الشرق الأوسط السعودية-
تتواتر الأخبار أخيًرا على المستوى المحلي حول قرار «البيت السياسي» السعودي بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حسم تنفيذ «القصاص» في من صدرت بحقهم أحكام قضائية من الإرهابيين الملطخة أيديهم بالدماء من جماعات العنف الديني المسلح٬ من الطائفتين الشيعية والسنية.
عبرت الرياض٬ في عقد ونصف العقد٬ منعطفات سياسية وجودية في مواجهة صعود موجات إرهاب غير مسبوقة عالميا٬ استهدفت الداخل السعودي. كانت مجاميع «الإسلام السياسي» المصنفة كإرهابية محليا من «الإخوان المسلمين» إلى «القاعدة» إلى حركات المجاميع الشيعية شرق السعودية إلى «داعش»؛ تسعى جاهدة لخلخلة الأمن للدولة الأقوى في محيطها الإقليمي.
في عام ٬2008 بينما كانت «القاعدة» تدخل في حالة موت سريري على أيدي رجال الأمن السعودي٬ كان أمير مكافحة الإرهاب٬ الأمير محمد بن نايف٬ مساعد وزير الداخلية حينها٬ وولي العهد السعودي اليوم٬ يقول لريتشارد هولبروك٬ السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة: «الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا٬ أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»٬ بحسب تقرير منشور في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. كان الجرح الوجداني للذاكرة الوطنية عميقا.
لكن قبل الذهاب بعيدا في هذا الاستقراء الصحافي٬ لا بد من توطئة فكرية سريعة؛ ففي عام 1997 أصدر دانيال برومبرغ٬ أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون الأميركية٬ كتابا بعنوان: «التعدد وتحديات الاختلاف.. المجتمعات المنقسمة كيف تستقر؟»٬ بالمشاركة مع مجموعة من أساطين العلوم السياسية وعلماء الاجتماع السياسي٬ الباحثين والمتخصصين في التغيير الديمقراطي في دول العالم الثالث.
تحت مقالته في الكتاب المعنونة بـ«الخطاب الإسلامي وتقاسم الديمقراطية»٬ يشرح حالة سياسية سماها «الحداثة التكتيكية والأصولية الإصلاحية»٬ قائلا: «الحداثة التكتيكية تقتضي الاستخدام التلقائي للموضوعات المستحدثة لدفع برنامج أصولي إلى الأمام. وبالمقارنة بأشكال الآيديولوجية الإسلامية (...) التي يمكن أن تتخذ شكلا سياسيا منظما٬ فإن الحداثة التكتيكية أداة خطابية يستخدمها الإصلاحيون (يقصد المؤلف الإصلاحيين الأصوليين) لتأمين دعم المجموعات
الاجتماعية٬ مثل الأنتلجنسيا (الأنتلجنسيا كأبسط تعريف: المثقفون والمتعلمون ذوو النزعة النقدية التقدمية)٬ التي بخلاف ذلك لن تؤمن بالمشروع الأصولي».
ويضيف شرحا مستفيضا للفكرة٬ نقتطع منه: «ترتبط الحداثة التكتيكية ارتباطا وثيقا بالأصولية الإصلاحية (...) تتلاءم الطبيعة النفعية للإسلام (الإصلاحي) من حيث الجوهر مع برنامج تدريجي٬َيعِقد الإسلاميون من خلاله تحالفات مع مجموعات شتى. فالإصلاحيون يتكلمون بلغة أصولية عندما يخاطبون أتباعهم الُخلّص٬ ويستحضرون أفكار الأمة والشريعة الإسلامية والوحدة٬ ولمخاطبة حلفائهم المحتملين من الطبقة الوسطى المهنية والأنتلجنسيا ورجال الأعمال٬ يعمد الإصلاحيون (الأصوليون) إلى انتقاء الأفكار والموضوعات والرموز التي يستقونها من مخزن الحداثة». في هذا السياق٬ يلاحظ خبراء حركات العنف المسلح أن «الإرهاب الديني» في المنطقة يعيد تكرار نفسه في دورة زمنية تقارب كل 25 20 عاما. وفي كل مرة تعود بمفاهيم إرهابية أكثر تطورا على مستوى عقلها السياسي وتجدد أفكارها وطرائق بحثها عن منابع اقتصاديات إرهاب مبتكرة٬ فضلا بالطبع عن الغرام الأصولي بكل ما هو حديث في التقنية.
