معرباً عن أمله في أن تنتهي الأزمة قريباً.
كشفت هذه المجريات عن الهوّة التي تفصل بين وجهات النظر السعودية والمصرية حول التنافس مع إيران. فبالنسبة إلى السعوديين، تشكّل طهران تهديداً جوهرياً لأمنهم وطموحاتهم الإقليمية. وعلى نقيض ذلك، لا تشعر القاهرة فقط بالقلق من إلزام جيشها بخوض حرب ضدّ الحلفاء الإيرانيين، بل ترى أيضاً أن طهران قوّة دفاعية مهمّة في وجه توسّع الإسلام السنّي في المنطقة. (وأيضاً، فيما تواصل القاهرة نسج علاقات أكثر وديّة مع موسكو، فهي حريصة على تجنّب أي تصعيد غير ضروري في الأعمال العدائية مع حلفاء موسكو الإيرانيين).
وعلى الرغم من أنّ العلاقات السياسية والاقتصادية التي تجمع مصر بإيران أقلّ بكثير من تلك التي تربطها بالسعودية، قد يكون الموقف المصري حيال التطرّف السنّي ومكافحة الإرهاب أقرب إلى طهران منه إلى الرياض. فإيران، على غرار مصر، تسعى إلى دعم الحكومات التي تحارب الميليشيات الإسلامية في سورية والعراق. وهذا يتناغم مع الموقف الاستراتيجي الذي اتّخذته مصر بعد العام 2013، والرامي إلى دعم الدول العربية في وجه الجهات غير الدولتية، وخاصة الإسلاميين.
يرسم هذا الموقف أيضاً معالم علاقات مصر مع تركيا وإسرائيل. فبالنسبة إلى القاهرة، تمثّل أنقرة تهديداً إقليمياً آنيّاً أكثر من طهران. فتركيا تستمر في إيواء الإسلاميين المصريين ودعمهم، ما يسمح لهم بتشغيل محطات تلفزيونية من اسطنبول تستهدف جمهوراً مصرياً. وفي الوقت نفسه، ساعد التصوّر المشترك للتهديد الذي يشكّله الإسلاميون بشكل كبير على تعزيز الروابط بين مصر وإسرائيل. فقد بذل الإسرائيليون، إلى جانب السعوديين والإماراتيين، جهوداً هائلة لإقناع إدارة أوباما بعدم معاقبة الجيش المصري لإطاحته بحكومة مرسي المُنتخبة. علاوةً على ذلك، يُذكر أنّ إسرائيل زوّدت المصريين بمعلومات استخباراتية عن مسلّحين يعملون في شبه جزيرة سيناء، ونسّقت حملات عسكرية ضدّهم. عموماً، لاتزال مصر ملتزمة بمواجهة التهديد الذي يشكّله الإسلاميون، وهي تنتهج في الوقت نفسه استراتيجية انتهازية تهدف إلى جني أقصى قدر من الأرباح، والحفاظ على خياراتها التي تشمل إقامة علاقات تجارية مع قوى إقليمية مثل إيران.