المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-
بعد ثمانية عشر يومًا من الإنكار والتضليل، اعترفت السعودية بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصليتها في إسطنبول. وكان خاشقجي دخل القنصلية السعودية يوم 2 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري بغرض إنهاء معاملات رسمية ولم يخرج منها. وبحسب مصادر تركية، فقد تم استدراجه إلى القنصلية حيث كان في انتظاره فريقٌ مكوّن من 15 عنصرًا قدموا من الرياض خصيصًا للتعامل معه، فقاموا بقتله وتقطيع أوصاله وإخراجها من القنصلية إلى مكان ما زال مجهولًا. أثارت القضية اهتمامًا سياسيًا وإعلاميًا عالميًا غير مسبوق، نظرًا إلى بشاعة الجريمة، وحصولها داخل قنصلية يفترض أنّ الغرض من وجودها هو تقديم خدمات لمواطني الدولة المعنية وليس إسكات المعارضين أو المنتقدين، قتلًا أو اختطافًا. وفي حين التزمت الصمت تجاه الجريمة دولٌ عديدة تمارس هي نفسها سياسة الاغتيال واستهداف المعارضين، بمن فيهم الكتّاب والصحافيون، مثل روسيا والصين وإيران، وقف حلفاء السعودية من الدول الديمقراطية التي لديها تقاليد ديمقراطية ورأي عام وصحافة حرة، خصوصًا الولايات المتحدة الأميركية أمام أزمة حقيقية، فالدلائل المتوافرة تشير إلى أنّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد يكون متورطًا مباشرة في عملية اغتيال خاشقجي الذي كان يحمل إقامة قانونية أميركية، وكان كاتب عمود أسبوعي في صحيفة واشنطن بوست.
اضطراب الموقف
اتسمت مواقف إدارة الرئيس دونالد ترامب بالاضطراب والتقلب منذ بداية الأزمة تبعًا للمعطيات المتوافرة وحجم الضغوط الممارسة عليها من الكونغرس ووسائل الإعلام التي استنفرت بكل تياراتها من اليمين واليسار للوصول إلى حقيقة اغتيال خاشقجي. وبدت مواقف ترامب مثل بالونات اختبار يسحبها بعد أن يختبر ردة الفعل السلبية تجاهها. ففي البداية، حاول تجاهل الموضوع، غير أنه اضطر، بعد أسبوع على اختفاء خاشقجي إلى الإعراب عن "قلقه" على مصيره. ثمَّ أعلن في اليوم التالي أنه تحدث مع مسؤولين سعوديين على "أعلى المستويات"، وطالبهم بأجوبة بشأن ما جرى. كما أصدر البيت الأبيض في اليوم نفسه بيانًا جاء فيه أنّ وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، إضافة إلى صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، أجروا اتصالات مع بن سلمان وطالبوه بإجراء تحقيق "شفّاف". وفي 13 تشرين الأول/ أكتوبر، هدد ترامب بفرض عقوبات كبيرة إذا ما ثبت أيّ دور للسعودية في مسألة اختفائه. وبعد اتصال هاتفيّ بالعاهل السعودي، في 15 تشرين الأول/ أكتوبر صرّح ترامب أن "قتلة مارقين" ربما اغتالوا خاشقجي. وفي اليوم التالي أعلن ترامب أنه تحدث مع بن سلمان الذي نفى علمه بما جرى لخاشقجي. وفي 17 تشرين الأول/ أكتوبر، انتقد ترامب ما اعتبره تحيزًا ضد السعودية ومعاملتها كمجرم حتى تثبت براءتها. ثمّ أعلن في 18 تشرين الأول/ أكتوبر أنّ "عواقب وخيمة" ستنشأ، إذا ما ثبت تورط السعودية في مقتل خاشقجي. وعندما اعترفت السلطات السعودية في 20 تشرين الأول/ أكتوبر أنّ خاشقجي قد قتل فعلًا في قنصليتها في إسطنبول في "عملية تجاوز فيها أفرادٌ سلطاتهم ومسؤولياتهم"، أعلن ترامب عن ثقته بالرواية السعودية الرسمية، غير أنه عاد ورأى أنّها قائمة على "خداع وأكاذيب".
