عباس الجمري- البيت الخليجي-
تطل سلطنة عُمان على ثلاثة بحار (بحر العرب، بحر عمان والخليج العربي)، وتمتد سواحلها على أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر من مضيق هرمز. وبذلك، تقع السلطنة في واحدة من أهم وأخطر مناطق الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.
ما يزيد هذه المنطقة غلياناً هو التواجد العسكري الكثيف لعدد من الدول، أهمها الولايات المتحدة وبريطانيا وإيران. من جهة أخرى، تتموضع مسقط في كيان خليجي يمرُ بأزمات بنيوية، خصوصًا مع تفاقم حصار/ مقاطعة قطر منذ منتصف 2017م، ويرى البعض أن اختيار كل من عمان والكويت سياسة الحيّاد بين الرياض والدوحة، ينذر بتفكك مجلس التعاون الخليجي أو إفراغه من مضمونه.
في تلك المنطقة الساخنة، المليئة بالصراعات المعقدة والمتشابكة، تتأثر الشعوب بالمحتوى الإعلامي المحلي والدولي على حد سواء، وتتخذ بعض الشعوب مواقف تحاكي وتستجيب لهذا المحتوى وتنساق للسياسات الحكومية وتداعياتها.
تمتاز السلطنة في خضم تلك التشابكات بسياسة هادئة ومتوازنة، ودور فريد يتمثل في الوسيط النزيه بين مختلف الأطراف. في السياق ذاته، تتميز عمان بمكونات اجتماعية لا تبدو متشبعة بالشحن السياسي الذي يلقي بظلاله على السلوك الاجتماعي لمجتمعات المنطقة. خصوصًا أن كلفة التدخل العماني في تعقيدات الإقليم عالية، ما يجعل من مسقط تنزاح لخيار أن تنأى بنفسها؛ حكومة وشعبًا.
عُرف عن الشعب العماني أنه متسامح بطبيعته، ولا تلقى الكثير من الأزمات الطائفية والسياسية التي تمر بها المنطقة في الداخل العماني أي تفاعل وازن. لكن، ما سبب ذلك؟ وهل يبدو هذا التسامح انعكاسًا حقيقيًا لصورة مثالية لواقع السلطنة من الداخل، أو أنه خيار استراتيجي مقصود؟ نطرح هذه الأسئلة لتكون منطلقاً لفهم هذه الصورة المعقدة، ما هو سر عدم تأثر السلوك الاجتماعي بالصراعات السياسية (الطائفية خصوصًا)؟ وما هو دور وسائل الإعلام العمانية في صناعة الوعي والمواقف المجتمعية؟
يعيش في عمان ما يقارب من 4 ملايين و900 ألف مواطن ومقيم وفقاً لأحدث الإحصائيات السكانية لعام 2018م، يمثل الأجانب ما مجموعه 45% من تعداد السكان، وهو ما يعني أن ما يقارب من نصف سكان السلطنة لا يعنيهم – بالدرجة الأولى- التدخل أو الاهتمام في الشأن السياسي الداخلي أو الخارجي. أما العمانيون، فيعيش الكثير منهم في جبال الحجر والمناطق المحيطة بها في الشمال، بالإضافة إلى عدد قليل من المجموعات السكانية –كما تشير عدد من المسوحات- في المناطق المحيطة بمدينة صلالة في أقصى الجنوب، أما سكان مسقط فغالبيتهم معنيون بالعمل والكسب والتجارة والخدمات السياحية.
العمانيون وصراعات المنطقة
يمثل الشعب العماني حالة فريدة في التعايش السلمي بين طوائفه، المذهب الإباضي – المذهب الرئيس في السلطنة – يمثل 70%، يليه المذهب السني ثم الشيعي، ويجنح الإباضيون في كل أماكن تواجدهم (سلطنة عُمان، زنجبار، أجزاء من ليبيا وغيرها) إلى تجنب الصدام مع المكونات المذهبية الأخرى. ينفي الإباضيون صلتهم التاريخية بالخوارج، لهم أئمة يختصون بهم ويبدون مجتمعاً مغلقًا؛ إن صح التعبير.
أول دولة تأسست للإباضيين هي عُمان، حينما بايع الإباضيون إمامهم أحمد بن سعيد في عام 1161هـ/ 1748 م، وحددت الإمامة في سلالة آل سعيد الذين حكموا عمان حتى اليوم. لكن لهذه الخلفية الدينية التي تجنح للسلم والمهادنة والتوافقات “لها وجه آخر” من صميم العقيدة أيضا، حيث يؤمن الإباضيون – كما هي غالبية المذاهب الإسلامية – أن الخروج على إمام الإباضية (حاكم الدولة) خروج غير مشروع، ومخالفة دينية قبل أن تكون سياسية، وهو ما يعقد تطور هذه المجتمعات سياسيًا وحقوقيًا، كما ويضيق الخناق على حرية الرأي والتعبير، بل ويُنمِّط السلم الأهلي، أي يجعله مقبولًا في قالب واحد، فهم واحد قوامه (عدم التدخل في شؤون الحكم إلا بقدر ما يقبله السلطان)، بل وبقدر التماشي مع سياسة السلطان.
