العربي الجديد-
لم تنتظر دولة الإمارات قبول إسرائيل بشروط ومقررات "مبادرة بيروت للسلام" (عام 2002)، لإرساء علاقات وزيارات علنية مع دولة الاحتلال، ناهيك بالعلاقات والاتصالات السرية التي جمعت بين الطرفين قبيل المبادرة وظلت طيّ الكتمان. مع ذلك، يمكن رصد أول زيارة رسمية وعلنية لمسؤول إسرائيلي إلى الإمارات منذ العام 2003، عندما شارك الوزير الإسرائيلي مئير شطريت إلى جانب محافظ بنك إسرائيل يوسي كلاين، في مؤتمر صندوق النقد الدولي في الإمارات، لتتبع ذلك مشاركات أخرى علنية وزيارات أكثر كثافة حتى بعد صعود بنيامين نتنياهو إلى الحكم مجدداً في العام 2009.
لكن اللافت بشكل خاص أن وتيرة التعاون والتطبيع بين إسرائيل والإمارات اندفعت بقوة أكثر بعد اندلاع ثورات الربيع العربي ووقوف الإمارات على رأس الثورة المضادة والانقلاب على الثورات العربية ومحاربتها بكل الطرق. مع ذلك، تنبغي الإشارة مثلاً إلى التحوّل في مواقف الإمارات بشكل متتابع منذ العام 2010 بعد أن تراجعت عن رفض مشاركة رياضيين إسرائيليين في مباريات وأنشطة رياضية دولية وقبلت بمشاركة الرياضية الإسرائيلية شاحر بئير مع وفد رسمي إسرائيلي، وتبع ذلك القبول بمشاركة فريق جودو إسرائيلي وعزف النشيد الوطني الإسرائيلي ورفع العلم الإسرائيلي في دبي.
واتخذت المباريات والنشاطات الدولية غطاء لتبرير قبول مشاركة لاعبين وفرق يمثّلون إسرائيل في الإمارات، بشكل متسارع. وفي العام 2010 مثلاً، شارك الوزير الإسرائيلي عوزي لانداو في مؤتمر الطاقة المتجددة في أبوظبي. واستمرت الزيارات والتعاون حتى بعد اغتيال القيادي العسكري في "حماس" محمود المبحوح عام 2010 في دبي، بعد أشهر من زيارة لانداو.
لكن فترة ما بعد الثورات العربية شهدت الزخم الأكبر، بموازاة استمرار التعاون الأمني بين تل أبيب وأبوظبي، وإبرام صفقات عسكرية مختلفة، حتى قبل ذلك التاريخ، والتي يعود أول توثيق لها في تقرير للكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان في صحيفة "هآرتس"، إلى 18 سبتمبر/أيلول 2008 بشأن صفقة بمئات ملايين الدولارات بين الإمارات وشركة ATG المسجلة في سويسرا كشركة دولية ويملكها الإسرائيلي ماطي كوخافي، والذي جنّد عشرات من الجنود ورجال الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للعمل فيها، من "الموساد" و"الشاباك" والجيش، بينهم سابقاً قائد سلاح الجو الإسرائيلي إيتان بن إلياهو ورئيس مجلس الأمن القومي الأسبق غيورا أيلاند. ووثّق موقع "ميدل إيست آي" في فبراير/شباط 2012 تفاصيل هذه الصفقة، مبيناً أنها شملت أجهزة مراقبة ومجسات ووسائل حماية لمراقبة البنى التحتية لمنشآت النفط في الإمارات. كما أشارت تقارير إسرائيلية أيضاً، نقلاً عن مصادر أجنبية (بحسب عادة الصحف الإسرائيلية لتفادي الرقابة العسكرية) إلى أن الإمارات كانت من بين الدول التي اشترت في العام 2015 منظومات للقبة الحديدية.
وشهدت فترة اندلاع الثورات العربية واصطفاف أبوظبي ضدها، غزلاً إسرائيلياً-إماراتياً علنياً تحت مسميات المصالح المشتركة ومواجهة الأخطار التي تهدد الطرفين، وعلى رأسها إيران في الشرق و"الإخوان المسلمون" وتنظيم "داعش". وعلى صعيد الزيارات والعلاقات الدبلوماسية، شهدت هذه السنوات أيضاً افتتاح مقر للبعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في دبي عام 2015، ادعت الإمارات أنه ضمن مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة. كما شهدت زيارات متكررة أيضاً لوزير الطاقة يوفال شطاينتس، عام 2016، وأخرى لوزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية، ميريت ريغيف، التي دعيت أيضاً لزيارة مسجد بن زايد في العام 2018، وزيارة وزير الخارجية يسرائيل كاتس في يونيو/حزيران 2019، ووزير الاتصالات أيوب قرا.
