محمد شرف- البيت الخليجي-
يبدو أن التصعيد السعودي الإيراني مُرشح إلى المزيد من التوتر والاحتقان في لعبة صراع النفوذ مع إصرار الجانبين على المضي في ركوب الحصان الرابح (واشنطن، موسكو). يخوض الطرفان معركة غدّت تكلُفتها باهضة، تبعاتها السلبية الخطيرة على المنطقة أصبحت واقعاً معاشاً على أكثر من صعيد. إذ لم تصل العلاقة بين البلدين إلى أسوأ مما هي عليه الآن.
من أين ينبع هذا العداء السعودي الإيراني؟ هل هو خلاف ديني، أم أنه صراع “بالوكالة” على الهيمنة؟. يُشكل عام 1979م عاماً حاسماً في تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية. فعلى الرغم من اتسام العلاقات قبل هذا التاريخ بالتذبذب، إلا أنه كان يُغلب عليها التعاون والتنسيق بحكم تشابه طبيعة النظام السياسي القائم في البلدين. بعد سقوط نظام الشاه وقيام نظام جمهوري إسلامي، تغيّر مجرى الأحداث في منطقة الخليج؛ مع تزايد المخاوف السعودية من تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار.
أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) احتدّ الصراع بعد دعم السعودية وحُلفائها للرئيس العراقي السابق صدام حسين. وشهدت تلك الفترة العديد من الأحداث؛ كقيام طهران بقصف ناقلات النفط السعودية، وإسقاط الرياض لطائرتين إيرانيتين. في العام 1987 قررت السعودية قطع العُلاقات الدبلوماسية مع طهران بعد اقتحام مُتظاهرين لسفارتها؛ احتجاجاً على مقتل أكثر من 400 حاجاً في السعودية؛ معظمهم إيرانيون.
ما بين 1990م -2005م شهدت العلاقة بين الرياض وطهران تحسناً ملحوظاً بعد وصول الرئيسين أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي إلى الحكم، حيث يُعتبر الأخير أول رئيس إيراني يزور الرياض منذ قيام ثورة الخميني. كما قام وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز بزيارة إلى طهران 2001م. سرعان ما عاد التوتر من جديد بعد وصول الرئيس المحافظ أحمدي نجاد إلى السلطة 2005م ووصول حلفاء إيران إلى الحكم في العراق.
ما بين 2011م – 2018م تأزمت العلاقات بين الطرفين؛ اتهمت الرياض طهران 2011م بالتدخل في شؤون البحرين في أعقاب اندلاع مظاهرات وسط العاصمة بالمنامة، ودخول قوات “درع الجزيرة” لقمعها. الساحة السورية بعد اندلاع ثورتها شهدت مواجهة سعودية إيرانية – غير مباشرة – حيث تدخلت طهران بقوة لدعم الرئيس بشار الأسد، فيما دعمت الرياض بعض جماعات المعارضة.
وفي 2014؛ اتهمت السعودية إيران بتوفير دعم شامل لجماعة أنصار الله (الحوثيون) تلاها اطلاق عملية (عاصفة الحزم) مارس 2015. وفي نفس العام؛ طهران تُحمل الرياض مسؤولية وفاة 464 حاجاً إيرانياً خلال موسم الحج.
بادرت السعودية العام 2016م إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران للمرة الثانية؛ بعد اقتحام مُحتجين لمبنى سفارتها في طهران وقُنصليتها في مشهد على إثر إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر. كما واتهمت الرياض طهران بالوقوف وراء إطلاق (الحوثيين) صاروخا باليستيا على مطار الملك خالد 2017م مؤيدةً قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالإنسحاب من الاتفاق النووي مع طهران.
الرياض وطهران: إلى أين؟
السؤال الأهم؛ إلى أين تتجه العلاقة بين السعودية وإيران في المرحلة القادمة؟ وما هي إسقاطاتها على المنطقة؟ لا تستبعد بعض القراءات تصعيداً – مستقبلياً – قد يكون هو الأقوى؛ يأخذ أبعاداً أُخرى بين الجانبين، في ضوء تشبث الأطراف بمواقفهما العدائية ومُراهنة الرياض على الرئيس الأمريكي ومواقفه المعادية لطهران.
تدرك السعودية أنها خسرت – إقليمياً – في عهد حُكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. ومن هُنا؛ اتخذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قراره بمواجهة تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة، متخذاً سياسة عدائية واضحة ضد طهران. خاصة مع انسداد الأفق الذي وصل اليه الملف اليمني، والتطورات اللبنانية التي تُنذر بالخروج من العباءة السعودية، واستعادة الجيش السوري لزمام المبادرة.
نجحت القيادة السعودية في وضع طهران تحت “رادار ترامب” معتمدة على سياسة الحزم، ترجمتها تحركات ولي العهد على عدد من الجبهات مستهدفاً نفوذ حزب الله في لبنان، وواصل حربه على جماعة أنصار الله في اليمن. هذا التوّجه الذي أظهره الأمير محمد بن سلمان تناولته “نيويورك تايمز” في إحدى مقالتها في ديسمبر 2017 “إن المزيج عندما يتألف من القوَّة والطموح والقلق، قد يكون مزيجاً خطراً يُشبه المتفجرات، إن هذه العناصر الثلاثة مُجتمعة لدى ولي العهد السعودي الأمير الشاب محمد بن سلمان في الوقت الحاضر”.
