العربي الجديد-
لم يكن موضوع التطبيع بين إسرائيل والسودان غائباً كأحد عناوين السجال في السودان طوال العقود الماضية، لكنه شهد في العام الحالي (2020) نقلة غير مسبوقة، إذ رعت أبوظبي في فبراير/ شباط الماضي لقاءً جمع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتيبي الأوغندية، وعُدّ الأكثر "جرأة" أو وقاحة في تاريخ محاولات وتجارب التطبيع مع إسرائيل. وأكد مسؤول عسكري سوداني رفيع المستوى، لوكالة "أسوشييتد برس"، في الثالث من فبراير الماضي، أنّ هذا اللقاء رتّبته دولة الإمارات. وأوضح المسؤول، الذي لم تكشف الوكالة عن اسمه، أنّ "دائرة صغيرة" من كبار المسؤولين في السودان، وكذلك السعودية ومصر، كانت على علم بالاجتماع، مشيراً إلى أنّ البرهان وافق على لقاء نتنياهو لأنّ المسؤولين اعتبروا أنّ هذا الأمر قد يساعد في تسريع عملية رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية.
وعلى الرغم من أن الشارع السوداني الغارق بمشاكله الداخلية لم يتفاعل كثيراً مع اللقاء، سلباً أو إيجاباً، إلا أن تيارات داخل السلطة الحاكمة، خصوصاً المكون المدني في مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، حاولت إبطال مفعول لقاء البرهان-نتنياهو، بإحالته إلى الجهاز التنفيذي. لكن بدا من التطورات المتلاحقة، بما في ذلك رصد وصول طائرات إسرائيلية إلى السودان (حطت في مطار الخرطوم في مايو/ أيار الماضي آتية من مطار اللد ــ بن غوريون مباشرة أو عبورها في أجوائه، فضلاً عن الاتصال بين البرهان ونتنياهو في عيد الفطر الماضي)، أن قنوات الاتصال بين البرهان والإسرائيليين لم تنقطع.
ومنذ تولي البرهان رئاسة المجلس العسكري في 13 إبريل/ نيسان واختيار قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي) نائباً له في المجلس العسكري، كان واضحاً وجود علاقة وطيدة بين عدد من أعضاء المجلس والرياض وأبوظبي. لكن توالي التطورات حول عدد من الملفات، بما في ذلك استمرار المشاركة السودانية في حرب اليمن، على الرغم من الاعتراض الشعبي والمعلومات والأدلة عن استغلال السودانيين في الإمارات والزج بهم في حرب جديدة في ليبيا، فضلاً عن بروز اللقاء التطبيعي، طرح علامات استفهام حول كيفية سير هذه العلاقة وحدود دور أبوظبي في رسم خطوطها العريضة. كان واضحاً الحرص الإماراتي في أكثر من مناسبة على التسويق للمكوّن العسكري في السلطة الجديدة، على حساب المكوّن المدني. لكن الوقوف خلف دفع العسكر إلى صدارة مشهد التطبيع مع إسرائيل كان الأبرز.
ويرصد الصحافي عزمي عبد الرازق، في حديث مع "العربي الجديد"، انخراط السودان "من دون مبررات سياسية كافية في السباق العربي لنيل رضا إسرائيل". مع العلم أنه برز أول مساعي إسرائيل للتطبيع مع السودان في خمسينيات القرن الماضي، حين أجريت اتصالات مباشرة مع حزب "الأمة" القومي، المحسوب على طائفة الأنصار. ثم تكررت المحاولات خلال تولي الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري الحكم بين عامي 1969 و1985، حين التقى نميري بوزير الدفاع الإسرائيلي وقتها أرييل شارون، في مزرعة في كينيا عام 1982، لينسق معه ملف ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل. كما لم يخلُ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير (استمر من 1989 إلى 2019) من طرح موضوع التطبيع مع إسرائيل، حتى إن هذا الموضوع كان مطروحاً ضمن جدول أعمال لجنة العلاقات الخارجية لمؤتمر الحوار الوطني السوداني.
