عادل مرزوق- البيت الخليجي-
لعقود؛ مثّل الاستثمار في جماعات الإسلام السياسي ركيزة أساسية في سياسة قطر الخارجية. هذا الاستثمار كان خياراً استراتيجياً ضمن مجموع خيارات اعتمدتها الدوحة بعد الإنقلاب الفاشل فبراير عام 1996م، حين أدرك الأمير الشاب – آنذاك – الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أن دولاً خليجية مُحيطة به تتربص به، وتُصر على إعادة والده إلى السلطة؛ ولو كلفها ذلك تدخلاً عسكريًا.
فرضت الظروف السياسية والاقتصادية على الأمير الشيخ حمد بن خليفة ومهندس سياساته الخارجية الشيخ حمد بن جاسم تموضعاً خاصاً، يتفهم تعقيدات وتفاصيل العلاقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع السعودية ومجلس التعاون الخليجي، ويعمل على تأمين بقاء مؤسسة الحكم القطرية، تقوية شوكتها ,توسيع نفوذها، خليجياً وعربياً واقليمياً، بل ودولياً.
الامبراطورية القطرية: الطريق سالكة
سلة الاستراتيجيات التي تضمنت خيارات جريئة مثل تدشين الدوحة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب تشبيكًا لعلاقات الدوحة مع واشنطن بشكل أوثق أولاً، وكذلك السعي الدؤوب لنقل التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة إلى قطر ثانياً، تزامنت مع استراتيجية عابرة تقوم على بناء صلات وثيقة مع جماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين تحديدًا باعتبارها الجماعة الأكثر جماهيرية ونفوذًا والأوفر حظًا في مواجهة المنظومة “الوهابية” – نظريًا وعملياتيًا – التي تحتكر الرياض التحكم بها، وتسييرها.
على الأرض ووصولاً الى عام 2012 راكمت الامبراطورية القطرية أرباحها عبر دعم حركات التغيير في دول المنطقة وهو ما عُرف إصطلاحاً بثورات الربيع العربي، وسواء في مصر – حيث تمكن الإخوان المسلمون من الوصول الى سدة الرئاسة – أو في تونس أو ليبيا أو اليمن أو في سوريا التي كان نظامها السياسي قاب قوسين أو أدنى من السقوط.
في ذلك التوقيت، مثلت قناة الجزيرة اليد الضاربة للإمبراطورية القطرية مدفوعة بالثروات الطائلة الموجه الاعلامي والسياسي الأكثر تأثيراً وفاعلية في مختلف مناطق الصراع العربية. كانت مكاسب الدوحة على مدى العامين 2011 و2012 تتراكم، تكسب المعركة تلو الأخرى، وكان ارتباط الحركات الاحتجاجية في مصر وتونس والفصائل المسلحة في ليبيا وسوريا بالدوحة وثيقاً وبارزًا، لا على صعيد السياسات وخيارات التموضع وحسب، بل شمل ذلك التمويل المالي والعسكري أيضًا.
منتصف العام 2013 كان منعطفًا ثقيلاً في تحولاته على المشروع القطري في المنطقة. وقتئذ؛ بدأت الدوحة تتجرع سلسلة من الخسارات الثقيلة والمفاجئة، وهو انعطافة عنونتها الآلة الإعلامية القطرية بـ “الثورات المضادة” ورجوع “الدول العميقة”. في مصر، انقلاب للجيش المصري مدعوم بمؤسسات ونخبة المجتمع المدني تحت ادارة وغطاء مباشر من تحالف “سعودي/إماراتي” جديد ينجح في الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين. النظام السوري وداعميه الإيراني والروسي يستعيدون المبادرة من جديد وينجحون في تطويق الجماعات المسلحة في سوريا، في ليبيا وتونس تدخل اماراتي يحد من النفوذ القطري في البلدين؛ عسكريًا في ليبيا وسياسيًا في تونس.