لماذا الاضطراب؟
يعكس الاضطراب السابق في المواقف الصادرة عن ترامب التناقض بين الآمال التي بناها على تحالفه مع نظام بن سلمان، من جهة، وحجم الضغوط الداخلية التي يمارسها الكونغرس والإعلام، من جهة أخرى. فترامب يرى في بن سلمان حليفًا وثيقًا، ساهم في صعوده إلى ولاية العهد بدلًا من محمد بن نايف، بدعمٍ واضح وبيّن من اللوبي الإماراتي، ورضا إسرائيلي معبّر عنه في كل مناسبة. كما تربط بن سلمان علاقات خاصة بصهر الرئيس ومستشاره، كوشنر. والأهم من ذلك، أن إدارة ترامب تعتبر بن سلمان حجر زاوية في سياستها نحو الشرق الأوسط، فيما يتعلق بمحاولات احتواء إيران، وفرض رؤيتها للتسوية على الفلسطينيين، ومحاربة ما تعتبره واشنطن إرهابًا. أضف إلى ذلك أنّ ترامب يعلق آمالًا عريضة على صفقات تسليحٍ واستثمارات ضخمة مع السعودية تعود بفوائد مالية كبيرة على الولايات المتحدة، ويطمح إلى أن تساهم تلك الصفقات والاستثمارات في تحسين الاقتصاد الأميركي، وخلق وظائف جديدة، تعزز فرصه للفوز بولاية ثانية. لذلك، فإن ثبوت شبهات تورط بن سلمان، شخصيًا، في جريمة الاغتيال سوف يؤثّر بالتأكيد في رهاناته في الداخل والخارج.
يضغط الكونغرس، بحزبيه الجمهوري والديمقراطي، على الإدارة لإجراء تحقيق شامل في جريمة الاغتيال، ومن ثمَّ فرض عقوبات صارمة على السعودية، وعلى أي مسؤول فيها، حتى ولو كان بن سلمان نفسه، في حال ثبت تورطه. وما يضعف موقف ترامب هنا، هو ظهور توافق حزبي نادر على معاقبة محمد بن سلمان، ورفض محاولة السعودية تحميل العواقب لعناصر سعودية استخباراتية بزعم أنها تجاوزت حدود صلاحياتها. وتعكس تصريحات كبار أعضاء الحزبين، بمن فيهم حلفاء لترامب في الحزب الجمهوري، كالسيناتور، ليندسي غراهام والسيناتور ماركو روبيو، فضلًا عن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور بوب كوركر، درجة الغضب على السعودية في الكونغرس، التي وصلت إلى حدّ إصدار تهديدات بإعادة النظر في العلاقات الأميركية – السعودية.
وكان اثنان وعشرون عضوًا في مجلس الشيوخ، من الحزبين، طالبوا في 10 تشرين الأول/ أكتوبر، في رسالة إلى ترامب بإجراء تحقيق حول الدور السعودي في اختفاء خاشقجي، لتحديد ما إذا كان ينبغي فرض عقوبات متعلقة بحقوق الإنسان على المملكة. وطالب هؤلاء الأعضاء ترامب بتفعيل بندٍ في قانون ماغنتسكي للمساءلة العالمية بشأن حقوق الإنسان، يلزمه بتحديد ما إذا كان شخصٌ أو دولة أجنبيان مسؤولَين عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وطالب موقّعو الرسالة ترامب بأن يشمل التحقيق "أرفع مسؤولين في الحكومة السعودية". وبحسب السيناتور كوركر، وهو أحد الذين صاغوا الرسالة، فإن ذلك يشمل وليَّ العهد، محمد بن سلمان. وأشار كوركر إلى أن الرسالة تنص بوضوح على أن التحالف القوي بين الولايات المتحدة والسعودية لا ينبغي أن يحول دون فرض عقوباتٍ على المملكة في حال ثبت تورّطها في قضية اختفاء خاشقجي.
وينص قانون ماغنتسكي الأميركي على أن الرئيس ملزمٌ بتقديم تقريره إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ خلال مئة وعشرين يومًا من تلقّي طلب اللجنة بشأن إمكانية فرض "عقوبات انتقامية" على أي شخصٍ أو دولةٍ يعتبران مسؤولَين عن انتهاكات حقوقية خطيرة، مثل التعذيب والاحتجاز فترة طويلة من دون محاكمة، أو قتل شخصٍ خارج نطاق القضاء لممارسته حرية التعبير. وبناء على ذلك، فإن ترامب سيكون مطالَبًا بتقديم تقريره إلى مجلس الشيوخ أوائل شباط/ فبراير 2019. وفي حال لم يوف بهذا الالتزام، أو لم يقم به على نحوٍ يرضي المجلس، فإن هذا الأخير يملك صلاحية فرض عقوبات على السعودية وأي من مسؤوليها من جانب واحد، وذلك كما فعل المجلس في نيسان/ أبريل 2018، عندما فرض عقوبات على روسيا، رغم معارضة البيت الأبيض.
