بدأت «تيريزا ماي»، رئيسة الوزراء البريطانية، يوم الثلاثاء الماضي في مهمة دبلوماسية من أكثر المهام شديدة الحساسية منذ قيامها برئاسة الوزراء حتى الآن.
لقد كان اجتماعها مع «دونالد ترامب» أو الإعلان عن شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مجرد إجراءات شكلية مقارنة بزيارتها إلى المملكة العربية السعودية. وقد اختارت عدم ارتداء الحجاب لتكون على غرار بعض الآخرين بما في ذلك «هيلاري كلينتون» و«ميشيل أوباما».
وتخضع النساء في السعودية لقوانين لا يمكن تصورها من خلال المعايير الغربية الديمقراطية، حيث يحظر عليهن قيادة السيارات، ولكن كبار المسؤولين السعوديين اعتادوا بشكل جيد على استقبال النساء الأجنبيات اللواتي يكشفن عن رؤوسهن.
يمكننا أن نكون متأكدين تماما،أن «ماي» لن تفعل أي شيء للمخاطرة بالعلاقة مع السعوديين، على الرغم من أنها قالت لهيئة الإذاعة البريطانية إنها ستثير قضايا حقوق الإنسان مع مضيفيها، لأنه كما قالت «إذا كان لدينا علاقة فنحن قادرون على القيام بذلك».
ولكن قد يكون عمل «ماي» في السعودية أكثر مشقة من المعتاد. فبعد عقود من الطموح نحو الحياة الغربية، والاستثمار في الاقتصادات الغربية، والإجازات في المدن الكبرى والبلدات الشاطئية في أوروبا والولايات المتحدة، خرجت النخبة السعودية من الحب مع العالم الغربي، وتحولت إلى الشرق.
إلى الشرق
ولعله لم يكن هناك دليل أوضح على هذا الواقع من الجولة التي اختتمها مؤخرا ملك المملكة العربية السعودية الملك «سلمان». وكان يرافقه وفد يضم 1500 شخص و 500 طن من البضائع (كانت شركة شحن محلية تعنى بأمتعة الملك وخصصت 572 عاملا للتعامل معها) بما في ذلك سيارتي ليموزين مرسيدس بنز ومصعدين كهربائيين لكبار السن، وقد وصل سلمان الى ست دول خلال جولته الطويلة التي شملت اندونيسيا واليابان والصين وماليزيا وبروناى والأردن.
وقد تم إلغاء زيارة جزر المالديف في اللحظة الأخيرة؛ حيث كان العذر الرسمي تفشي أنفلونزا الطيور في البلاد، ولكن العديد من المعلقين رأوا ذلك محاولة دبلوماسية لتجنب زيادة التوتر حول استثمار مليارات الدولارات في سلسلة من الجزر النائية التي يخشى النشطاء في المالديف من محاولة شرائها من السعوديين.
وفي كل مكان ذهب إليه «سلمان»، تم استقباله بالاحتفاء والورود المتناثرة في طريقه، وكان وزراء الحكومة يصطفون لاستقباله.
على النقيض من هذا الاستقبال كان الأمر عندما ذهب الملك إلى جنوب فرنسا قبل عامين في عطلة في الريفييرا الفرنسية مع الوفد المرافق له. وكان المسؤولون الفرنسيون المتشددون قد رتبوا الأمور عبر بداية سيئة من خلال إغفال قرار إغلاق جزء من الشاطئ له ولأسرته، وهو طلب أمني غير معقول لرئيس دولة زائر ، وتم تصوير ذلك كنوع من سطوة الثراء من قبل كل من الصحافة والنواب المحليين. وقال رئيس بلدية نيس «كريستيان أستروسي»، على سبيل المثال، لوسائل الإعلام المحلية« "ينبغي أن يستقبل رئيس الدولة بتدابير مجاملة، ولكن لا يوجد أي عذر للسماح بتخصيص حيز عام له».
ووقع على عريضة تدين إغلاق الشاطئ حوالي 120 ألف شخص وذلك في غضون ساعات.
ولم تسر الأمور على ما يرام مع الملك، الذي قام في نهاية المطاف بحزم حقائبه وغادر للمغرب حيث يمكن أن يكون بين زملائه العرب لمدة أسبوع واحد فقط بعد ما كان متوقعا أن يستمر لمدة ثلاثة أسابيع وقد تعهد بعدم العودة، وذلك وفقا لمصادر مطلعة.
ويختار السعوديون بشكل متزايد قضاء العطلات في البلدان التي لديها عدد كبير من السكان المسلمين مثل المالديف وإندونيسيا وسريلانكا والهند.
يقول أحد المصادر الذي يعرف العديد من أفراد الأسرة: «كان ذلك مهينا جدا للسعوديين. إنهم يستخدمون الآلاف من الناس، وقد دعموا التجارة، وخدمات السائقين وكازينوهات نيس لعقود، ثم يتم التعامل معهم في هذه الطريقة المهينة».
كما تراجعت علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع السعودية. فخطاب «ترامب» المناهض للمسلمين لا يوفر وسطا مساعدا، خاصة وأن البلاد الآن معرضة لخطر تحمل المسؤولية المالية من قبل محاكم الولايات المتحدة لدفع تعويضات لأسر ضحايا 11 سبتمبر/أيلول، وذلك بفضل مرور قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، أو جاستا (الذي يعتقد أن ترامب يؤيده).
