محمد شرف- البيت الخليجي-
يشهد إقليم البحر الأحمر وخليج عدن تنافُساً بين العديد من القوى الإقليمية والدولية في سباق الأجندات والمصالح. يتصاعد التنافس عاماً بعد آخر، للبحث عن موطئ قدم في هذا الإقليم الذي يكتسب أهمية خاصة في الإستراتيجيات السياسية والعسكرية والاقتصادية الدولية، كأحد أهم الممرات المائية في العالم.
خلال الفترة من (2000 – 2018) تزايد الاهتمام بهذا الممر المائي والدول المُشاطئة له أو في جواره، نتيجة تصاعد العمليات الإرهابية وظهور أعمال القرصنة والتوتر في الشرق الأوسط والأزمات الإقليمية. وشهدت المنطقة مؤخراً حراكاً غير مسبوقاً من قبل العديد من الفاعلين، والهدف إعادة تشكيل هذا الإقليم في إطار رسم خارطة السيادة وتقاسم النفوذ.
استراتيجيّاً؛ يتميز البحر الأحمر بموقع جغرافي مُهم ما جعله حلقة وصل بين أربع مناطق إقليمية (الشرق الأوسط، القرن الإفريقي، المحيط الهندي، منطقة الخليج)، وقناة وصل بين البحار والمحيطات المفتوحة، ونظاماً فرعيّاً من إقليم الشرق الأوسط المضطرب. ويستمد البحر الأحمر أهميته الإستراتيجية من موقعه الجغرافي الذي وفر للقوى الإقليمية والدولية إمكانية الوصول إلى المحيطين الهندي والأطلسي، ويكتسب أهمية إستراتيجية للأمن القومي العربي. (1)
اقتصادياً؛ يُعد البحر الأحمر وخليج عدن ممراً استراتيجياً هاماً يمر من خلاله نحو 3،3 ملايين برميل نفط يوميّاً، و13 % من إجمالي التجارة العالمية. ويُمثل رابطاً أساسياً لحركة التجارة ما بين البحر المتوسط (أوروبا) والمحيط الهندي وبحر العرب، حيث يُقدر عدد السفن التجارية العابرة أكثر من 20 ألف سفينة سنوياً. وهو الممر الرئيس الذي يمر من خلاله النفط الخليجي إلى أوروبا وأمريكا. فضلاً عن احتوائه على ثروات اقتصادية وموارد طبيعية متنوعة، فهو أغنى مناطق الثروة المعدنية البحرية في العالم.
القواعد العسكرية: سباق النفوذ
سعت قوى إقليمية ودولية خلال العقود الماضية للفوز بنفوذ لها في المنطقة. وتصدرت سواحل جيبوتي الدول الإفريقية في عدد القواعد العسكرية الأجنبية، أقدمها القاعدة العسكرية الفرنسية. ووجدت الولايات المتحدة في أحداث تفجيرات سفارتيها في نيروبي ودار السلام عام 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول”، بالقرب من السواحل اليمنية عام 2000، وأحداث 11 سبتمبر 2001، فُرصة لبناء أول قاعدة عسكرية لها في القارة الأفريقية (جيبوتي)، تضم 4000 عسكريا.
وبفعل تصاعد أعمال القرصنة عام 2008، شكل الاتحاد الأوروبي قوة المهام المشتركة لمكافحة الظاهرة “أتلانتا” بمشاركة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والسويد وأسبانيا وبلجيكا واليونان. كما أنشأت اليابان وايطاليا والصين قواعد عسكرية لها في جيبوتي.
منذ انطلاق الحملة العسكرية على اليمن عام 2015، سارعت كل من الرياض وأبوظبي في بسط نفوذهما على الجانب الأفريقي من البحر الأحمر؛ اتجهت الإمارات إلى بناء قاعدة عسكرية لها في ميناء عصب في أريتريا، وقاعدة أُخرى في ميناء بربرة بجمهورية أرض الصومال (غير المعترف بها دولياً). وبهدف التحكم بباب المندب؛ أنشأت الإمارات قاعدة عسكرية جوية في جزيرة ميون اليمنية التي تقع في قلب باب المندب، وقاعدة أُخرى في منطقة “ذوباب”، وحوّلت ميناء المخا إلى قاعدة عسكرية. وشهد أواخر عام 2016 اتفاقاً بين (السعودية – جيبوتي) على إنشاء قاعدة عسكرية سعودية في البلاد .
وتمكنت تركيا من إنشاء أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال عام 2016. واتفقت مع الخرطوم على تطوير جزيرة “سواكن” السودانية على البحر الأحمر. فيما تجوب قطع بحرية إيرانية منطقة القرن الأفريقي وبحر العرب بشكل مستمر. وتحتضن جُزر “أرخبيل دهلك الإرترية” أكبر قاعدة عسكرية إسرائيلية على قمة جبل بارتفاع نحو 3000 متر فوق سطح البحر. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017؛ قدم الرئيس السوداني عمر البشير عرضاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين تضمن فكرة إنشاء قاعدة عسكرية روسية على ساحل السودان الشرقي.