ويجد موقف الكونغرس دعمًا من الإعلام الأميركي عمومًا، فضلًا عن حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، خصوصًا بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وكندا، الذين يطالبون بتحقيق "شفاف" وضرورة اتخاذ موقف صارم ضد أي مسؤول في السعودية يثبت تورطه في الجريمة. فمن الواضح أن قضية جمال خاشقجي كانت مناسبة للتعبير عن الغضب الغربي على السياسات السعودية في العامين الأخيرين، ولا سيما الجرائم ضد المدنيين في اليمن، واعتقالات الناشطين الحقوقيين التي أحرجت الدول الغربية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وحصار قطر غير المعلل عقلانيًا الذي تسبب في أزمة حقيقية في الخليج وتبعته محاولات سعودية مثابرة لابتزاز هذه الدول وإخضاع سياستها في الخليج لتعليمات سعودية - إماراتية، والغطرسة في التعامل مع النقد الكندي، وغير ذلك.
في المقابل، يضغط صهر الرئيس كوشنر، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، وبعض القوى المحسوبة على اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لإعفاء بن سلمان من المسؤولية الشخصية، وهم أقرب إلى موقف ترامب. ويبدو أن وزيرَي الخارجية، مايك بومبيو، والخزانة، ستيفن منوشين، يتعاطفان مع هذا الموقف أيضًا. وتشير التقارير إلى أنّ كوشنر، يحافظ على تواصل مستمر ببن سلمان، وبسبب علاقته الوثيقة به فإنه يحاول البقاء بعيدًا عن دائرة الضوء في القضية، خصوصًا في ضوء استياء بعض كبار المسؤولين في إدارة ترامب من فشل كوشنر في "ضبط" تصرفات بن سلمان. ويبدو أنّ ترامب نفسه بدأ يشعر بعبء علاقة كوشنر بمحمد بن سلمان، ومن ثمَّ فهو يحاول تقليص دوره في هذه القضية.
إن ارتباط السعودية بالولايات المتحدة و"رضاها"، بوصفه عاملًا حاسمًا في تقرير الإجراءات التي سوف تتخذها السعودية، هو سبب تركيزنا على المواقف الأميركية في تقدير الموقف هذا. ولكن يبدو أنّ العامل الحاسم على مستوى الرأي العام (بما فيه الأميركي) سوف يكون الموقف التركي وردّه على الرواية السعودية. فسيكون لما سيصدر عن تركيا وتفاعل الرأي العام معه أثرٌ كبير في الموقفَين الأميركي والأوروبي. ويبدو أنّ تركيا لها من الأدلة ما يدحض الرواية السعودية التي رفضها العالم أجمع في انتظار البيان الرسمي التركي. وبعد صدور هذا البيان سيتغير الموقف من جديد، وستضطر السعودية إلى اتخاذ إجراءات جديدة. ويبدو أنّ مصير محمد بن سلمان أصبح على المحكّ.
خلاصة
اعتبر ترامب، في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيويورك تايمز، في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، أنّ تداعيات جريمة اغتيال خاشقجي تمثل واحدة من أكبر أزمات السياسة الخارجية خلال فترة رئاسته. ويبدو أن حجم الضغوط والتحديات التي يواجهها ترامب من جرّاء دفاعه عن ولي العهد السعودي قد أضعف موقفه كثيرًا، وهو ما انعكس، من جهة، على تناقض خطابه حول قضية الاغتيال، ودفعه، من جهة أخرى، إلى محاولة وضع مسافة بينه وبين بن سلمان، حيث زعم أنه لا يكاد يعرفه. ويقامر ترامب في حال عدم اتخاذه موقفًا صارمًا من الجريمة، ومن بن سلمان شخصيًا، بتدخّل الكونغرس لملء الفراغ المترتب على تردده، وهو ما قد يعني خسارته استثماره فيه، فضلًا عن تبديد وعوده لناخبيه بجعل السعودية تدفع أكثر مقابل حمايتها. كما أنّ القضية بدأت تصبح جزءًا من الجدل السياسي الداخلي في الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات النصفية التي تجري بعد أقل من أسبوعين. ومن هنا، فإنّ ترامب قد يدفع ثمنًا سياسيًا لمحاولته حماية وليّ العهد السعودي. مهما كانت النتيجة، فالعلاقات الأميركية - السعودية تقف أمام واحدة من أسوأ أزماتها، وحتى لو نجت السعودية من عقوبات أميركية قاسية، بسبب حماية ترامب لها، فإنّ ذلك سيكون دافعًا أكبر له لابتزازها وإذلالها، ماليًا وسياسيًا، وعلى كل الصعد. وسوف تواجه القيادات السعودية حقيقة أنّ تكلفة الحفاظ على بن سلمان في مقعد القيادة قد أصبحت أكبر من عائدها.