تقع السعودية بثقلها الديني موضع القلب من العالم الإسلامي٬ في مرمى هذه الجماعات «السنية والشيعية»٬ وهي تقف كند صلب يحارب «ذهنية التطرف الديني سياسيا» بكل أطيافها المذهبية كثقل اعتدال في كل أزمات المنطقة.
ومع ذلك٬ التجربة السعودية مع الإرهاب الحديث في العقد ونصف العقد الأخير لافتة للنظر في نجاحها الباهر في جوانب وتراجعها في جوانب أخرى يمكن تطويرها كمنظومة مرافقة لمعالجاتها الأمنية٬ التي ما إن أدخلت تنظيم القاعدة في حالة موت سريري حتى استيقظت المنطقة على شبح «داعش»٬ الذي يفوق «القاعدة» وحشية ويجد ملاذات آمنة في بيئات جغرافية محاذية.
بعد أيام من فاجعة باريس٬ ظهر على قناة فرنسية باحث فرنسيُيلقي بتهم عشوائية عن تمويل السعودية لـ«داعش» وعن كون التنظيم منظمة «وهابية» تتبنى الأدبيات السعودية.. إلخ من الحديث المثير للشفقة المعرفية.
فالرياض تتعرض لهجمات من «داعش» أكثر مما يتلقى العالم الغربي٬ والرياض في خندق العالم المتحضر٬ والظل الُمجّنح لصقورها في القوة الملكية الجوية يطارد الإرهابيين شمالا وجنوبا٬ وتقصف طائراتها «داعش» مع فرنسا وبقية قيادات المجتمع الدولي. والسعودية قدمت تجربة فريدة على مستوى القضاء على «القاعدة»٬ بشهادات غربية مرموقة٬ وهي أحد أنشط ممولي صندوق مكافحة الإرهاب العالمي٬ ولم تتبع سياسة طائفية ولا مرة واحدة في حياتها السياسية٬ ودعمت نوري المالكي كممثل للدولة العراقية في أكثر أوقاته إساءة للسعودية.. نهر طويل من الحجج والأدلة التي ليس هناك أسهل من استحضارها لتقديمها كمرافعة للتأكيد على نزاهة مواقف الرياض السياسية والأخلاقية من الإرهاب.
لكن بعيدا عن النرجسية الوطنية٬ وإذا استثنينا القراءات المغرضة من قبل بعض المهتمين في العالم الغربي٬ ومثقفي الداخل٬ فهناك شريحة واسعة من الجادين لم تستطع الرياض تقديم خطاب «ثقافي» مقنع لها يشرح ويرافق دوافع الرياض السياسية.
إضافة إلى أن الخطاب الإعلامي والثقافي والسياسي المؤسسي لم يحّدث آليات تأثيره في الجماهير بمختلف المستويات الثقافية٬ فالخطاب المقنع لطبقة الأكاديميين يتطلب مهارات مختلفة عن الخطاب الموجه لطبقة المثقفين٬ ومختلفة عن الموجه كذلك لطبقة المتابعين التقليديين.
حسنا.. من أين جاءت تهمة إلصاق «داعش» بـ«الوهابية» المرتبطة بالتالي بالهوية أو اللمسة السعودية؟ هناك خلط متعمد من قبل «الحركيين الإسلاميين» بفرض العنف كجزء من هوية المنظومة «السلفية» المحلية٬ رغم أن «الإرهاب الإسلامي المتطرف الحديث» حاضنته التنظيرية على مستوى العالم العربي مصرية من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» وما تفرع منها من أذرع أكثر تشددا. بل وحتى بعض قيادات القاعدة الأوائل المؤثرين عسكريا كانوا من بعض كفاءات الجيش المصري٬ مثل عصام القمري الذي كان برتبة رائد في الجيش المصري٬ ومحمد إبراهيم مكاوي الشهير بـ«سيف العدل» والذي كان بدوره ضابطا في المؤسسة العسكرية المصرية٬ وهو مكتشف الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس «القاعدة» في العراق٬ إضافة إلى زعيم القاعدة اليوم أيمن الظواهري (مصري)٬ فضلا عن عبد الله عزام الذي يحمل الجنسية الفلسطينية٬ وأبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش (عراقي).
