عماد حرب | المركز العربي -
لقد ولت منذ فترة طويلة الأيام التي اعتبر فيها معظم المسؤولين العرب (إسرائيل) تهديدًا خطيرًا للأمن القومي، واعتبروها دولة مغتصبة لأرض الفلسطينيين وكيانا يحرمهم حقوقهم الإنسانية والمدنية والوطنية.
وبدلاً من ذلك، يبدو أن العديد من الحكومات العربية قد استسلمت لفكرة أن (إسرائيل) كسبت حرب القبول في المنطقة العربية، حيث رفض القادة لعقود التصالح مع طابعها الصهيوني وطبيعتها الاستعمارية.
في الواقع، أصبح من السهل جدًا تصور إمكانية اندماج (إسرائيل) الكامل في البيئة المحيطة بها بالرغم من اعتقاد الجمهور العربي المستمر بأن الكيان الصهيوني هو أكبر تهديد لأمن المنطقة، وأن فلسطين لا تزال مصدر قلق كبير في العالم العربي.
تعزز الخطوات الأخيرة نحو تطبيع العلاقات بين (إسرائيل) والإمارات فرص هذا الاندماج، بالرغم من المحاولات الإماراتية لتمويه الأمر مثل التعاون في القضايا التقنية مثل البحث والتطوير.
في الواقع، تعتبر التصريحات المفتوحة بلا خجل والصادرة عن أبوظبي حول العلاقات مع (إسرائيل) هي مظاهر لتحالف قريب بين قيادة إماراتية طموحة وحكومة إسرائيلية متحمسة حريصة على كسر عقود من العزلة عن العالم العربي أو تجاوز سلام بارد مع اثنين من دوله مصر والأردن.
مع صمت شبه كامل من دول أخرى في الخليج وأماكن أخرى، ليس من الصعب فهم إعلان قريب عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين أبوظبي وتل أبيب، وهذا سيفتح الباب أيضا لإعلانات مماثلة من دول عربية أخرى في المستقبل.
تحالف إماراتي - إسرائيلي
أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية "أنور قرقاش"، في يونيو/حزيران، أن بلاده يمكن أن تتحدث إلى (إسرائيل) دون الاتفاق معها في جميع القضايا.
وأضاف أن التواصل مع (إسرائيل) مهم وسيحقق نتائج أفضل مما كان عليه الحال في الماضي، قبل بضعة أيام، قام سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة، "يوسف العتيبة"، بكتابة مقالة باللغة العبرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكبر صحيفة يومية في (إسرائيل)، للتحذير من أن ضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة "سيعكس كل التطلعات الإسرائيلية لتحسين العلاقات الأمنية والاقتصادية والثقافية مع العالم العربي والإمارات"، وبعبارة أخرى، فإن الدبلوماسيين الإماراتيين راضون عن استمرار احتلال (إسرائيل)، إذا لم تضم الأراضي المحتلة، ومع الفصل العنصري الزاحف في الضفة الغربية والإذلال اليومي والمضايقة وقتل الفلسطينيين.
ما يهم على ما يبدو بالنسبة للإمارات هو عدم المطالبة بموقف أخلاقي أو اتخاذ موقف بشأن قضية فلسطين، وهي واحدة من أكثر القضايا التي تركز على الحقوق منذ ما يقرب من قرن.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، التقى مسؤولون إماراتيون وإسرائيليون وأمريكيون سراً في البيت الأبيض للتحضير لتوقيع اتفاقية عدم اعتداء إماراتية إسرائيلية ستكون خطوة متقدمة نحو علاقات دبلوماسية كاملة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019، شارك ممثلون إسرائيليون وإماراتيون في مؤتمر في البحرين برعاية إدارة "ترامب" لإنشاء تحالف بحري مناهض لإيران.
وفي الآونة الأخيرة، وقعت الشركات الإماراتية والإسرائيلية مذكرات تفاهم للتعاون في مكافحة "كورونا"، لطالما كانت الدول العربية منبهرة بالتفوق التكنولوجي والقاعدة الصناعية لـ(إسرائيل)، متمنية أن تتمكن من النجاح في تحويل مجتمعاتها إلى محاور للابتكار.