لماذا السقوط؟
تشريح الإمبراطورية القطرية للشارع العربي كان يرتكز ويتخذ قراراته وفق فهم طائفي بامتياز. اختطت الدوحة مسافة معتبرة كفاصل منهجي وطائفي مع دول الممانعة وعلى رأسها إيران باعتبارها محورًا عدوًا يمثل الطائفة الشيعية. بعدها، تجلى الشارع العربي في فهم الدوحة السياسي باعتباره “طائفة سنية” مرتهنة بين فهمين/تأويلين اثنين؛ الوهابية التي هي بالضرورة قرين للرجعية ومثال صارخ للديكتاتورية، والإخوان المسلمين باعتبارهم اسلامًا وسطيًا يتعايش مع الديمقراطية ويتبناها.
لم تهمل الدوحة في بناء هذا المشروع البديل للوهابية الدينية والسياسية في المنطقة أدق التفاصيل؛ وبما يشمل تقديم مشروعها باعتباره المشروع المؤهل والقادر على مواجهة دول الممانعة والطائفة الشيعية واتساع النفوذ الإيراني في المنطقة. [i]
ولئن كان نهوض جماعة الإخوان المسلمين ونجاحها في الإمساك بالسلطة في مصر وتونس قد مثل تشظيًا وتحديًا حقيقياً للهيمنة السعودية، أخفقت الجماعة لاحقًا في أن ترث أو أن تتوضع أو أن تقدم نفسها للشارع المصري أو التونسي أو الليبي باعتبارها الأيديولوجية الاسلامية الجديدة، الديمقراطية، الجامعة والمقنعة. وبتعبير آخر؛ لم يستطع الإخوان التحول من حالة “الجماعة الاسلامية المغلقة” إلى حالة “الممثل الجديد والجامع للطائفة السنية”. وفي هذه النتيجة تفصيلٌ يتعلق بركاكة وخفة اختزال الشارع السني – العريض والمتنوع – باعتباره “طائفة” وبلحاظ ما يحمله تعبير “الطائفة” من خصائص سيسيولوجية تاريخية، وهو ما لم تتنبه له الدوحة والإخوان المسلمين على حد سواء.
2013: تصحيح المسار
ما يُحسب للدوحة منتصف عام 2013 هي تلك الديناميكة التي عالجت بها تطورات الموقف في المنطقة بشكل سريع وجريء.
في 25 يونيو 2013م تنازل الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة عن آل ثاني عن الحكم لولي عهده الأمير تميم بن حمد آل ثاني ما مثل انتقالاً هامًا في الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية وتدشيناً للإمبراطورية القطرية الثانية. قلصت الدوحة وبشكل لافت تداخلاتها وعملياتها خارج الحدود في تونس وليبيا ومصر . الأهم من ذلك؛ قدمت قطر للسعودية تنازلاً وازنًا – وذكيًا في الوقت ذاته – بأن كلفتها قيادة الملف السوري الذي كان حينها ملفًا خاسرًا، لا محالة.
مثلت تلك الإجراءات انسحابًا قطريًا جزئيًا من ملفات الصراع بشكل يحافظ على ما هو في اليد من مكاسب ويحد من مراكمة المزيد من الخسائر.
وعلى خلاف ما تذهب اليه منصات الإعلام في الرياض وأبوظبي والمنامة ودون أن يتبرأ من إرث والده أو أن يتنكر له، لم يكن عهد الأمير تميم بن حمد مُكملاً للمشروع السياسي لوالده[ii]. عمل الأمير الشاب على بناء وهندسة هوية قطرية جديدة Country Brand مغايرة تمامًا. هوية تبدو في كثير من تجلياتها اقتصادية/ رياضية أكثر من كونها هوية سياسية الطابع أو توسعية الهوى.
لا مناحة من الاقرار بأن الهوية القطرية الجديدة والتي ارتكزت على تقديم شخصيات قيادية جديدة من الأسرة الحاكمة غالبيتها “رياضية” و”اقتصادية”، كانت تشي بأنه ورغم خسائر الدولة الخارجية في 2013م إلا أن إرث وذاكرة العام 1996م قد بدأ في التلاشي، حيث آن للثروات القطرية أن تسير بكاملها إلى مسارات مغايرة عما كانت عليه ما بين 1996م و2013م. فعلياً، دخلت الدوحة بشغف سباق المنافسة في الخليج رياضياً واقتصاديًا لتزاحم باقي العواصم الخليجية كمركز تجاري جديد يتمتع ببنية تحتية متفوقة وفرص استثمارية واعدة.