لا بصمات دامغة سعودية في ما يطلق عليه «أدبيات الجهاد العالمي الأولى» إلا ما جاء لاحقا ممثلا في شخص الإرهابي أسامة بن لادن٬ وشهرته كزعيم في الحقيقة هي كتنفيذي بارع وممول سخي لا كبصمات فكرية تنظيرية ابتدعها٬ بل كان تحوله السياسي متأثرا بأدبيات «الإخوان» في أفغانستان. وهو ما يتفق عليه الباحثون المحليون منهم والغربيون٬ مثل الباحث النرويجي توماس هيغهامر والصحافي الأميركي لورنس رايت٬ من أن بذور الحركة الحزبية والعنيفة تجلت في «الجماعات السلفية» التي تبنت الأدبيات الإخوانية٬ بل إن الباحثة الأميركية كارينا أرمسترونغ بلغت حد نفي الجوهر القتالي لـ«السلفية التقليدية».
أحد أهم الفوارق بين الحركات «السلفية» والحركات المتبنية لأدبيات الإخوان المسلمين٬ أنها ليست ذات طابع ارتدادي على الداخل «الوطني» بأعمال عنف٬ ومعروف للمتابع قصة المعسكرين «الجهادية في أفغانستان المتبنية للمنهج السلفي.. والأخرى المتبنية للأدبيات الإخوانية». فالمنضمون من السعوديين لمعسكر جميل الرحمن «شيخ السلفيين» هناك إبان الحرب الأفغانستانية عادوا إلى البلاد من دون أي حراك عنفي يمس السلم الاجتماعي. على عكس العائدين
من المعسكر الإخواني مثل «القاعدة» وزعيمها بن لادن المتأثر بالأدبيات الإخوانية٬ والذي ارتد على الداخل السعودي بأعمال تخريبية وتفجيرية٬ واستهداف للأبرياء والمدنيين.
الفرق الجوهري بين العقيدة «السلفية» والعقيدة «الإخوانية»٬ هو أن الأولى تميل للتشدد فقهيا في فضاءات الحقوق الاجتماعية والثقافية مثل حقوق المرأة والتسامح مع الحريات الفردية٬ لكنها تكاد تكون تميل للعزلة في تركها الخوض السياسي لرجال السياسة.. في المقابل تجد العقيدة الإخوانية متخلفة ومتطرفة سياسيا لكنها متقدمة فقهيا من ناحية المرأة وفضاءات الحريات الشخصية٬ وهذا ما تجلى في حكم «الإخوان» لمصر٬ فبينما كان مرسي يصدر استكمالا دستوريا
يضعه فوق القانون ويفرض نفسه كحزب ديني شمولي٬ فإنه كان في الوقت نفسه يجدد للمراقص الليلية تراخيصها لثلاث سنوات.
في لقاء مع نادر بكار٬ مساعد رئيس حزب النور «السلفي» المصري٬ قال إن «(الإخوان) أول من يستدعون السمت السلفي عند الحاجة للحشد الديني بإطلاق اللحية مثلا رغم أنهم في الظروف العادية يحلقونها».
والحال أن «الوصمة الوهابية»٬ كما يحب الغربيون تسميتها أو «السلفية» بشكل أدق لـ«داعش»٬ هي وصمة «ثقافية» وليست وصمة «سياسية». الجماعات الإرهابية أخذت من «الإخوان» تطرفها المسلح٬ وأخذت من «السلفية» تشددها الفقهي. فأصبح لدى المتابع العادي الغربي أو حتى في العالم العربي خلط بديهي٬ فهو يرى جهاز «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في مناطق حكم «داعش»٬ ويستلهم حضور هذا الجهاز في الحياة السعودية٬ ويرى
السمت الديني من اللحية إلى تقصير الثوب لـ«داعش» مشابها لأدبيات «السلفية» السعودية٬ ويشاهد «داعش» يستشهد بذات المراجع الدينية مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن بقراءة مجتزأة مشوهة٬ فمن الطبيعي أنُيضلل بتفصيلات معرفية تجعله لا يفرق بين الهوية السياسية والأخرى الثقافية لتنظيم معقد كـ«داعش» في مشهد إعلامي ملئ بالمتطرفين والانتهازيين الذين يجدون شرعية ومنابر ليكرسوا هذه النظرة.
