جواد البشيتي- الوطن العمانية-
الولايات المتحدة، المنتشية من انتصارها التاريخي على “إمبراطورية الشَّر”، والتي فَهِمَت، أو كادت تَفْهَم، هذا الانتصار على أنَّه “نهاية التاريخ”، قالتها، غير مرَّة، إنَّ القرن الحادي والعشرين هو قَرنها، ويجب أن يكون قرنها؛ لكنَّ قولها هذا لم يقَع على أسماع، في خارج حدودها، تشبه سمعها؛ فالاتحاد الأوروبي قام، والصين شرعت تتحدَّى “الحكومة العالمية”، مُهيِّئةً نفسها لانتزاع عرش الاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة؛ أمَّا روسيا، التي استبدَّ بها ما استبدَّ بألمانيا من مشاعر عشية تحوُّلها إلى النازية، فأدركت، أو شرعت تُدْرِك، أهمية وضرورة أنْ تستعيد ما فقدته من أسباب القوَّة العالمية، وصولًا إلى التأسيس مع قوى دولية أخرى لتوازن دولي جديد؛ ولقد كان بوتين ابن هذه الضرورة التاريخية الروسية، وخير من يُمثِّل، ويَتمثَّل، الروح القومية الروسية الجديدة؛ وكانت شبه جزيرة القرم المكان الذي فيه أراد سيِّد الكرملين تدشين وافتتاح عصر دولي جديد، يتقيَّد فيه الغرب، وفي مقدمه الولايات المتحدة، بتوازن دولي جديد.
وكان أمرًا له دلالته ومغزاه أنْ تتحدَّث الولايات المتحدة، بعد انفجار الصراع الدولي في القرم، عن التشابه بين ما يشهده العالَم الآن من انفجار للروح القومية، وانتشار للتعصُّب القومي، وبين ما شهدته أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية؛ وكأنَّها تريد أنْ تقول إنَّ ما يشبه حربا عالمية جديدة قد بدأ يلوح في الأفق.
“القوَّة العالمية النسبية” للولايات المتحدة هي اليوم دون ما كانت عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فثمة قوى عالمية تُنافِس (وتُصارِع) الولايات المتحدة، في مقدمها “روسيا بوتين”، والصين، والاتحاد الأوروبي، واليابان؛ وفي عالَمٍ كهذا يَصْعُب على الولايات المتحدة أنْ تعيش كما تريد؛ وينبغي لها أنْ تعود، عودةً مؤقَّتةً، إلى “المَصْدَر التاريخي (والقديم)” لقوَّتها العالمية، ألا وهو “العزلة (عن العالَم، وإلى حين)”، تاركةً العالَم يَسْتَجْمِع بنفسه أسباب “انفجارٍ عالميٍّ جديدٍ”، يشبه “حربًا عالميةً ثالثةً”، لا تتورَّط الولايات المتحدة في خوضها إلاَّ في فَصْلِها الختامي، كما فَعَلَت، مِنْ قَبْل، وفي الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص؛ فالتجربة التاريخية علَّمتها أنَّ انعزالها (عن العالَم، وإلى حين) مع تحرير كل صراعٍ كبير فيه من القيود، ومن قيودها هي في المقام الأوَّل، وتَرْكِ دوله، وتكتُّلاته الدولية والإقليمية، وشعوبه، وأُممه، نَهْبًا لحروب (قومية وعرقية ودينية وطائفية..) وحشية مدمِّرة، يَنْحَلُّ فيها، ويتفكَّك، كل “مُركَّب”، وتنشأ بعض المُركَّبات الجديدة، هو ما يكسبها مزيدًا من الطاقة والحيوية والقوَّة، ويؤسِّس لها هيمنة عالمية جديدة، تستمر زمنًا طويلًا؛ فالقرن الحادي والعشرون تريد له أنْ يكون قرنها وحدها، شاءت الصين أم أَبَت!
وجاءت “الأزمة السورية” لتَكْشِف تَوازُنًا دوليًّا جديدًا، يُنْذِر الولايات المتحدة بدُنُوِّ انتهاء انفرادها بحكم (وقيادة) العالَم، ولِتُشدِّد لديها، في الوقت نفسه، المَيْل إلى الزَّجِّ بسلاح “الانطواء (التكتيكي)” في معركتها التاريخية الكبرى لمَنْع نشوء وتوطُّد “التعدُّدية القطبية”.
لقد انتقل العالم (أو النظام الدولي) من “القيادة الثنائية (قيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق)” إلى “القيادة الأحادية” إذْ انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم حتى كادت أن تتحوَّل إلى “حكومة عالمية”؛ حتى في داخل الولايات المتحدة، وبسبب عواقب حروبها في العراق وأفغانستان على وجه الخصوص، رَاَيْنا “الانفراد”، بمعناه الداخلي، يَلْقى معارضة واسعة، في الشارع، وفي الكونجرس.
العزلة الجديدة للولايات المتحدة (والتي تشبه انسحاب جيشٍ انسحابًا تكتيكيًّا منظَّمًا) لن تكون تامَّة؛ ولن تشبه عزلتها القديمة إلاَّ قليلًا؛ فهي ستُزاوِج بين العزلة وبين الاحتفاظ بما يشبه مواقع استراتيجية عالمية متقدِّمة؛ وبدلًا من سياسة “إدارة الأزمات (والنزاعات والصراعات) والتَّحكُّم فيها”، والتي انتهجتها زمنًا طويلًا، ستَنْتَهِج سياسة مدارها “تحرير الأزمات” من كل قَيْد، وتَرْكها تنفجر، وتَرْك العالَم، من ثمَّ، نَهْبًا لـ”الفوضى الخلاَّقة”، التي مِنْ رحمها سيُوْلَد عالَم جديد، بدولٍ جديدة، وخرائط جديدة.