ولكن بالرغم أن المذكرات ذات طبيعة فنية ومع تجنب وزارة الخارجية الإماراتية الظهور وكأنها متورطة، فإن نطاق التعاون واضح لأن الشركتين الإسرائيليتين المعنيتين، "رافائيل" لأنظمة الدفاع المتقدمة وصناعات الطيران الإسرائيلية، هما من الوزن الثقيل في الإنتاج الدفاعي.
علاوة على ذلك، فإن الإمارات تعد من بين عدد من الدول العربية الأخرى، التي حصلت على التكنولوجيا الإسرائيلية لاستخدامات مثل المراقبة والطائرات بدون طيار وأمن المطارات، من بين أمور أخرى.
منذ بداية جائحة "كورونا"، أرسلت الإمارات شحنتين من الإمدادات الطبية لمكافحة المرض، معلنة أنه سيتم استخدامها من قبل الفلسطينيين.
وقد نفت السلطة الفلسطينية أي معرفة بهذه التسليم أو التنسيق المسبق مع المسؤولين الإماراتيين، لو أرادت الإمارات أن تكون السلطة الفلسطينية مسؤولة عن الشحنات، لكان من الممكن أن ترسلها بسهولة إلى الأردن، حيث كان يمكن نقلها إلى الضفة الغربية المحتلة.
ولكن يبدو أن الهدف كان إرسالهم على وجه التحديد إلى مطار بن جوريون في (إسرائيل)، كمثال آخر على العلاقات المفتوحة بين الإمارات و(إسرائيل).
ومن الأمثلة الأخرى المعروفة للانفتاح على (إسرائيل) الزيارات العامة إلى الإمارات التي قام بها المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، "دوري جولد"، في عام 2015 والوزراء السابقين "ميري ريجيف" و"أيوب قرا" في 2018.
كدولة صغيرة تقع في منطقة مضطربة ولكن مدعومة بموارد مالية وفيرة، فإن الإمارات - مثل البحرين وقطر ودول أخرى - سعت إلى التحوط من خلال سياسة خارجية ناشطة لا تجرؤ سوى دول قليلة من حجمها على القيام بها.
من المؤكد أن العقدين الأخيرين شهدا مشاريع إماراتية على طول الساحل الممتد من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك التوقف في جنوب اليمن وجزيرة سوقطرى والقرن الأفريقي ومصر وليبيا.
إن العلاقات المزدهرة مع (إسرائيل) ليست سوى جزء من هذا النشاط وتساعد على تعزيز استراتيجية التحوط الإماراتية تجاه إيران - بغض النظر عن ثمن الحقوق الفلسطينية - ولخدمة أهداف الإمارات المحددة في شرق البحر الأبيض المتوسط، خاصة مواجهة تركيا وقطر وقوى الإسلام السياسي.
لكن ما يبدو أن قادة الإمارات أهملوه بشكل خطير هو الأمر الذي يجب ألا تتجاهله الدول الصغيرة أبدًا، أن الغطرسة والمغامرة لا تتحول بشكل جيد دائمًا وأن الطريق إلى الوضع السابق قد لا يكون سهلاً بمجرد إحراق الجسور عمدا.
المشكلة مع إيران
لا شك في أن جمهورية إيران الإسلامية ظلت لفترة طويلة تمثل تحدياً أمنياً خطيراً في نظر المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين.
أصبح هذا أكثر بروزًا مع التقدم المطرد لبرنامج إيران النووي وبالتحديد أثناء وبعد الطريق التوقيع على الاتفاق النووي، التي انسحبت منها إدارة "ترامب" - وهي صديق لكل من الإمارات و(إسرائيل)- في عام 2018.
وتستمر إيران اليوم في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث في الخليج، وأبوموسى، وطنب الكبرى، وطنب الصغرى، وتمثل تحديًا دينيًا للحكم الوراثي في دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن من الواضح أن أبوظبي تجنبت المواجهة العسكرية المباشرة أو التصعيد في الخطاب العدائي مع طهران، مفضلة استراتيجيتين متناقضتين للتحوط.