الاحتواء السياسي بين التيارات السلفية والإخوانية ومنظريها دائما يتمركز حول امتلاك الشرعية الدينية التي تبدو في عمقها العلمي تميل للجانب السلفي «شعبيا» فيما تميل لصالح «الإخوان» كفة الشرعية السياسية.
يصنف الفلاسفة حقب التنوير إلى ثلاث مراحل٬ الأولى هي التنوير البريطاني القائم على قيم الفضائل الاجتماعية٬ ثم التنوير الفرنسي القائم على العقلانية ضد القطعية الدينية٬ وأخيرا التنوير الأميركي القائم على الحريات السياسية.
إشكالية الرسالة الأميركية المؤمنة بالديمقراطية و«تنوير الحريات» أنها تريد تطبيقها في المنطقة دون شرطي التنوير اللذين سبقاها٬ وهما تنوير قيم الفضيلة الاجتماعية وقيم تطوير النقد الديني واحترامه كمقدس شخصي للأفراد لا كقطعيات غير قابلة للنقاش العام. لذا فقد جاءت بوعود حرية لمجتمعات ترزح تحت ضغطي الأمية والآيديولوجيا الدينية باستقطابها أبناء الطبقات المسحوقة في المجتمعات. فكانت النتيجة فوضى «الربيع العربي» الذي باتت الجماعات الإرهابية تنمو فيه كما ينمو العشب في الخرائب. تستطيع السعودية٬ عملاق الصحراء٬ أن تعيد تشكيل المعمار المعرفي الديني في العالم الإسلامي٬ بفضل قيمتها الدينية والسياسية والاقتصادية٬ واليوم العسكرية٬ بأن تتبنى مشروع هوية داخليا يؤنسن شخصيتها الدينية التي تحارب الإرهاب على الأرض بلا هوادة. وتعيد فتح باب الاجتهاد في الفقه «الاجتماعي»٬ وقد يكون مشروعا ملهما لمحيطها.
لكن الواقع يشير إلى أن السعودية الحديثة ليست قادرة بعد على إنتاج «مفكرين دينيين» سعوديين٬ لأن المؤسسات في الواقع كجامعات وجهات حكومية تخّرج «مشايخ دينيين» لا «مثقفين دينيين» قابلين للتطور ليصبحوا فقهاء.
إشكالية هذا الواقع الذي لا ينتج «مفكرين دينيين» أنه نابع من أن قيمة وتقدير «شيخ الدين» التقليدي يقومان على القدرة على الحفظ والاستظهار٬ لا على الفهم والنقد والتنقيح والتكييف العصري للمفاهيم الدينية. وبالتالي هي لا يمكن لها كمؤسسة تقليدية أن تقود خطابا تطويريا داخليا٬ ليس لأنها مستفيدة من بيروقراطيتها كمؤسسة فقط٬ بل ولأنها لا تملك مهارات معرفية يشترطها هذا التحديث والتّرقي.
التنوير الأوروبي أعطى درسا عندما اعترف بأنه لم يكن لينجح هذا النجاح لولا تبني الكنيسة متمثلة في القس الأشهر «توما الإكويني» ومجموعته من القساوسة الذي عكفوا على دراسة الفلسفة وعلم المنطق.
كانت تلك أولى مقاربات البعد الروحي للدين والبعد العقلاني للعالم الحديث الذي يبحث عن المنطق والقصة القابلة للتصديق بأدلة «علمية».