الإستراتيجية السعودية للمواجهة
لا يبدو أن الرياض تمتلك خطة ناجعة في الحد من النفوذ الإيراني، وليس لها توّجه لتغيير سياستها التي تعتمد على أربع إستراتيجيات، هي:
أولا: الاعتماد على الخطاب المذهبي الطائفي الذي يبدو واضحاً في خطاباتها السياسية والإعلامية. والسعي إلى إضعاف حُلفاء إيران في الدول العربية، كما حدث في لبنان والعراق واليمن من خلال تأجيج الصراع بين (السنة والشيعة). يأتي ذلك؛ وسط توقعات بأن يكون هذا الخطاب أكثر حدةً وتصاعداً في المستقبل القريب.
ثانياً: اللجوء إلى الخًطاب القومي العربي، الذي بدأ نسبياً خلال المواجهة مع إيران 1978. زاد الاعتماد على هذا الخطاب بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين 2003 واندلاع الحرب السورية وضُعف الدور المصري. أعطت السعودية هذا الخطاب مساحة واسعة أثناء حربها على اليمن بذريعة حماية عُروبة اليمن ومنع التمدد الفارسي (الإيراني).
ثالثا: التدخل المباشر/غير المباشر. يتجلى ذلك بتدخلها في سوريا واليمن والبحرين. تقدم الرياض الدعم المالي والعسكري للمجموعات المسلحة التي تُقاتل قوات الرئيس السوري بشار الأسد. وفي اليمن؛ تشن الرياض حملة عسكرية واسعة. وفي البحرين، قمعت الحراك الشعبي في البحرين من خلال قوات (درع الجزيرة).
رابعاً: استخدام القوة الناعمة. أعادت الرياض حساباتها في الساحة العراقية مُراهنة على جملة من الخطوات لاحتواء النفوذ الإيراني المتصاعد في العراق. المعادلة السعودية الجديدة في العراق تمثلت في الورقة الاقتصادية وسياسة الاستقطاب لأطراف فاعلة في الوسط السياسي (التيار الصدري ـ حيدر العبادي). أعادت السعودية فتح منفذ (عرعر) تمهيداً لإعادة تشغيل 7 منافذ برية مغُلقة بين البلدين منذ 2003، كما دشنت مجلس تنسيق متخصص في الاقتصاد والتجارة، وبدأت الحديث عن المساهمة في إعادة الأعمار، واعادة تشغيل خطوط الطيران بين البلدين لأول مرة منذ 27 عاماً.
يجدر في تتبع مُتغيرات الصراع الإيراني السعودي التفتيش عن اللاعب الأمريكي، فلا يُمكن إغفال رؤية واشنطن وأثرها الكبير على سياسات البلدين – صديقة أو عدوة – على المستوى الثنائي أو الإقليمي، في صراع لا ينفصل عن سياقاته الإقليمية والدولية المركبة.
ووسط تكهنات تُشير إلى سياسة أمريكية جديدة، تسعى لتوازن إقليمي، لكن على خلاف الأماني الإيرانية. يبدو السؤال ملحاً، هل نجحت السعودية في تحجيم التمدد الإيراني؟ حققت الرياض اختراقات مهمة في جدار لعبة النفوذ مع طهران؛ على الساحة العراقية واضعة أولى أقدامها على طريق تحييد العراق الذي يمثل ثقلاً سياسياً كبيراً لطهران. لكن، ووفقاً للمعطيات؛ فإن حُلفاء إيران يزدادون قوة ونفوذاً في لبنان وسوريا واليمن على حساب حُلفاء السعودية.
يبدو أن التحالف مع الرئيس الأمريكي وهو ما راهنت عليه الرياض، أصبح مُكلفاً بالنسبة لها. كما تقلصّ أصدقاء الرياض؛ أهمهم تركيا التي انضمت على استحياء إلى المحور الروسي الإيراني. كما وشكلت الأزمة مع قطر مصدر ابتزاز كلف الرياض مئات المليارات التي كان المؤمل أن تحقق اختراقاً استثنائياً في البيت الأبيض.
خيارات طهران مع المستجد الأمريكي
ما هي خيارات طهران في التعامل مع المستجدات الراهنة والمواجهة مع البيت الأبيض؟ تقف طهران ما بين ضغوط ترامب واستفزازات الرياض في موقف حذر. وستعمل على صد أي تغيير في توازنات الإقليم، ذلك أن أي تغيير هو أسهُم مُصوبة ضدها، وضد وحُلفائها. تؤمن طهران بأن مصلحتها تقتضي الحفاظ على هذا التوازن القائم – رغم تحدياته – والذي تحقق بعد سنوات صعبة من الحصار وخوضها لأكثر من صراع عسكري/سياسي على أكثر من مستوى.
تعوّل طهران على عُلاقاتها الدولية في ردع عقوبات واشنطن الجديدة، وهو ما يتضح اليوم من خلال رفض الاتحاد الأوروبي لإنسحاب ترامب من الإتفاق النووي اعادة العمل بالعقوبات. يأتي ذلك بالتوزاي مع تعزيز قدراتها الذاتية والإقليمية لردع التهديد المتنامي، وفي مقدمة هذه القدرات؛ البرنامج الصاروخي.