سياسة وأمن » دراسات سياسية

نحو إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية

في 2015/10/12

د.عبدالحميد الأنصاري- الوطن القطرية-

عندما تغيب (الدولة الوطنية) المركزية، أو تضعف مؤسساتها الحيوية: الأمنية والدفاعية، الشرطة والجيش، أو تتعرض شرعيتها للتشكيك وتتزلزل أركانها وأسسها المدنية التي قامت عليها عبر قرنين من الزمان، تحيا وتنتعش التنظيمات المتطرفة، وتنشط المليشيات العقائدية المسلحة، ويتغول الإرهاب ويصبح ضارياً مدمراً، وتنفجر الطائفية لتملأ بسمومها فضاء المنطقة، وتخرج الأرض العربية أخبث عناصرها المكبوتة المختزنة، لتنطلق إفساداً وترويعاً وقتلاً وتدميراً وتهجيراً وتشريداً للشعوب وتستباح حدود الأوطان وتنتهك ثوابت ومقدسات الأديان،

ولا يجد الناس أمامهم إلا تشكيلاتهم العصبوية: الطائفية والقبلية والأصولية، ملاذاً آمناً عن الدولة، حتى وجدنا شخصية قيادية سياسية مثل نبيه بري- رئيس المجلس النيابي اللبناني- يؤكد أمام زواره، أنه (لولا الطائفية في مثل هذا البلد، لكان المحتجون- يقصد المتظاهرين في رياض الصالح- سحبونا من بيوتنا)!

تلك أبرز دروس وعبر ما سمي بثورات ربيع العرب التي عصفت بأوضاع المنطقة وأصابتها بتصدعات جسيمة وأطاحت بركائز الاستقرار في الدول العربية المركزية ذات الثقل الحضاري والسكاني، كما أسقطت (العقد الاجتماعي) الذي كان قائماً بين الحاكم والمحكوم، سعياً وراء(عقد اجتماعي جديد) يصون كرامة الإنسان العربي المهدرة، ويحقق العدالة الاجتماعية المغيبة، ويعيد الحريات العامة المسلوبة.

لماذا تفككت الدولة في دول التغيير العربية ؟ ولماذا تآكلت جيوشها الوطنية؟ هذه التساؤلات، يجب أن تشغلنا بحثا عن إجابات، نحصن بها مستقبل الدولة الوطنية القائمة.

إن أبرز تلك الدروس، في تصوري، هو إعادة النظر في الطرحين الايدلوجيين الرئيسين للتيارين الحاكمين للوعي العربي العام، حول تصور الدولة الوطنية القطرية بتفكيك ايدلوجيات لقوميين وإسلاميين، دأبت على امتداد نصف قرن، هجاء (الدولة القطرية) باعتبارها مواريث استعمارية، القوميون رأوها، معوقة للحكم القومي الوحدوي، والإسلاميون اعتبروها معبرا إلى الحكم الإسلامي لدولة الخلافة، لتستغلها الميليشيات المتطرفة، اليوم، كمعول هدم للدولة الوطنية.

لقد لعب التياران السياسيان العريضان: القومي والإسلامي، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن، دوراً بارزاً في تشوية مفهوم (الدولة الوطنية) القطرية، وعملوا على إضعاف (شرعيتها) في الوعي الجمعي العربي، بحجة أنها كيانات مصطنعة، رسم حدودها المستعمر لأهداف ومصالح استعمارية.

وتجاهل القوميون- ولأهداف أيدلوجية معينة - أن رسم الحدود لم يكن لمصالح استعمارية بمقدار ما كان ترجمة لتوازنات أهلية وعصبية راسخة، تمتد جذورها إلى ما قبل الحقبة الاستعمارية بأزمان طويلة، يعود بعضها إلى الزمن العثماني وآخر إلى العصرين العباسي والأموي، بل إن المستعمر، المتهم بالتفرقة - اقتضت مصلحته تاريخيا- في حالات عديدة، تشجيع ودفع العرب إلى تكوين تجمعات سياسية موحدة، كما في توحيد الهند مثلاً،