وعلى امتداد السنوات الأربع الأخيرة، كانت العاصمة الأميركية واشنطن مركزاً لتعزيز العلاقات بين إسرائيل والإمارات من خلال اللقاءات التي جمعت سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة، والسفير الإسرائيلي السابق رون ديرمر. كما أن العتيبة لم يتردد في لقاء رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في مطعم أميركي عام 2018، وإن تم إخراج الأمر على أنه حصل بطريق الصدفة، إذ قام العتيبة والسفير البحريني عبدالله بن راشد آل خليفة أثناء تواجدهما في مطعم بواشنطن، كان نتنياهو يتناول الطعام فيه مع زوجته، بدعوة الأخير لطاولتهما، وتبادل الحديث معه. وتم إبراز ذلك في وسائل الإعلام الدولية والعربية المختلفة. وفي يناير/كانون الثاني من العام الحالي، كان العتيبة أحد الحاضرين في حفل إطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى جانب نتنياهو، خطة "صفقة القرن" (الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية).
وعلى مدار الأشهر الأخيرة، تبادلت إسرائيل والإمارات سلسلة من التصريحات لمسؤولين رفيعي المستوى بمن فيهم نتنياهو حول آفاق التعاون المشترك، الحالية والمرتقبة لاحقاً. وفي مارس/ آذار الماضي، تفاخر نتنياهو بأن جهاز الاستخبارات "الموساد" تمكّن من جلب أكثر من مائة ألف وحدة فحص للكشف عن فيروس كورونا من دول عربية لا تربطها علاقات رسمية بتل أبيب، لكن الصحف الإسرائيلية لمّحت في حينه إلى أن الحديث يدور عن الإمارات. كما أكد موقع "يديعوت أحرونوت" مطلع يوليو/تموز 2020 أن تلك المعدات جُلبت من الإمارات.
وبلغت مظاهر التطبيع أوجها في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين، من خلال إرسال أبوظبي طائرة من الطيران الإماراتي الرسمي إلى مطار بن غوريون مباشرة بحجة نقل مساعدات طبية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لمواجهة جائحة كورونا. ورفض الفلسطينيون استقبال المساعدات كي لا تكون غطاء للتطبيع مع الاحتلال. وتكرر إرسال الطائرة في يونيو، فيما بلغ الأمر ذروته في المقالة التي نشرها السفير الإماراتي يوسف العتيبة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" تحت ستار رفض ضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية، تحت عنوان إما الضم أو التطبيع. لكن يوم 25 يونيو الماضي، شهد إعلاناً إماراتياً وإسرائيلياً عن اتجاه الطرفين للتعاون في مجال العلوم ومواجهة كورونا. وهو إعلان صدر بداية عن نتنياهو، حول إعلان مرتقب لوزيري الصحة في الإمارات وإسرائيل بخصوص التعاون لمواجهة كورونا. وفي الثاني من يوليو/تموز 2020، أعلنت شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، توقيع اتفاق تعاون وصفته بـ"التاريخي" مع "مجموعة 42" الإماراتية، في مجال مكافحة فيروس كورونا. ووفقاً لبيان الشركة الإسرائيلية وما نقلته هيئة الإذاعة العامة "كان"، فقد جرى توقيع الاتفاق خلال محادثة بتقنية "فيديو كونفرنس" مع الشركة الإماراتية عبر قسم "أنظمة التا" في شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية.
هذا التحوّل في العلاقات لا يمكن فصله عن التغييرات في الإمارات من جهة، وفي الرؤية الإسرائيلية لدول الخليج خلال العقد الأخير، من جهة أخرى. وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي، كانت النظرة الإسرائيلية التقليدية لدول الخليج تنطلق من كونها تشكّل منظومة واحدة، لها موقف موحّد من مجمل القضايا المتعلقة بسياسة هذه الدول العربية والخليجية والإقليمية مع إعطاء ثقل خاص للسعودية باعتبارها أكبر هذه الدول وذات مكانة خاصة في العالم العربي كما في الاستراتيجية الأميركية، يكفي أن تتخذ موقفاً ما حتى تتبعها بقية الدول، أو أن تعطي ضوءاً أخضر حتى تسارع دول الخليج الأخرى لترجمة هذا الضوء إلى سياسات على الأرض.
