فتحي التريكي- الخليج الجديد-
في الأشهر الأخيرة، تهيمن أجواء تتسم بالودية بشكل ملحوظ على العلاقات السعودية التركية وقد تجلى ذلك بشكل واضح أثناء قمة العشرين التي استضافتها تركيا في مدينة أنطاليا في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بمشاركة الدول الاقتصادية الأقوى في العالم.
خلفية تاريخية
قامت الدولة السعودية بالأساس على أنقاض صراع طويل مع الإمبراطورية العثمانية امتدت من نهاية القرن الثامن عشر إلى العقود الأولى من القرن العشرين. وقد اشتبك الملك المؤسس «عبد العزيز بن سعود» مع العثمانيين في معارك متتالية خلال محاولاته للسيطرة على الحجاز، ووفقا لمؤرخين فإن تحالف السعوديين والوهابيين الشهير (المعروف تاريخيا بتحالف الدرعية) والذي تأسست عنه الدولة السعودية الأولى كان يهدف بالأساس إلى منح الدولة الناشئة شرعية دينية مستقلة عن الخليفة العثماني في إسطنبول.
بعد الحرب العالمية الأولى حصلت المملكة العربية السعودية على اعتراف بريطانيا بالأراضي التي سيطرت عليها، وتم تأسيس الدولة السعودية الثالثة عام 1927، وبعد التوقيع على معاهدة لوزان، فقد اعترفت الدولة التركية الحديثة باستقلال الدول التي انفصلت عن الدولة العثمانية.
على مدار القرن العشرين، كان الركود هو السمة الغالبة للعلاقات بين البلدين، لم يقم أي ملك سعودي بزيارة المملكة خلال هذه الفترة سوى زيارة عابرة للملك «فيصل» لحضور مؤتمر دولي في الستينيات، وقد شهدت العلاقات انفراجا نسبيا في منتصف الثمانينات لأسباب اقتصادية في المقام الأول، حيث زار رئيس الوزراء التركي «تورغوت أوزال» الرياض عام 1884 ثم عام 1985، بينما زار ولي العهد السعودي آنذاك، الملك «عبد الله»، تركيا عام 1984.
جاءت حرب الخليج الأولى لتلقي حجرا في مياه العلاقات الراكدة بين البلدين، أيدت تركيا المواقف الدولية في الحرب مما أكسبها ثقة السعودية، وعلى إثر ذلك منحت المملكة تركيا معونة عسكرية بلغت 2.2 مليار دولار كشكل من التعويض عن خسائرها نتيجة توتر العلاقات مع نظام «صدام حسين». ودخلت الدولتان منذ تلك الحقبة في علاقات جيدة نسبيا مع الغرب. إلا أن حالة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها تركيا بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية قد ساهمت في تأرجح العلاقات صعودا وهبوطا وصولا إلى العام 2002 حيث صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا.
السعودية وتركيا في الألفية الجديدة
جاء صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا متزامنا مع توتر كبير في العلاقات السعودية الغربية إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول، في الوقت الذي كانت تركيا فيه بصدد الشروع في سياسة إقليمية جديدة تتلخص أهم معالمها في «تصفير» المشاكل مع الجيران. شرع البلدان سريعا في تطوير علاقتيهما، في عام 2003 تم إنشاء مجلس الأعمال التركي السعودي، ثم صندوق استثمارات مشترك في عام 2005 تلاه اتفاقية ثنائية للتعاون في مكافحة الإرهاب في ذات العام. وتوج هذا التقارب في عام 2006 بأول زيارة رسمية للعاهل السعودي إلى تركيا منذ تأسيس الدولتين، حيث زار الملك «عبد الله» تركيا بصحبة وفد من الوزراء ورجال الأعمال حيث جرى توقيع اتفاقات سياسية وأمنية واقتصادية موسعة.
يمكن قراءة التقارب السعودي التركي في ضوء سعي كلا الدولتين لممارسة نفوذ سياسي بعيدا عن الفلك الغربي. كان التوجه التركي مدفوعا بقرار من السلطة الحاكمة الجديدة بين دفعت السعودية إلى ذلك بسبب توتر علاقاتها مع الغرب، وبمجرد أن رفعت الدولتان رأسيهما فقد وجدا نفسيهما بحذاء بعضهما البعض في محاولة مبكرة لخلخلة التفاهمات الإقليمية القائمة في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية.
الربيع العربي
جاءت انتفاضات الربيع العربي لتربك حسابات التقارب الناشئ. رأت تركيا أن موجة التغيير المصاحبة لثورات الربيع العربي قد تصب في مساعيها نحو تأسيس نظام إقليمي جديد وتغير فلسفة الحكم القائمة في دول المنطقة الرئيسية فانخرطت تركيا فيما يوصف بأنه محور داعم للربيع العربي مع قطر وحركات الإسلام السياسي. أما المملكة العربية السعودية فقد اختارت تغليب المخاوف على المصالح، حيث رأت في الربيع العربي تهديدا لأنظمة الحكم القائمة، نظرا لما يحمله من زيادة احتمالية توسع المطالبات الديمقراطية. شاركت السعودية في قمع الانتفاضة في البحرين ودعمت جهود الإمارات في مساندة بقايا نظام «معمر القذافي» في ليبيا، واحتفظت بعلاقات فاترة نسبيا مع نظام الإخوان في مصر قبل أن تشارك في الإطاحة بهم من السلطة.
