عادل مرزوق- البيت الخليجي-
لم تمر منطقة الخليج باختلال فاضِح في توازنات القوى كما هي عليه الآن. بينما تتصدر إيران ومحورها المشهد على ايقاع المواجهة المتصاعد في مياه الخليج وبما يشمل الأراضي السعودية مؤخراً، يتقهقر محور السعودية والإمارات باعتباره التحالف العربي الأقوى على ساحل الخليج؛ أو هكذا كان يبدو على الأقل.
وإذا ما أردنا عنونة هذا التغيير الدراماتيكي في منحى السياسات الخارجية لمحور الرياض ورهاناته في منطقة الخليج، فلا أقل من اعتباره انكشافاً “مُروعًا” لدول الخليج أمام نفوذ إيران وتهديدات الحرب المتسارعة؛ خصوصاً بعد أن برهن محور طهران، منتصف شهر سبتمبر/ آيلول الآفل، وهو يُعطل ما يصل إلى نصف الإنتاج السعودي من النفط، أن طهران ليست مترددة في الوصول بالوضع الراهن في الخليج الى الحرب، وأن بقاء إيران تحت ضغط العقوبات الأمريكية الخانقة خيارٌ مرفوض.
معادلة طهران: العقوبات تساوي الحرب
لاشك أن قسوة العقوبات الأمريكية وضراوتها على طهران واتساع رقعتها الجغرافية داخل إيران وخارجها فرضت تعاملاً مغايراً ومعالجة مختلفة لما عهدناه من إيران في إدارتها لملف العقوبات الأمريكية أو الدولية منذ العام 1979م. فعلياً، أغلقت العقوبات الأمريكية على طهران – وهو ما سعت وساهمت كل من الإمارات والسعودية في انجازه – نوافذ الحياة والقدرة على البقاء، وهو ما جعل طهران تعتقد، أكثر من أي وقت مضى، أن القبول بالبقاء في ظل العقوبات ليس خيارًا أفضل مقارنة بالدخول في حرب ترتد تبعاتها على الجميع، لا إيران وحدها. يُدرك الإيرانيون جيداَ، أن المزيد من الضغوط على السعودية والإمارات تعني المزيد من التراجعات والتراخي، وأن خسائر الأمريكيين والسعوديين والإماراتيين في أي حرب هي أكثر مما قد تتكبده طهران من خسائر.
تُدير إيران هذا الموقف المُلتبس في الخليج بتصعيد يُربك خطط وحسابات اللاعبين المحليين و الإقليميين والدوليين أولاً، وباختراقات تتخطى خطوطاً حمراء كان يُعتقد أن أحدًا لا يستطيع تجاوزها ثانيًا. الأكثر تعقيداً في هذا المشهد هو أن إيران لا تبحث عن حلول سريعة لرفع العقوبات الأمريكية وحسب، بل في أنها تُريد – علاوة على ذلك – أن تكون لها الكلمة الفصل في مسرحة وتفصيل هذه الحلول على مقاساتها، وبما يضمن لإيران ومحورها انتصاراً معنوياً أيضاً. هذا ما يُفسر رفض طهران وتمنعها عن تلبيتها دعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحوار؛ مرة بعد مرة.
دول الخليج: حفلة الانسحابات
تؤكد تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مطلع الشهر الجاري في مقابلة مع برنامج “ستون دقيقة” الذي يبث على شبكة “إم بي إس” الامريكية، تؤكد أن شكوك الرياض في أنها تواجه طهران منفردة، وأن “واشنطن” غير مهتمة أو راغبة في شن حرب على إيران قد تحولت الى قناعة تامة، وهو ما يقتضي، بحسب الرياض، تغييراً دراماتيكيًا في التعامل مع طهران، وبما يمتد إلى الملف اليمني أولاً، باعتباره ملف الإشتباك الأهم والأكثر سخونة بين البلدين.