الكيان الجديد: ظروف الميلاد وفُرص النجاح
في المُستجد؛ إعلان السعودية في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2018، عن تأسيس كيان لدول البحر الأحمر وخليج عدن بمُبادرة من الملك سلمان بن عبد العزيز، ويهدف الكيان الى حماية التجارة العالمية، حركة الملاحة الدولية، تعزيز الأمن والاستثمار والتنمية لدول الحوض.
الكيان يضم سبع دول عربية وأفريقية (السعودية، مصر، الأردن، السودان، اليمن، جيبوتي، الصومال)، تُشكل نُسبة مجموع سواحلها 90% من إجمالي طول ساحل البحر الأحمر الذي يبلغ نحو 2500 كيلو متر، ومساحة تُقدر بنحو 437 ألف كيلو متر مربع.
بيان اجتماع الرياض لوزراء خارجية الدول السبع؛ أكد على الاتفاق على أهمية إنشاء هذا الكيان. لكنه لم يتضمن إجابات كافية عن متى وكيف سيتم إنشاء هذا التجمع الجديد. وهل هو تحالف سياسي أو اقتصادي أو أمني؟ لتنتهي المشاورات الأولى في الرياض دون التوصل لاتفاق نهائي. أما التفاصيل – إن وجدت – فتم ترحيلها إلى اجتماع قادم في القاهرة لم يُحدد البيان موعد انعقاده.
لكن؛ ما هي مُستجدات وظروف هذا الإعلان؟ ثم ماذا عن أهدافه؟ ومن المستفيد من وراءه؟ وما مدى فُرص نجاحه؟
لا يُمكن الحديث عن الظروف التي قادت الرياض لإعلان تأسيس هذا الكيان بمنأى عن تطورات الحرب على اليمن، وكذلك الخلافات التي تعصف بدول الخليج العربية وسخونة العداء مع إيران. كما يأتي ذلك بعد ثلاثة أشهر من هجوم جماعة أنصار الله (الحوثيين) على ناقلتي نفط سعوديتين قُبالة مضيق باب المندب يوليو /تموز 2018، وتصريحات قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني بأن “البحر الأحمر لم يعد آمناً مع وجود القوات الأميركية في المنطقة” ردّاً على منع تصدير النفط الإيراني.
دون شك؛ الكيان الجديد هو منظومة أمنية وسياسية أكثر منه كيانًا اقتصاديًا؛ الهدف القضاء على ما تعتبره السعودية نُفوذاً إيرانيًا في البحر الأحمر وخليج عدن مُمثلاً بجماعة أنصار الله. كما يمكن اعتبار “تحالف البحر الأحمر” من الأدوات التي يمكن أن توظفها الرياض والقاهرة في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي في الإقليم. (2)
وللرياض مصلحة إستراتيجية في الحفاظ على أمن البحر الأحمر والوصول الآمن إلى خليج عدن والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. فضلاً عن مُحاولة السعودية الاستفادة من افتقاد الممر المائي لمنظومة أمنية حقيقية بهدف استعادة مكانتها، بعد تراجع دورها في المنطقة واهتزاز صورتها في العالم. يُضاف إلى كل ما تم الإشارة اليه؛ تسعى الرياض إلى مُحاصرة أي نفوذ من خارج الإقليم لا يحظى برضاها من خلال إلزام الدول المنضوية في هذا الكيان وقف السباق على منح قواعد عسكرية جديدة.
بالنسبة الى الدول التي لديها بالفعل قواعد عسكرية ونفوذ سياسي/ اقتصادي مثل (تركيا، قطر، إيران)؛ فلا يُستبعد أن تُمارس السعودية ضغوطاً وازنة على كل من (الخرطوم، جيبوتي، الصومال) في سبيل إنهاء هذا التعاون أو تجميده، مُقابل ورقة المساعدات والتنمية.
الجدير بالاهتمام؛ هو أن المُبادرة السُعودية تنسجم مع التوجهات الأمريكية. وتذهب بعض القراءات إلى وصف إعلان الرياض بـ “المشروع الأمريكي”، حيث لا يُمكن فرز هذا الإجراء بمعزل عن مُجمل السياسة الأمريكية في المنطقة والتي تضطلع الرياض بدور كبير فيها، أما إن جرى عكس ذلك، فمن المؤكد أن تكون هناك تداعيات قادمة (3). الى ذلك، تذهب دراسات أُخرى إلى حتمية تعاظم دور الفاعلين الخارجيين في ظل تركيز النظم السائدة في إقليم البحر الأحمر على استقرار نُظمها فقط، ما يجعل من الصعب إنشاء نظام فعال للأمن الجماعي. (4)
بطبيعة الحال؛ تحتمل منطقة البحر الأحمر الكثير من المفاجآت والتطورات المقبلة، ستزداد معها مساحات اللاعبين الإقليميين والدوليين. فالتنافس اليوم يختلف تماما عن تنافُس الأمس؛ أطرافاً وأهدافاً، غاياتٍ وتأثير.
المصادر :
كتاب (أمن البحر الأحمر.. أبعاد ومخاطر)، تأليف سامي عبد العزيز عثمان.
تحالف البحر الأحمر: احتواء التهديدات في نظام إقليمي مضطرب – المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
فكرة البحر الأحمر.. فكرة يمنية رفضتها السعودية وأحيتها الآن.. ما الدلالات- الموقع بوست.
القواعد العسكرية في البحر الأحمر.. تغيير موازين القوى – مركز الأهرام للدراسات.