الرياض٬ بثقلها الاستراتيجي في المنطقة٬ قادرة على تقديم رؤية متوثبة لوطن فتي وطامح لغد أفضل وسعيد بمكتسباته الوحدوية الوطنية٬ لكن هذا لن يتحقق إن لم يحافظ على مكتسباته الوجودية بالسعي نحو وقف دورة الإسلام الراديكالي الرابعة٬ بعد دورة «الإخوان المسلمين»٬ ثم «القاعدة»٬ ثم «داعش».
يرى الدكتور خالد يايموت٬ أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في المغرب٬ أن «النخبة الدينية عموما و(الفقيه) على وجه الخصوص قادت عبر زمن ممتد مسيرة الفعل المجتمعي الإسلامي. ولم يكن ذلك بفعل القوة المادية العسكرية للفقيه٬ وإنما بفعل الاختيار الطوعي الجماعي٬ الذي كان ينظر للفقيه باعتباره الوجه العملي للمرجعية الإسلامية. ومع تحولات المجتمعات الإسلامية٬ وتقهقر ذهنية الفقيه بتركه الاجتهاد وانغماسه في التقليد وفقه المختصرات
ازداد تقهقر وعي الأمة».
ومع الهجمة الاستعمارية٬ وبعد ميلاد الدولة القُطرية٬ ازداد عجز النخبة السائد عن مواجهة الإشكاليات المتراكمة داخليا وارتباط الأزمة الحضارية بالخارج. فبقي الوعي الديني مهموما بمركزية الدفاع عن الدين وحصونه المهددة من الخارج الاستعماري٬ ومن الداخل المبتعد عن عقيدة السلف الصالح فهما وتنزيلا٬ بحسب يايموت.
هكذا انتقلت النفسية الدفاعية٬ التي اعتبرت العقيدة وعلم التوحيد دفاعيين ومكتفيين بذاتهما٬ إلى ذهنية عامة ومنطلق مركزي لرؤية للعالم٬ يتم من خلالهما عرض تصور الفقيه وارتباط منظومته المعرفية بغيرها من المنظومات العلمية المستجدة (سياسة٬ ثقافة٬ اقتصاد٬ فن).
تستطيع السعودية اليوم أن تتبنى تجربة بناء معمار معرفي «سلفي» جديد كمناهج دراسية لكليات شريعة محددة في بعض الجامعات تكون منفتحة وتشجع على الاجتهاد الفقهي «الاجتماعي» كأبحاث ودراسات ومناهج بحث٬ وتخّرج هذه الكليات طبقة مثقفة دينيا وفقهيا تحت مظلة الدولة٬ تسهم وترسم الرؤى الفكرية للأجهزة الحكومية الدينية٬ من المنظومة التعليمية إلى منظومة الأجهزة الدينية التي تتعامل مع الجمهور٬ مثل «هيئة الأمر بالمعروف»٬ بحيث يكون هناك إضفاء ديني فقهي محلي على الخطوات التنموية التنويرية التي ترغب الدولة في تطبيقها٬ لكن الفهم الديني أحيانا يكون عائقا أمامها٬ مثل حلول البطالة في أوساط السعوديات مثلا.
يرى الدكتور مصطفى حجازي٬ أستاذ علم النفس والمفكر اللبناني٬ في كتابه اللامع «التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»٬ أنه «لاُيْمِكُن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة٬ ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاتهُغبًنا٬ فالارتقاء إما أن يكون جماعًيا عاًما٬ أو هو مجرد مظاهر وأوهام». ويضيف: «يتهرب الرجل من مأزقه بصبه على المرأة من خلال تحميلها كل مظاهر النقص والمهانة التي يشكو منها في علاقته مع المتسلط وقهره والطبيعة واعتباطها. ولذلك يفرض على المرأة أكثر الوضعيات غبًنا في المجتمع المتخلف. إنها محط كل إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية على حد سواء. وهيُتدفع نتيجة لذلك إلى أقصى حالات التخلف. لكنها من هوة تخلفها وقهرها ترّسخ تخلف البنية الاجتماعية من خلال ما تغرسه في نفوس أطفالها من خرافة وانفعالية ورضوخ».