تصريحات ولي العهد السعودي التي أكد فيها أنه “يفضل الحل السياسي على الحل العسكري مع ايران” سبقتها انسحابات عسكرية اماراتية من اليمن ومواقف دبلوماسية متواترة من أبوظبي، تؤكد على ضرورة خفض التصعيد في المنطقة واللجوء الى حلول “سياسية” لمختلف القضايا العالقة، وفي مقدمتها صراع واشنطن ودول الخليج مع إيران.
وعلى الرغم من أن مختلف الأطراف اليوم تؤكد على أولوية الحلول السياسية لأزمات الخليج سواء في ملف اليمن أو ملف إيران النووي، ينبغي الانتباه إلى أن مجموع الصراعات التي شهدتها الخليج بدءاً من حرب اليمن مطلع العام 2015م وحتى اليوم قد أسست لمتغير جديد ومهم في توازنات القوى، وهو أن إيران باتت القوة الاقليمية المهيمنة في المنطقة، وأن السعودية التي عجزت عن الظفر بأي ملف من ملفات الاشتباك في الخليج (حرب اليمن/ الأزمة الخليجية/ ملف إيران) هي في طريقها إلى التحول من قوة اقليمية وازنة أمام إيران إلى دولة اقصى ما تستطيعه هو أن تتصدر الهامش السياسي في المنطقة؛ على أبعد تقدير.
ثمن السياسات الخائبة
أتاحت السياسات الرعناء لكل من السعودية والإمارات في منطقة الخليج مُضافاً لها حالة “اللاستراتيجيا” التي ترتكز عليها واشنطن في توجيه سياساتها الخارجية، أتاحت لإيران الفرصة الكاملة في بسط نفوذها وتكسير آخر الجُدران المُتخيّلة أمامها في منطقة الخليج. الملفت للنظر هو أن ذلك يحدث في توقيت تبدو إيران فيه أضعف اقتصادياً، وبعلاقات غير مستقرة مع حليفها الأهم؛ روسيا.
اليوم؛ إذا كان خروج إيران من كماشة العقوبات الأمريكية ودخولها حواراً مباشراً مع إدارة الرئيس دونالد ترامب قد يتيح لدول الخليج العربية أن تتنفس الصعداء خشية الدخول في حرب اقليمية مدمرة، فإن ذلك أيضًا، يُقدم إلى الإيرانيين فهماً جديداً ويرسم قواعد اشتباك جديدة بين إيران ودول الخليج العربية، تتضمن هذه القواعد حدوداً أكثر اتساعاً – وبالتالي خطورة على أمن دول الخليج – مقارنة بما كان عليه المشهد في قبل حرب اليمن وانسحاب واشنطن من الاتفاقية النووية وفرض عقوباتها على طهران.
ما معنى ذلك؟ مثل هذا الانتصار لإيران يُراكم لديها خبرة وتجربة تؤكدان أن في استطاعتها – متى أرادت ذلك – تجاوز حدود لم تكن تجرؤ سابقاً على تجاوزها، وأن ما هو في حوزتها اليوم من نفوذ سياسي وجغرافي هو أقل مما تستطيع الظفر به. الأخطر من ذلك، هو أن بإمكان إيران إعادة رسم سياساتها في المنطقة دون أن تكون السعودية أو دول الخليج العربية عائقاً أمامها.
في الخلاصات، سعت كل من الرياض وأبوظبي إلى انتهاج سياسات خارجية “حادة” تهدف إلى تطويق إيران والحد من نفوذها. في سبيل ذلك، دخلتا حرب اليمن، وكثفتا من الجهود الدبلوماسية ضد إيران مستعينتان بموقف أمريكي داعم. ما نتجت عنه هذه الرهانات كان العكس تمامًا. لماذا؟ على الدوام كانت السعودية عدوة نفسها، لم تستجب للحوار مع الحوثيين وهم في أسوأ حالاتهم، لم تكترث لمواقف ثلاث عواصم خليجية لا تشاطرها الرهانات بل أمعنت في تشطير محورها(مجلس التعاون الخليجي). الأهم من ذلك أنها لم تتنبه إلى أن إيران التي لم تهزمها العقوبات وهي محور “الدولة الواحدة”، لن ترضخ وهي محور كبير يحيط بالسعودية من كل جانب.