ويقول عبد الرزاق إنه "بعد اندلاع الثورة التي أطاحت حكم عمر البشير، انتقلت البلاد بشكل مفاجئ لكسر حلف ما كان يعرف بدول الممانعة سابقاً، والتي كانت الخرطوم إحدى أبرز حلقاتها"، مشيراً إلى أن "تأخّر سعي السودان للتطبيع مع إسرائيل كان يعود إلى السياسات المعلنة للنظام السابق، الذي اندفع في عداء ظاهر مع إسرائيل وصل حد الهجمات العسكرية من قبل تل أبيب ودعم الخرطوم للمقاومة الفلسطينية بالسلاح". ويضيف عبد الرازق، لـ"العربي الجديد"، أنه طوال ذلك العهد لم تكن مسألة التطبيع مطروحة على السياسة الخارجية للسودان، لكن لقاء في عهد البشير، جمع مدير المخابرات السوداني السابق صلاح قوش مع مدير "الموساد" يوسي كوهين، (في أحد المؤتمرات الأوروبية عام 2019)، جاء على ما يبدو وكأنه محاولة من قوش لتقديم نفسه كخليفة محتمل للبشير، وفي الوقت نفسه البحث عن أقصر طريق لكسر الحصار عن السودان وشطبه من قائمة الإرهاب، لا سيما أن ما رسخ في أذهان قادة النظام السابق أن العلاقات الشائكة مع أميركا يصعب تذليلها من دون الوقوف عند الباب الإسرائيلي، خصوصاً بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ويعتبر عبد الرازق أن البرهان جاء ليكمل مشوار التطبيع عبر أوغندا هذه المرة، وبتمهيد من مستشارته الخاصة والسفيرة نجوى قدح الدم (توفيت في 27 مايو/ أيار 2020 متأثرة بإصابتها بفيروس كورونا)، مشيراً إلى أن اللقاء بين البرهان ونتنياهو قد يعود إلى شعور زائف بأن رضا واشنطن يتطلب تضحيات كبيرة على شاكلة التنازل عن الإجماع العربي، وتجاهل القضية الفلسطينية، والمساومة بها. ويؤكد أن كل شيء تجلّى في تسويق الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلامياً بـ"صفقة القرن"، عربياً، و"بات تقديم فرض الولاء والطاعة للكيان الصهيوني فرض عين للاصطفاف في المحور السعودي الإماراتي المصري تحديداً". ويؤكد أن "الشارع العربي والسوداني لم تتصدع قناعاته في ما يخص مسألة التطبيع، على الرغم من المعاناة والقهر السياسي. وبدأ السؤال يتبادر في أذهان الكثيرين: ما الذي قدّمته إسرائيل للدول المُطبّعة عربياً وأفريقياً غير الفقر والحروب الأهلية؟". ويرى أن "حفاوة إسرائيل بلقاء البرهان ونتنياهو تؤكد حقيقة مهمة، هي أن تل أبيب تبحث عن جسر أفريقي من خلال السودان، لكن لا تزال هناك مخاوف لديها، إذ إنها نجحت في استمالة الحكام وفشلت في التقرب من الشعوب".