ولئن كانوا أكثرية في سلطنة عمان، يُدرك الإباضيون أنهم أقلية في محيط خليجي غالبيته من “السنة” و”الشيعة”، ويعتقد غالبية “السنة” و”الشيعة” بعدم صحة المذهب الإباضي كما هو اعتقادهم فيما بينهم. غنيٌ عن القول، أن نشوب أي صراع طائفي في المنطقة لن تكون “الإباضية” فيه سوى أقلية، وعليه، يبدو خيار النأي بالنفس وتجنيب البلاد والإقليم أي صراعات طائفية خيارًا استراتيجيًا، قبل أن يكون “سمة” في السياسية الخارجية للسلطنة.
اضطرابات العام 2011م
شهدت عمان اضطرابات واسعة ضمن ما عرف بالربيع العربي في 2011م، وقمعت السلطنة المحتجين بالقوة. بالتوازي، سارعت السلطات في إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، وهو ما ساعد على إخماد الاحتجاجات بنجاح.
وتمثل القوانين الجنائية في السلطنة العصا الغليظة في يد مؤسسة الحكم لإقصاء المناوئين، وتنص المادة 31 من النظام الأساسي للسلطنة على أن أي مطبوعة “تؤدي إلى الفتنة أو تمس بأمن الدولة أو تسيء إلى كرامة الإنسان أو حقوقه” ستؤدي إلى اعتقال صاحبها، كما تحمي المادة 126 من قانون العقوبات السطان من أي رأي أو انتقاد، وتعطي صلاحيات واسعة لمعاقبة المجني عليه، كما يحظر قانون العقوبات إنشاء المنظمات والتجمعات أو إقامة التظاهرات.
في السلطنة، ثمة مزيجٌ محكمٌ ومدروس، بحسن الإدارة والعصا الغليظة التي تنظم وترتب إيقاع المجتمع، إضافة إلى العقيدة الإباضية التي يغلب عليها الجنوح لخيارات السلم والتعايش والقبول بالآخر.
سياسات الإعلام وأنفة التاريخ
يمثل الإعلام المحلي أداة فاعلة في صناعة وعي الفرد والجماعة داخل السلطنة، وتركز وسائل الإعلام على تأمين وضبط التآلف والتعايش المذهبي في الداخل من جهة، والتوازن الخارجي لسياسات الدولة من جهة أخرى.
وتساهم السياسة الخارجية لعمان مساهمة فاعلة في حماية العُمانيين من التورط في خطابات الإحتراب الديني والمذهبي، يُراقب هذا الإيقاع الجهاز الأمني، وتساعدته الخدمات الاجتماعية وكل ذلك بيد الرافعة الإعلامية للسلطنة.
مثلت عمان في القرن الخامس عشر قوة اقليمية حقيقية تنازعت ودخول بريطانيا الى المنطقة (وهو اطلاق لا يخلو من المبالغة في بعض الكتابات التاريخية). تميزت السلطنة بأسطول بحري كبير وأنفة سياسية. من المؤكد أن التاريخ العماني المليء ببطولات الإستقلال وطموحات التوسع، ما يجعل السلطنة في سياساتها الخارجية صعبة المراس، عصية على أن تكون مجرد دولة تابعة، أو منقوصة السيادة.
القرن العشرين مثّل واقعًا جديدًا من خلال خارطة سياسية مختلفة، أصبحت السعودية بفضل الوفورات المالية والاقتصادية بعد اكتشاف النفط، البلد الأكثر أهمية سياسًا واقتصاديًا لا على مستوى الإقليم، بل وعالمياً أيضاً، كذلك هو دخول إسرائيل في الخارطة الشرق أوسطية، زاد من تغير المنطقة وتوازنات القوى، كما ساهم التمدد الإيراني – عبر حلفائها/مليشياتها وتعاظم قوتها الذاتية – في المزيد من التعقيد، كذلك هو الدور الكبير الذي تلعبه تركيا.
هؤلاء اللاعبين الجدد والتوازنات الجديدة ساهمت في تحجيم السلطنة، خصوصا مع فقدانها مستعمراتها القديمة ومناطق نفوذها. رغم ذلك، استطاعت مسقط البقاء والمحافظة على مستوى معقول ومقبول من الاستقلالية السياسية، فكان (الحياد) أسلم الخيارات في وسط هذه التوازنات الجديدة أولاً، والموارد الذاتية المحدودة والتعداد السكاني ثانياً، والحدود البحرية والصحراوية والجبلية التي يتطلب تأمينها موزانات أمنية وعسكرية ليست بالقليلة.
وإذا كانت المصالح الاستراتيجية والسياسة الخارجية للسلطنة قد حسمت أمرها، فلا بد أن يكون الداخل العماني مهيئاً لتبني الخيار ذاته، وهو ما يفسر دأب المسؤولين العمانيين في الحفاظ على هذا هذا الرتم الاجتماعي. يمكن القول، أن السلم الأهلي ورواج ثقافة التسامح والقبول بالآخر والنأي بالنف عن صراعات الإقليم السياسية والطائفية يمثلُ استراتيجية للأمن القومي العماني، وليس فضيلة أخلاقية أو سجية رفيعة وإن كان ذلك مشمولاً في حزمة الأسباب لما تمتاز به شخصية الإنسان العماني ذاتها من خصائص وصفات.