وبنت إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، آمالاً على قبول دول الخليج بإسرائيل ضمن صفقة سلام إقليمية، مع إدراكها أن أي تقدّم في العلاقات مع الخليج سيكون مرهوناً بحل للقضية الفلسطينية، ووضعت إسرائيل له سيناريوهات لم تخلُ من العنصرية والاستعلاء، منذ وضع شمعون بيريز عام 1992، خلال التنافس على زعامة حزب "العمل" بمواجهة إسحق رابين، معادلته العنصرية "العقل الإسرائيلي والمال الخليجي والعمالة العربية الرخيصة"، التي يمكنها مجتمعة أن تنتج ما سماه بيريز الشرق الأوسط الجديد. لكن ثورات الربيع العربي التي فاجأت إسرائيل أيضاً، أدخلت دولة الاحتلال في حالة صدمة وترقب متوتر بانتظار وضوح اتجاه الريح، وكيف سترد الدول العربية في الدائرة الثانية على موجات هذا الربيع والثورات التي من شأنها أن تغيّر البيئة المجاورة لإسرائيل. ومع بدء الفرز في ردود الأنظمة على ثورات الربيع العربي، لا سيما في تونس ومصر، برز دور الإمارات إلى جانب السعودية على رأس محور الثورة المضادة. ولكن فيما فضّلت السعودية البقاء في مربع السياسات التقليدية تجاه إسرائيل، مكتفية برسائل سرية ووراء الكواليس، عدا عن زيارة الجنرال السعودي أنور العشقي إلى إسرائيل ولقاءات وحوارات الأمير بندر بن سلطان مع مسؤولين إسرائيليين، فإن إقدام الإمارات على رفع راية الحرب ضد الثورة في مصر وتونس، تحت شعار محاربة "الإخوان المسلمين"، رشح أبوظبي لتكون عنواناً لإسرائيل لتبادل الرسائل المباشرة، وغير المباشرة، الموجّهة عبرها إلى دول خليجية أخرى.
وعزز الموقف الإماراتي المعارض لحركة "حماس" والمهاجم لها، كما لـ"حزب الله" في لبنان، الأهمية التي بدأت دولة الاحتلال توليها لأبوظبي، باعتبارها تمثل إضافة "نوعية" جديدة تمكّن دولة الاحتلال من الحديث عن "محور سنّي معتدل" وعدم قصر ذلك على الأردن ومصر اللتين ترتبطان معها باتفاقيات سلام رسمية. ومع أن الإمارات ترتبط بعلاقات جيدة مع إيران، إلا أن مجرد استعدادها، كما السعودية، لتبني موقف الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما تحت قيادة نتنياهو، حول ما يسمى "الخطر الإيراني المشترك، ومحاربة الإرهاب الإسلامي والتطرف الإسلامي، وحركة الإخوان المسلمين"، زاد من هذه الأهمية، لا سيما أنه اعتُبر موقفاً يعبّر عن السعودية أيضاً.
وشكّل مضي الإمارات في هذا الخط، بالتزامن مع صعود نجم ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كقائدين مستقبليين، مؤشراً مريحاً ومطمئناً لإسرائيل بإمكانية الركون إلى التعاون الإماراتي خارج هذا المربع. وبالفعل، انخرطت الإمارات أيضاً في سياسات معارضة لتركيا تحت قيادة رجب طيب أردوغان، اعتبرتها إسرائيل مدماكاً إضافياً يعزز العلاقات مع الإمارات، لا سيما بعد مشاركة طيارين من سلاح الجو الإماراتي في العامين الأخيرين، في مناورات عسكرية مشتركة إلى جانب ضباط وطيارين من إسرائيل، وتحديداً في المناورات العسكرية الأميركية المتعددة الجنسيات، المعروفة باسم العلم الأحمر، ومرة أخرى في العام الماضي في مناورات مشابهة مع سلاح الجو اليوناني وبمشاركة طيارين إسرائيليين أيضاً.
لكن أبرز أسباب هذا الإقبال الإسرائيلي على الغزل الإماراتي، يبقى نابعاً من تبنّي واعتقاد قيادة الإمارات الحالية والثنائي بن زايد وبن سلمان، بأن خدمة مصالح دولتيهما والحفاظ على النظام فيهما يبدآن وينتهيان في واشنطن، لكنهما يمران بالضرورة بالرضا الإسرائيلي، وهو ما يفسر بدوره النشاط التطبيعي و"التقريبي" (من تقريب) الذي يلعبه السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، مع نظيره البحريني عبدالله بن راشد آل خليفة، والسفير الإسرائيلي السابق رون ديرمر، وهو نشاط توج بلقاء العتيبة وبن راشد مع نتنياهو في مطعم في العام الماضي، ومشاركتهما في "حفل" إعلان خطة ترامب-نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية، والترويج للخطة والموقف الإسرائيلي بتسوية لا تتجاوز حكماً ذاتياً موسع الصلاحيات للفلسطينيين.