قد يستغرق بناء مؤسسات جادة كهذه أكثر من 15 سنة لتبدأ في التأثير في المشهد بعد غربلة خريجيها واختيار المثقفين دينيا المخلصين منهم كوجاهات اجتماعية دينية لديها منطق معرفي بجانب منطقها الديني «السلفي» يجعلها أكثر تسامحا اجتماعيا.
بينما يصر الكثير من المحللين على فرض استلهام تجارب خارجية محيطة على السعودية لتحريكها٬ يتجاهل الكثيرون أن السعودية تملك مقومات أن تكون نموذجا بدورها٬ ولديها من الكفاءات والتجارب الوطنية الداخلية والخارجية ما يجعل إعادة صياغتها ثقافيا ليست أمرا صعبا لو وجدت رؤية استراتيجية سعودية جديدة٬ لديها فلسفتها في خلق نموذج تنوير يشبهها ويتفهم طبيعة تراكيبها الاجتماعية الثرية التي هي مصدر قوة لـ«الهوية السعودية» الجامعة.
نحت الهوية «الوطنية» لعقد ونصف عقد كامل قادم٬ يتطلب ابتكار أنماط تواصل جماهيري مختلفة مع الداخل والخارج.. وبقدر ما تخطو الرياض خطوات انفتاح فقهي «اجتماعي»٬ سيتم استثمارها في تسويق صورتها العامة٬ بقدر ما ستشعر التنظيمات الإرهابية التي تتبنى الأدبيات المتطرفة كفقه اجتماعي بوحشة آيديولوجية في المحيط الإقليمي٬ وبقدر ما سيصبح الأصدقاء أكثر ثقة في كون الرياض حليفا للمجتمع الدولي يستحق الدفاع عن قيمه وعن قيادته الاعتدال الديني إقليميا.
وبالتالي٬ تخلص نفسها من شبهها بالتنظيمات المتطرفة كـ«فقه اجتماعي» وتجرد «الإخوان المسلمين» ومنظريهم من ميزة الفقه المنفتح اجتماعيا والُمَضلِل سياسيا.
تستطيع السعودية اليوم أن تقدم نموذجا فريدا ربما للمرة الأولى في المنطقة يمزج بين «اليمين الثقافي الليبرالي» المحافظ سياسيا والتنويري معرفيا٬ المؤمن بأن الدولة (المؤسسة) هي من يجب أن يقود التغيير والتنوير ومن يصنع النخبة.
لكنه للتعبير عن نفسه لشرائح الجماهير المستهدفة يستخدم المثقف حججا ذات أدبيات مدنية تملك مفردات عقلانية قادرة على مخاطبة طبقة المثقفين في الداخل والخارج ومراكز الدراسات والمؤسسات الفكرية.
وعلى النسق نفسه٬ تتبنى الدولة تيارا دينيا بكل سماته «السلفية» لكن بجوهر معرفي أكثر إيجابية يسهم في دفع التنمية الاجتماعية لا عرقلتها. وحتى التعايش بين الهويات الطائفية في السعودية لا بد أن يقاد من التيارين اللذين يتناغمان في خدمة الدولة الوطنية٬ فتيار اليمين الليبرالي من المثقفين سيقدم حججه الفلسفية العقلانية المتمدنة٬ فيما الشخصية الدينية المتطورة للمؤسسة الدينية تدفع في اتجاه مفاهيم فقهية دينية حديثة تكرس الهوية الجامعة٬ السعودية. دون إغفال أن يجري التحديث المعرفي ذاته على المجاميع الشيعية المتطرفة ذات المفردات المدنية الحداثية منهم أو مجاميع الأدبيات الدينية بخلق تيار شيعي وطني بذات قيم الحداثة الثقافية والدينية لكن داخل المجاميع الشيعية.
لتكن فلسفة «الرؤية السعودية» الحديثة هي الروح التي تحرك مؤسسات الدولة في منظومة متناغمة تملك رؤية منسجمة يقوم فيها كل بدوره٬ لينحت «الهوية السعودية» ويعيد إنتاجها طامحة ليس إلى تغيير تكتيكي وقتي بل لتغيير استراتيجي لو نجح ربما يغير تاريخ المنطقة للأبد.