تكمن الأولى في المشاركة في المنتديات الدولية التي ترعاها الولايات المتحدة وتقبلها (إسرائيل)، مثل مؤتمر المنامة البحري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي والاجتماع السري للبيت الأبيض في ديسمبر/كانون الأول الماضي حول اتفاقية عدم الاعتداء، وتعزيز العلاقات مع واشنطن وتل أبيب.
أما استراتيجية التحوط الثانية فهي تكمن في الحفاظ على العلاقات الأمنية والتجارية مع إيران، على سبيل المثال، في يوليو/تموز 2019، اجتمع قائد خفر السواحل الإماراتي في طهران مع قائد حرس الحدود الإيراني لمناقشة التهديدات الأمنية المتبادلة.
تبلغ التجارة غير النفطية بين البلدين حوالي 17 مليار دولار سنويا، وتعد إيران هي ثاني سوق تصدير للإمارات بعد الصين، يعيش مئات الآلاف من الإيرانيين في الإمارات، وتعمل آلاف الشركات الإيرانية هناك.
في نفس الوقت الذي حضرت فيه الإمارات المؤتمر المناهض لإيران في البحرين، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أطلقت الإمارات العربية المتحدة حوالي 700 مليون دولار من الأصول الإيرانية المجمدة.
تقدم هذه الأمثلة وغيرها من الانفتاحات الإماراتية تجاه إيران من ناحية، والولايات المتحدة و(إسرائيل)، من ناحية أخرى، مؤشرات واضحة على أن انفتاحات الإمارات الأخيرة فيما يتعلق بـ(إسرائيل) تهدف إلى زيادة استراتيجيات التحوط تجاه الجمهورية الإسلامية، يحتوي هذا التحوط أيضًا على عناصر محلية، ما يجعله أكثر ضرورة.
وتعد دبي، ثاني أكبر إمارة تبعية يحكمها رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ "محمد بن راشد"، هي المستفيد من العلاقات الاقتصادية مع إيران، يمكن القول إن إنهاء العلاقات يمكن أن يسبب خلافًا خطيرًا داخل الدوائر الحاكمة في البلاد.
في الوقت نفسه، تملك إمارة الشارقة مطالبة تاريخية وقانونية بجزيرة أبوموسى في حين أن طنب مملوكة لرأس الخيمة، وبالتالي، فإن الاحتلال الإيراني للجزر الذي بدأ بينما كانت الإمارات تحصل على الاستقلال عن بريطانيا العظمى عام 1971 هو قضية وطنية وأمنية لا يمكن لاتحاد الإمارات أن يتجاهلها.
المشكلة مع الإسلام السياسي وتركيا وقطر
أعلنت الإمارات أنها عدو للإسلام السياسي في المنطقة ليس فقط الجماعات المتطرفة مثل "الدولة الإسلامية"، و"القاعدة"، ولكن أيضًا في منظمات مثل "الإخوان المسلمون"، وأيضا معادية لدول تركيا التي تحكم من قبل حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، وقطر، التي تأوي الإسلاميين.
في مقال رأي أخير، يجادل "أندرياس كريج" بأن العلاقة الإماراتية المزدهرة مع (إسرائيل) هي زواج المصلحة الذي يهدف إلى إضفاء الشرعية على الحرب على الإسلام السياسي.
منذ ثورات الربيع العربي عام 2011، كانت الإمارات في طليعة المعركة لمنع صعود الإخوان إلى مواقع السلطة، كان دعمها، ودعم المملكة العربية السعودية لانقلاب "عبدالفتاح السيسي" عام 2013 ضد الرئيس المصري الراحل "محمد مرسي"، أحد قادة الإخوان، مثالاً على ذلك.
وكذلك الحال مع العداء الحالي للإماراتيين للإسلاميين في اليمن وتونس والجزائر والسودان وليبيا.
يبدو أن الإمارات في حملة للحد من نفوذ تركيا في بعض الدول العربية وتعمل مع دول أخرى في حوض البحر الأبيض المتوسط للحد من دور أنقرة والدوحة هناك.
في الواقع، تجمع هذه السياسة الإماراتية بين أجندة واضحة مناهضة للإسلاميين ورؤية جيوسياسية تهدف إلى الحد من وصول تركيا وقطر إلى المنطقة والنجاح فيها وتعزيز مصالح خصومهم. إن دعم الإمارات المفتوح للجنرال "خليفة حفتر" ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والمدعومة من تركيا هو مثال واضح على هذه السياسة.
