رضي الموسوي- البيت الخليجي-
تقف دول مجلس التعاون الخليجي أمام تحديات كبرى ممثلة في عملية الإصلاح الشامل التي تفرضها معطيات المرحلة الراهنة. يفرضها أيضاً عصر تتطور فيه الأحداث بسرعة شديدة وغير مسبوقة تجاه منحدرات خطيرة، بانت بعض ملامحها في سوريا وليبيا والسودان والجزائر والعراق واليمن، بينما علِقت بعض دول المنطقة وعانت من تداعيات الانهيارات الاقتصادية والسياسية وطغيان الحلول الأمنية على الحل السياسي المطلوب، وغابت برامج الاصلاح الاقتصادي والسياسي عن أجندة العمل الخليجي المشترك، المتمثل في منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي تتخذ امانته العامة من الرياض مقرا رئيسيا لها، منذ تأسيس المجلس عام 1981.
قد تكون الصدفة البحتة هي التي زامنت موعد القمة الخليجية الأربعين في العاشر من ديسمبر الجاري مع اليوم العالمي لحقوق الانسان الذي يصادف في نفس اليوم، وليس شيئا آخر. ولا يعتقد أحد أن المسؤولين في الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية قد فكروا بتزمين عقد قمة خليجية سنوية مع مناسبة أممية عن حقوق الانسان، فهذا أمر لايدور في خلدهم وليس من أولوياتهم، على الأقل في الوقت الراهن. لكن قمة مجلس التعاون الخليجي تعقد للعام الثاني على التوالي في العاصمة السعودية الرياض، بدلًا من عقدها في العاصمة الاماراتية أبوظبي، التي اعتذرت عن استضافتها، على أن تعقد في الرياض مقر الأمانة العامة للمجلس.
ليس مكان عقد القمة مهمًا، رغم أهميته في هذا الظرف المعقد والمفصل الذي تعيشه المنطقة، بل هو في مخرجات هذه القمة التي تعقد في ظروف أصعب من ظروف القمم السابقة، خصوصًا إذا ما تحدثنا عن ضرورات تحقيق الاصلاح السياسي في بلدان المنظومة بعد مرور ثمانية وثلاثين عامًا على تأسيس المجلس، وما رافق سنواته الأولى من انعطافات حادة، ومنها استمرار الحرب العراقية الايرانية لثمان سنوات عجاف، على غير المقرر والمتوقع، وما شكلته من تحديات على الصعيدين الأمني والعسكري، فضلًا عن حالة الاستنزاف التي عانت منها دول المجلس وكل من إيران والعراق، اللتان كلفتهما الحرب مجتمعتين أكثر من 500 مليار دولار ونحو مليون قتيل وأكثر من مليون ونصف المليون جريح، بخلاف الخسائر غير المباشرة المتصلة بتعطل عملية التنمية الانسانية في البلدين. أما دول المجلس فقد كانت تراقب الحرب بوجل أن تنتقل شراراتها المباشرة إلى بعض أراضيها بعد أن عانت من الكلف المالية وتراجع أسعار النفط في العام 1983، وبدء معاناة الموازنات العامة للدول الست من العجوزات، ما جعل عملية تمويل الحرب مسألة فيها الكثير من وجهات النظر، وهو الأمر الذي اتضح قبيل اجتياح الجيش العراقي للاراضي الكويتية في الثاني من أغسطس 1990م.