العزلة الجديدة للولايات المتحدة ستكون أقرب إلى الخيار التكتيكي منها إلى الخيار الاستراتيجي، وستشبه عزلتها الأقدم، والتي دعا إليها أوَّل رئيس لهذه الدولة، جورج واشنطن، في الشكل أكثر مِمَّا ستشبهها في المضمون.
ويبدو أنَّ ما يشبه “الانفجار (الكوني) الكبير” Big Bang قد وَقَع، متَّخِذًا من العالَم الإسلامي والعربي، وبدءًا من العراق، مركزًا له؛ وتراقبه الولايات المتحدة (وهي تنسحب انسحابًا تكتيكيًّا منظَّمًا) قائلةً: دَعْهُم يتبادلون الهلاك والدمار والتَّفَتُّت..؛ ولسوف نعود لنَحْكُم العالَم (الجديد) بلا منازِع!
ما نراه الآن (في العراق وسوريا) هو حرب عالمية ثالثة أضْرَمَت نيرانها القوَّة العظمى في العالم، في طريقة ذكية، خفية، وشيطانية، متوقِّعةً لها من النتائج ما يجعل عودتها إلى “حُكْم العالَم بلا منازِع (روسي أو صيني..)” مطلبًا لعالَمٍ نُكِبَ بانفجارٍ (أو تفجيرٍ) من الداخل لكثيرٍ من دوله ومناطقه، أو بحروبٍ تتبادل أطرافها الفناء والدمار!
الولايات المتحدة ما عاد في مقدورها العيش في عالَمٍ تُنازِعها زعامته (السياسية والاقتصادية والمالية) قوى عدة، فعَزَمَت على التَّراجع إلى الوراء خطوات عدة لتَقْفِز، من ثمَّ، قفزتها التاريخية الكبرى، مستعيدةً حُكْم العالَم بلا منازِع؛ وفي أثناء هذا “التَّراجع التكتيكي المنظَّم” تَسْتَبْدِل “تفجير الأزمات” بـ”إدارتها”، تاركِةً الألغام التي زرعتها من قَبل، أيْ في أثناء إدارتها للأزمات، تَنْفَجِر، بدءًا بـ”الألغام العربية”!
الولايات المتحدة تريد حربًا عالمية من نمط مختلف وجديد؛ فهي ما زالت تَفْهَم الحرب العالمية الثانية على أنَّها الرَّحم التي منها خَرَجَت عظمتها العالمية!
في أثناء “تراجعها التكتيكي المنظَّم”، تلعب الولايات المتحدة لعبة “إحداث الفراغ الاستراتيجي” في بعض المناطق، فيندفع منافسوها وخصومها (الدوليون والإقليميون) لملء هذا “الفراغ (الذي اصطنعته)”، والذي هو أقرب ما يكون إلى “الفخِّ” و”الهاوية”، فيقتتلوا ويصطرعوا، ويفقدوا السيطرة على كل نزاع، وليس على النزاع بينهم فحسب؛ وفي هذا الصراع “يموت” كثيرٌ من “كبار الدائنين” للولايات المتحدة، فتتخلَّص، في هذه الطريقة، من كثير من ديونها، ويغدو العالَم بأسره سوقًا كبيرة لصناعاتها العسكرية، فتدور عجلة اقتصادها بقوَّة صادرات الأسلحة، وتمتص (من طريق بيع السلاح) جزءًا هائلًا من كتلتها النقدية الخارجية (نحو 16 تريليون دولار). وأخيرًا، تعود إلى العالَم في شكل المنقذ والمخلِّص، وبمشاريع تشبه مشروع مارشال، فيَغْدو القرن الحادي والعشرون قرنها.
الآن، والآن فحسب، أصبح في مقدور الولايات المتحدة تفجير “قنبلتها التاريخية”، ألا وهي تَرْك العالَم نهيًّا لحروبه القومية والعرقية والدينية والطائفية..؛ والسبب يكمن في “الاغتناء النفطي والغازي” للولايات المتحدة؛ ولقد أسَّس الباحث صمويل هنتجتون، سنة 1993، نظريًّا لهذا النمط من الحروب العالمية إذ “توقَّع” دخول العالَم مرحلة صدام الحضارات والثقافات، قائلًا: “إنَّ الثقافة والهويات الثقافية، أي الحضارات بالمفهوم الأوسع، ستكون نمط الصراع والصدام والتفكك في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
الصين وروسيا كانتا في غَفْوَة؛ ويبدو أنَّهما قد أفاقتا من غَفْوَتهما؛ وقَبْل أنْ تَفيقا، قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق (ومستشار الأمن القومي) هنري كيسنجر: “ما أنْ تَفيق الصين وروسيا من غَفْوَتيهما حتى يقع الانفجار العظيم؛ وستكون حربًا لن تنتصر فيها إلاَّ قوَّة واحدة هي الولايات المتحدة”؛ أمَّا الرئيس أوباما فأعلن أنَّ الولايات المتحدة ستقود العالَم حتى نهاية القرن الحادي والعشرين؛ وتسعى الصين إلى أنْ تصبح هي القوَّة العظمى في العالم في هذا القرن.