كما أن رفضها القاطع للمصالحة مع قطر، إلى جانب البحرين والمملكة العربية السعودية ومصر التي فرضت عليها حصارًا منذ عام 2017، يُفسر جزئياً على الأقل من خلال معارضتها للقوى الإسلامية التي تدعمها الدوحة.
وفي سعيها للحد من نفوذ تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، بدأت الإمارات على مدار العامين الماضيين في تغيير نغمتها تجاه النظام السوري بعد أن دعمت في البداية معارضة حكم الرئيس "بشار الأسد".
أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق في ديسمبر/كانون الثاني 2018 بالرغم من قرار جامعة الدول العربية بمقاطعة الحكومة السورية.
كشف تقرير حديث عن عرض الرجل الإماراتي القوي "محمد بن زايد" لـ"الأسد" بـ3 مليارات دولار لكسر وقف إطلاق النار الحالي في محافظة إدلب، وهو تطور توقف عندما علم المسؤولون الروس به لأنه كان سيؤدي إلى مواجهة عسكرية صريحة بين القوات السورية والتركية، وربما القوات الروسية في المنطقة كذلك.
ومع ذلك، فإن موقف الإمارات من سوريا وضعها في انتهاك مباشر لقانون قيصر الأمريكي الذي صدر مؤخراً، والذي يحظر التعامل مع الحكومة السورية أو دعمها ويفرض عقوبات على من يفعل ذلك.
في الواقع، من المفارقة أن الإمارات ترغب في أن تكون لها علاقة جيدة مع النظام السوري، الذي كانت وما زالت تدعمه جزئيا على الأقل إيران، الدولة نفسها التي تشجبها الولايات المتحدة و(إسرائيل).
الجمع بين التحوط والتخلي عن الفلسطينيين
توضح استراتيجية التحوط الإماراتية انفتاحها الواضح على (إسرائيل)، وبينما تعزز العلاقات مع الولايات المتحدة وتوافق على التطبيع الكامل مع (إسرائيل)، فإن الإمارات تضمن لنفسها على الأقل قدراً من الدعم في التحدي الإيراني.
في الوقت نفسه، تبذل قصارى جهدها لتهدئة زعماء إيران من خلال إرسال رسائل مصالحة والحفاظ على العلاقات الاقتصادية الحاسمة للجمهورية الإسلامية.
على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ، تنشط الإمارات في مواجهة التحركات التركية التي ترى أنها تساعد على نشر وتقوية قوى الإسلام السياسي.
يعتبر التعاون مع (إسرائيل) ميزة ملحوظة، بالرغم من عدم وجود مصلحة اقتصادية محددة بوضوح. إذا كان التحوط بالنسبة للدول الصغيرة فنًا من موازنة التهديدات والضمانات، فإن المناورات الجيوسياسية الحالية في الإمارات قد تمنح قادتها راحة البال التي يتوقون إليها.
لكن التحدي الأخلاقي المستمر الذي يمثله هذا التحوط في البيئة الإقليمية الحالية هو أنه يأتي على حساب الفلسطينيين، إن أحد التفسيرات هو أن القادة الإماراتيين يتعرضون لضغوط من قبل إدارة "ترامب" لمنح (إسرائيل) الاعتراف الرسمي الذي سعت إليه من قادة النظام السياسي العربي.
وقد يكون السبب الآخر أن هؤلاء القادة يبحثون حقًا عن مساعدة إسرائيلية لتحويل مجتمعهم إلى مركز للابتكار، وهو أمر أكده وزير المخابرات الإسرائيلي الجديد "إيلي كوهين" مؤخرًا.
ومع ذلك، فإن أكثر تفسير ممكن ومباشر هو أنه في وقت يعاني فيه الفلسطينيون وحقوقهم الوطنية من محنة كبيرة، وعندما تفكر (إسرائيل) بجدية في ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، قرر قادة الإمارات التخلي عن القضية الوطنية الأكثر شرعية في العالم العربي، ببساطة لأنهم يستطيعون.