على أي حال؛ وفي الوقت الذي كان فيه الأمير تميم بن حمد آل ثاني يشحذ خطاه في عملية اعادة تموضع جديد في المنطقة ومناطق الصراع لم يكن باستطاعة العهد الجديد من الإمبراطورية القطرية التخلص من تبعات الفترة الأولى بين حين وآخر. أدى بقاء الصلات مع الحلفاء السابقين عاملًا مؤثرًا في صياغة المرحلة الجديدة وارتباكاتها. خصوصًا وأن هذا الإنسحاب كان عليه مواجهة العديد من التحديات والإلتزامات الاقليمية خارج الحدود.
يونيو 2017: الإرتباك الجديد
الذي أربك ويربك قطر الجديدة منذ يونيو 2017 عشية اعلان ثلاث دول خليجية ومصر مقاطعة الدوحة وفرض حصار سياسي واقتصادي واجتماعي عليها هو ذاته ما أربكها العام 1996م. ولئن كانت الأسباب وعناوين الأزمة مختلفة إلا أن تغييراً في أسماء اللاعبين لم يحدث، تتصدر كل من أبوظبي والرياض والمنامة الصراع مع الدوحة، وتلعب القاهرة دورًا شرفيًا فيه؛ ليس أكثر.
وإذ كان الرهان السعودي/ الإماراتي/ البحريني يرتكز على تمييع ولاء المكونات الاجتماعية قبليًا ودينيًا داخل المجتمع القطري، وتفكيك تماسك الأسرة القطرية الحاكمة ذاتها عبر بعث قيادات جديدة. استطاعت الدوحة – أمنياً ودبلوماسياً – تأمين سيادتها بمساعدة الحليف التاريخي (تركيا) متجاوزة الشق الأخطر/ الأصعب من الأزمة.
تزعم هي القراءة أن التكتيك الذي اتبعته كل من الرياض وأبوظبي والمنامة في ادارة أزمتها مع قطر قد أجبر الدوحة على استدعاء خلايا ادارة الأزمات التي كانت للتو قد تقاعدت عن العمل أو هي في طريقها الى ذلك. تسببت الأزمة وتداعياتها في اجبار مؤسسة الحكم في قطر على استدعاء الحلفاء التاريخيين للإمبراطورية القطرية وفي اعادة تموضعهم من جديد؛ في مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين. كما وقدمت الأزمة لشخصيات وزانة ومستشارين سياسيين – تطالب دول أبوظبي والرياض تحديداً بإزاحتهم – حصانة سياسية وزانة وبات التخلي عنهم أو حتى تقليص أدوارهم تنازلات مرفوضة وتمس بسيادة الدولة.
شهدت قطر ما بين العام 1996م والعام 2017م تغييرًا دراماتيكيًا واستثنائيًا، داخل الدولة وفي سياساتها الخارجية. تحولت الدولة التي لم يكن ناتجها المحلي يزيد عن 9 مليارات دولار إلى إمبراطورية مالية وسياسية نافذة التأثير. من الصعب انجاز محاكمة كاملة لهذا “التغيير” الذي دعمته ثروات مالية ضخمة وآدوات إعلامية وسياسية ضاربة كانت ولا تزال شريكة في صناعة الحدث العربي، يومياته ومآلاته، وعلى ما يبدو؛ فصول الحكاية لما تنتهي.
[i]يمكن في هذا السياق مراجعة الخطابات السياسية للرئيس المصري السابق محمد مرسي حول الأزمة السورية وأمن دول الخليج في مواجهة إيران.
[ii]في محادثات قمة الرياض 2014 لمجلس التعاون الخليجي لطالما ردد الأمير تميم بن حمد على قادة الخليج مطالبته بعدم محاسبته على أحداث ومواقف حدثت في عهد والده. (شهادة الأمير بندر بن سلطان – اندبدنت عربية)