وقد أثبت البحث التاريخي- أن هذه الحدود، تاريخية قائمة من قبل مجيء المستعمر بأزمان طويلة، ويكفي أن المؤرخ القومي الكبير د. عبدالعزيز الدوري، فاجأ الحضور في ندوة (مشروع حضاري عربي بفاس 2001 ) بقوله (نتحدث عن مقومات الوحدة العربية ونفترض أنها كانت قائمة في التاريخ، وأن التجزئة وقعت بسبب الاستعمار، ننسى أن الوحدة السياسية لم تعرف في التاريخ العربي إلا في إطار مفهوم الأمة الإسلامية، وأن التجزئة تلت تلك الفترة وأن مفهوم الامة العربية لم يترسخ إلا في فترة التجزئة السياسية).

كما تناسى الإسلاميون أن نظام (الخلافة) الذي يتباكون على سقوطه ويسعون- جاهدين - لإحيائه، لم يكن إلا نظاماً قهرياً، لم يجن المسلمون منه سوى الفرقة والانقسام والصراع الدموي والجهل والتخلف، وهو أبعد نظام عن الإسلام، في روحه ومبادئه وقواعده، في العدل والتسامح والمساواة والحرية، ولم يكن في يوم من الأيام، عاملاً في وحدة المسلمين كما يزعمون، بل كان عاملاً مقسماً للمسلمين إلى دويلات متناحرة، إذ وجدت 3 خلافات متصارعة في وقت واحد: العباسية في بغداد، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس، إن تاريخ الخلافة كما يلخصه أكبر مؤرخ إسلامي د. حسين مؤنس- رحمه الله تعالى - تاريخ من الظلمات بعضها فوق بعض.

وبعد: فهذا بعض ماورد في مؤتمر بناء الدولة،بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإسترتيجية،ابوظبي.

على الإسلاميين أن يفيقوا من وهم (الدولة الدينية) إذ أن التاريخ الإسلامي ومنذ الخليفة الأموي معاوية، لم يثبت أنه كانت عندنا (دولة دينية) كما يتصورها الإسلاميون إلا في العصر الحديث على يد طالبان و (داعش) فهل هم يريدون مثل هذه الدولة - حقاً -؟! وإذا كانوا يتطلعون إلى نموذج (الخلافة الراشدة) التي لم تعمر أكثر من 30 سنة، فهذه خلافة لا سبيل إلى إعادتها مرة أخرى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال في حديث مشهور (الخلافة من بعدي 30 سنة).

وقد ساعد على عدم ترسيخ مفهوم (الدولة الوطنية) أن الدولة الوطنية- نفسها ومنذ الاستقلال لم تنجح في ترسيخ جذورها في التربة المجتمعية، بالرغم من مظاهر ومؤسسات ودساتير الدولة الحديثة التي شكلت قشرة خارجية وغطاء فوقياً، دون مضامين حقيقية مجسدة في (دولة القانون) والمساواة والحريات والحقوق المدنية واستقلال القضاء والإعلام الحر، مما أدى إلى زيادة تعصب المرء لقبيلته أو طائفته أو جماعته الدينية والاحتماء بها باعتبارها (الملاذ الآمن) تجاه قسوة السلطة ومظالمها، يؤكده، أنه عندما انفرط البناء الجغرافي لثلاث دول بعد سقوط الحاكم الفرد فيها: الصومال (1991) العراق 2003 وليبيا 2011 رافقه، تفكيك البنية المجتمعية في أشكال انشطارية، وهذا ما رأيناه في أعقاب سقوط الأنظمة الحاكمة في بلدان (الربيع العربي) إذا أعقب، سقوط (هيبة) الدولة والقانون والنظام، المناخ الملائم لانطلاق الوحوش الإرهابية، لقد رفع(الربيع) القشرة الخارجية الخادعة التي كانت (غطاء) على المكونات المجتمعية: الدينية والمذهبية والعرقية على امتداد القرون الماضية والتي كانت تتعايش معاً بحكم الضرورة والخوف من قبضة الدولة الباطشة، فإذا بهذه المكونات تظهر على حقيقتها وتخرج أسوأ غرائزها ومواريثها القمعية والتعصبية والإقصائية.