ويرى كثيرون في السودان أن أي محاولة إماراتية للدفع نحو تطبيع أشمل لن تلقى نجاحاً على الأرجح، لأسباب عديدة، بينها فشل أبوظبي، منذ العام الماضي، في توجيه مسار الثورة لصالحها أو لصالح مقربين منها في السودان، مثل نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو، وبالتالي لم يعد بإمكانها خلق "سيسي سوداني"، خصوصاً عقب تشكيل الحكومة المدنية. ويرى كثيرون أن يأس الإمارات من نجاح مساعيها هذه، دفعها إلى وقف دعمها المالي للحكومة المدنية، وضعف تبرعها خلال مؤتمر برلين لشركاء السودان، في يونيو/ حزيران الماضي، والذي بلغ 50 مليون دولار فقط. كذلك يقف الوضع السياسي المأزوم في البلاد عقبة أمام طرح موضوع التطبيع مع إسرائيل، إذ إن هذا الأمر يعمّق الخلافات السودانية-السودانية. وهناك عامل آخر يرجّح أن يقف حجر عثرة أمام محاولات كسب السودان ضمن قوائم الدول الراغبة في التطبيع، وهو تباين التركيبة الأيديولوجية بين أعضاء تحالف "قوى الحرية والتغيير" الحاكم، إذ توجد فيه أحزاب مؤثرة مثل "البعث العربي" و"الناصري" و"الشيوعي" التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وهي التي لعبت دوراً في إفشال تمرير لقاء البرهان ونتنياهو من دون رد فعل داخل الحكومة. وتتلاقى مواقف تلك الأحزاب مع مكوّنات سياسية معارضة، خصوصاً تيار الإسلام السياسي الذي وجد نفسه العام الماضي خارج السلطة.
يقول كمال بولاد، رئيس المجلس المركزي لتحالف "الحرية والتغيير" والقيادي في "البعث العربي"، لـ"العربي الجديد"، إن "مجرد التفكير في خطوة التطبيع، أياً كانت هوية الوسيط، أمر مرفوض، بسبب محاولة إظهار الكيان الصهيوني ككيان مقبول يُمثل الحداثة في المنطقة، ويمحو صورته الحقيقية كمغتصب للأراضي الفلسطينية ويمارس الاستعمار الاستيطاني في أبشع صورة، ووضع الفلسطينيين في المرتبة الثانية في مقابل المحتلين الجدد، عدا عن استمراره بانتهاك حقوق الإنسان والقيام بإبادة فاشية في المنطقة". ويضيف بولاد أن "إسرائيل تريد التطبيع مع السودان من زاوية السيطرة على موارده الضخمة، وبناء مخلب صهيوني في المنطقة"، مشيراً إلى أن "موقف الرفض، الذي تمسّكت به كل الحكومات السودانية منذ الاستقلال، لن يتغير بتدخل قوى ومحاور إقليمية". ويشير إلى أن "تلك المحاولات تتمّ بطريقة فوقية ومعزولة، ولا تعبّر عن العمق الشعبي السوداني"، مشدداً على أن "مخططات التطبيع لن تمر في عهد الشفافية والوضوح، ما بعد الثورة، إذ لا يستطيع أي مكوّن داخل السلطة أو دولة أن تتلاعب بمبادئ السودان، مهما كانت المغريات، لأن التطبيع يُطرح بطريقة انتهازية ومرحلية".
أما الأمين السياسي لحزب "المؤتمر الشعبي" المعارض إدريس سليمان، فيرى، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التطبيع يُقدّم للخرطوم على سبيل الرشوة السياسية، اعتقاداً أن ذلك سيغيّر أوضاع البلاد الداخلية والخارجية. لكن إسرائيل ترغب فيه فقط من أجل الهيمنة وفصل السودان عن محيطه العربي والحدّ من تأثيره الأفريقي". ويؤكد أن "أي خطوة من هذا القبيل تعدّ تجاوزاً للثوابت الوطنية". ويشير سليمان إلى أن "العسكر في السودان يهرولون نحو إسرائيل، اعتقاداً منهم أن ذلك سيوطد أقدامهم في السلطة، بالإضافة إلى منافسة المكوّن المدني الذي يهرول نحو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بحثاً أيضاً عن تثبيت وضعه"، معتبراً أن "خط الدفاع الأول لمساعي استقطاب السودان نحو التطبيع هو الرأي العام والالتزام الشعبي الصارم" بمعارضة الاحتلال. ويضيف أنه "في حسابات أخرى، ليس من مصلحة الإمارات استقطاب السودان ودول أخرى نحو التطبيع، حتى تحتفظ، ويحتفظ العرب عامة، ببعض أوراق الضغط مستقبلاً، أسوة بما فعلت مصر بعد كامب ديفيد، فهي لم تلح على بقية الدول للتطبيع مع إسرائيل".