تشتد الضغوطات وتتزايد عمليات الإبتزاز المتعددة المصادر الاقليمية والدولية على دول الخليج العربية نظرًا لما تتمتع به من موقع جيوسياسي واقتصادي ومالي متميز، وتتأخر فيها عملية الاصلاح السياسي الذي ينشده ابناؤها، حيث تثير الثروات غبارًا كثيفًا على متطلبات الاصلاح. تنتج دول مجلس التعاون الخليجي نحو 18.5 مليون برميل يوميًا تشكل قرابة 18.7 بالمئة من الانتاج العالمي، وتسبح على احتياطي نفطي يفوق 496 مليار برميل يشكل أكثر من 39 بالمئة من الاحتياطي العالمي، ويبلغ الناتج المحلي الاجمالي للدول الست مجتمعة 1.5 تريليون دولار لترتقي الى المرتبة الثالثة عشر على المستوى العالمي، ويصل عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة إلى أكثر من 50 مليون نسمة، يشكل سكان السعودية منها قرابة 60 بالمئة، ويشكل الوافدون قرابة نصف عدد السكان في دول المجلس التي تعاني من أزمة بطالة بين ابنائها وخصوصا وسط الشباب، ما يثير المزيد من القلق. قادت هذه المعطيات الى زيادة حكومات المجلس من الانفاق الأمني والعسكري ليصل الى مستويات قياسية، حيث تأتي دول المجلس في المرتبة الثالثة عالميًا في الانفاق العسكري بعد الولايات المتحدة الامريكية والصين. لكن الجوانب الامنية والعسكرية وزيادة الانفاق عليها على حساب التعليم والصحة والعمل، تؤسس لفجوة كبيرة بين الجيل الجديد الذي يتطلع الى حياة عصرية تتسم باشاعة الحريات العامة والخاصة واحترام حقوق الانسان والسير على طريق الديمقراطية الحقيقية وتحقيق التعددية السياسية، وبين حكومات المجلس التي لاتزال تتعاطى بذات العقلية التي اتسمت بها السنوات الاولى من الاستقلالات السياسية وتأسيس مجلس التعاون.
عملية الاصلاح السياسي هي ضرورة، وينبغي الايمان بها، وتبدأ بمراجعات وانفراجات أمنية وسياسية قادرة على إعادة بناء الثقة بين المواطن الخليجي وحكوماته، والشروع في تنفيذ ما اصطلح على تسميته ب”العدالة الانتقالية” لتحقيق المصالحات الوطنية في البلدان الخليجية التي عانت من الازمات منذ عقود وتغيب عنها الديمقراطية والتمثيل الشعبي الحقيقي.
إن حجم الإنفاق في قطاعي الأمن والدفاع المتضخم وصاحب الارقام الفلكية، لا يغني البتة عن الشروع في تحقيق الاصلاح السياسي المنشود وفق ما قررته الشرعية الدولية التي تتكثف في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية. فرغم التراجعات التي تعاني منها المنطقة العربية وحالة التشظي القائمة في بلدان عديدة من هذه المنظومة بدعم من دول اقليمية ودولية كبرى، إلا أن الحاجة ماسة لعملية اصلاح حقيقي في عصر ثورات الاتصالات والتقنيات والتغيرات السريعة. فلا يمكن الحديث عن تطوير بلدان مجلس التعاون الخليجي في وقت تعاني فيه نسبة كبيرة من شبابه من البطالة والتهميش وعدم اشراكهم في عملية التنمية الانسانية التي يكون فيها الإنسان وسيلة وهدف في آن واحد.
صحيح أن الاتفاقية الأمنية بين دول المجلس هي أولى الاتفاقيات التي سعت اليها ووقعتها دول المجلس، وجاءت قوات درع الجزيرة لتكمل الحلقة وتمثل الدراع العسكري لدوله وكانت لها صولات وجولات في بعض بلدانه، لكن الصحيح أيضًا أن مجلس التعاون باعتباره حلف عسكري-أمني تأسس ردًا على استمرار الحرب العراقية الايرانية، يبحث عن الاستقرار الامني والسياسي في أمواج الخليج الهادرة. وصحيح أيضًا أن الفوائض المالية التي تتمتع بها منظومة مجلس التعاون الخليجي ممثلة في صناديقها السيادية والبالغة اكثر من 3 تريليونات دولار تشكل رافعة مالية واقتصادية كبرى تفتقدها أغلب دول العالم، إلا أنها لا تشكل بديلًا عن متطلبات الاصلاح السياسي الذي يعني المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومراقبة اداء الحكومات وتصويب اخفاقاتها بتعزيز التوزيع العادل للثروة وتطبيق العدالة الاجتماعية بين الناس واشاعة ثقافة التسامح بين مكونات المجتمع.
يتوجب الايمان بأن تحقيق الأمن لا يتعارض مع الشروع في عملية الاصلاح السياسي وتشييد الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، دولة المواطنة المتساوية، دولة المؤسسات والقانون. الاصلاح السياسي هو أصل ومرتكز الاستقرار الاجتماعي والسلم الاهلي.