إلا أن الربيع العربي لم يحمل للسعوديين والأتراك الخلافات فقط، فقد وجد الطرفان نفسيهما يدخلان في تقارب ضمني بشأن الموقف في سوريا إثر تمسك تركيا بالإطاحة بالرئيس السوري «بشار الأسد». وفي محاولة لتفكيك التعامل السعودي مع معضلة الربيع العربي فإننا يمكن أن نقسمه زمانيا (حسب النظرة السعودية) إلى حقبتين: تمتد الحقبة الأولى من من نهايات العام 2010 إلى نهاية عام 2013 وفيها اكتسى الربيع العربي بصبغة إسلامية (الإسلام السياسي)، وأما الفترة من نهاية 2013 إلى الآن فقد كانت أهم معالمها هي صعود إيران.
دعمت المملكة العربية السعودية الانقلاب العسكري في مصر منتصف عام 2013، ودعمت الثورة المضادة في ليبيا، وساندت خصوم الإسلاميين في اليمن (تشير تقارير غربية أن السعودية قدمت الدعم إلى الحوثيين خلال عام 2013)، ومع صعود تيارات الثورة المضادة في دول الربيع العربي على مدار عام 2014 اكتشفت السعودية أنها، بقصد أو بغير قصد، قد أنفقت جهودها في القضاء على «ربيع إسلامي» ليحل محله «ربيع إيراني» ليأتي عام 2015 بينما تسيطر إيران فعليا على الشمال السعودية «سوريا ولبنان» وباحتها الجنوبية «اليمن»، بالإضافة إلى العراق.
الصعود الإيراني ومسار العلاقات السعودية التركية
تبدو العلاقات التركية الإيرانية معقدة بشكل ما، على مدار أكثر من 35 عاما كان الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في كل من تركيا وإيران يتخذ علاقات عكسية تقريبا. شهد اقتصاد تركيا طفرة كبرى في عهد «تورغوت أوزال» في الوقت الذي كانت فيه إيران تخوض حريها ضد العراق، في حين تزامنت الطفرة الإيرانية في عهد «رافسنجاني» مع مناخ متقلب في تركيا. ورغم حفاظ تركيا على علاقات جيدة نسبيا مع إيران خلال العقد الأخير إلا أن الصراع السوري ساهم في تأجيج الخلافات بين الطرفين. كما يرجح أن إبرام الاتفاق النووي سيلقي بدوره بظلال سلبية على العلاقات بين البلدين حيث استفادت تركيا بشكل ملحوظ من العقوبات ضد إيران. كما أن تفاقم الاضطرابات الداخلية في تركيا خاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية يمكن أن تزيد التوتر بسهولة جدا بين طهران وأنقرة، نظرا للعلاقات بين حكومة كردستان العراق وبين طهران.
في أعقاب التأييد التركي للعملية لعسكرية السعودية في اليمن، تصاعد منحنى الاشتباك اللفظي بين تركيا وإيران، وبدا أن الرؤى التركية السعودية قد صارت أكثر تقاربا تجاه قضايا المنطقة خاصة أن خففت السعودية من لهجتها الحادة ضد جماعات الإسلام السياسي، بل سعت لاستقطاب بعضها في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.
ما الذي يعنيه التقارب السعودي التركي؟
يخبرنا المسار التاريخي والجيوسياسي للعلاقات بين الرياض وأنقرة أنه من غير المرجح نشأة تحالف استراتيجي بينهما نظرا للاختلاف الجوهري حول الرؤى في أنظمة الحكم والنظر إلى بنية النظام الإقليمي، وعدم وجود عمق جيوسياسي للعلاقات. لكن الأوضاع المتفاقمة تخبرنا أيضا أن هذا الاتفاق قد يمتد للتعاون في ملفات متعددة. أيدت أنقرة عملية عاصفة الحزم رغم كونها لا تتمتع بمصالح مباشرة في اليمن، ما وصفه الكثيرون بأنه عربون صداقة للسعودية، أما أبرز ملفات التعاون المنتظرة فبالتأكيد ستكون في سوريا، حيث يدعم البلدان أطيافا متقاربة من الجماعات المسلحة كما يتشاركان رؤى متقاربة أيضا للحل السياسي الذي يجب أن يضمن الإطاحة بـ«الأسد» ورحيل إيران.
يعني التقارب بين البلدين أيضا أنهما بالضرورة سوف يسعيان إلى جسر الهوة بينهما حول أهم ملفات الخلاف في المنطقة وأبرزها مصر، من غير المرجح أن تتفق السعودية وتركيا على مثالي لكل منهما في مصر بسبب اختلاف وجهات النظر، لكن كل منهما يملك من أوراق الضغط ما يمكنه من ممارسته على طرفي الأزمة من أجل تقديم بعض التنازلات، كما يعني أن السعودية أيضا سوف تكون أكثر مرونة واستعدادا لتقبل دور ما لجماعات الإسلام السياسي في المنطقة.
من المرجح أن يؤثر التقارب السعودي التركي على العلاقات التركية الإيرانية، تستورد تركيا 200 ألف برميل يوميا من النفط الإيراني، سوى الغاز الإيراني والروسي. ومع توتر علاقة تركيا بإيران، ثم بروسيا مؤخرا إثر حادث إسقاط الطائرة، فإن السعودية وقطر سوف تكونان هما وجهة تركيا للحصول على بدائل لمواجهة أزمات الطاقة المحتملة في البلاد.