وقد يسمح مشروع القانون فى نهاية المطاف لأسر ضحايا 11 سبتمبر/أيلول بمقاضاة الحكومة السعودية بسبب الأضرار التي لحقت بهم عبر المحاكم الأمريكية.
السعوديون قلقون بناء على أساس مالي بحت: فليس هناك ما يحدد كم من المحاكم الأمريكية العدائية التي قد تقرر أن تمنح الحق بالتعويض لأسر ما يقرب من 3000 شخص قتلوا في تلك الهجمات.
ولكن هناك مسألة أخلاقية بالنسبة للسعوديين أيضا.
يقول «روبرت ليسي»، أحد الخبراء البريطانيين الأكثر دراية في الشؤون السعودية: «من المسلم به أن 15 من 19 من الخاطفين كانوا سعوديين». «ومن الصحيح أيضا أن السعودية تعلن عن دعم الوهابية، وأنها تصب النقود في بناء المدارس الوهابية في الخارج».
وأضاف: «لكن الإشارة إلى أن خاطفي الطائرات في 11 سبتمبر كانوا عملاء للدولة السعودية هي مغالطة. لقد كرسوا عملهم صراحة للإطاحة ببيت آل سعود كأحد أولوياتهم العليا، كما هو الحال مع داعش والقاعدة اليوم»
وقد هدد السعوديون بالفعل أن يبيعوا ما يصل إلى 750 مليار دولار من الأوراق المالية الأمريكية والأصول الأمريكية الأخرى، مثل مصافي النفط الكبيرة لأرامكو، انتقاما إذا ما نفذ قانون جاستا.
حتى لندن، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ينظر إليها على أنها مكان أقل ترحيبا بالسعوديين المحافظين.
ويقول مصدر: «إن بعض السعوديين الأغنياء يبيعون شققهم في لندن ويشترون في دبي، حيث هناك شعور متزايد ضد المسلمين في لندن. وكثيرون يفضلون أن يكونوا مع زملائهم العرب».
وهناك بالطبع حالة تجارية سليمة لإعادة تركيز الطاقات في الشرق. لست مضطرا إلى أن تكون اقتصاديا مرموقا لتعرف أن المستقبل هو الصين، ويقول بعض المحللين إن تغيير الاتجاه السعودي هو مجرد متابعة للمال.
السعي إلى التنويع
وقال «جيرالد م. فيرستين»، وهو زميل أول ومدير مركز شؤون الخليج في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، لصحيفة «ديلي بيست»: «أعتقد أن السعوديين يتطلعون إلى التنويع اقتصاديا، ويرون في الصين واليابان بدائل جيدة عن الغرب. ولكن الرحلة الأخيرة ساعدت أيضا في تعزيز التحالفات مع الشركاء السنة المهمين في جاكرتا وكوالالمبور. ويريد السعوديون أيضا تحسين علاقاتهم السياسية والأمنية مع بكين حيث ترى في الصين لاعبا متزايد الأهمية في المنطقة وترغب فى سحب الصينيين عن إيران قليلا».
في حين أن كل هذه الخطوات ليست موجهة بشكل واضح إلى الولايات المتحدة، إلا أنها تعطي خيارات للسعوديين إذا كانت الأمور لا تعمل هنا.
يشير «فيرشتاين» إلى أنه في الحين الذي كان الملك في جولته الشرقية، كان ابنه ووريثه، «محمد بن سلمان» يجري «زيارة جيدة» للولايات المتحدة في نفس الوقت.
وقال توماس «دبليو ليبمان»: «أنا أضمن أن هذا التحول لا علاقة له بجاستا. إنه ببساطة يتعلق بنمو الأسواق في الشرق، وخاصة الصين وكوريا».
وقال «ديفيد أوتواي»، الخبير بالشأن السعودي وزميل معهد وودرو ويلسون لشؤون الشرق الأوسط، لصحيفة «ديلي بيست»: «التغيير في الاتجاه ليس أساسا بسبب المعاملة من الغرب ولكن هي محاولة لإعادة التوازن إلى التجارة مع آسيا وهي سياسة ظلت مستمرة منذ أوائل القرن الحادي والعشرين. الكثير من ما يحدث الآن هو مجرد استمرار لما بدؤوا القيام به بعد ذلك. آسيا هي سوق تصدير النفط الرئيسية. وهم يريدون ضمان تلك الصادرات عن طريق امتلاك مصافي النفط في تلك البلدان».
ويضيف: «إنهم قلقون جدا حول جاستا. وهم يعتبرون أنه من غير العدل أن يتم إلقاء اللوم عليهم في 11 سبتمبر. ولا أحد يعرف ما يريد الرئيس ترامب القيام به بخصوص جاستا، ويجوز أن يلغيه. ولكن قد يكون له بعض التأثير على الاستثمارات المستقبلية. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر باستثمارات صندوق الثروة السيادية الجديد، فإنهم سيبحثون بنشاط عن أماكن أخرى غير أمريكا للاستثمار فيها بشكل خاص بسبب جاستا».
يقول «ليسي»: «كل ذلك جزء من تحول هائل نحو الشرق من حيث الاستثمار والتحالف الاقتصادي والسياسي الذي يقوم به الملك سلمان، وهو محور أساسي في السياسة السعودية بعيدا عن اعتمادها التقليدي على الغرب المناهض للمسلمين بشكل متزايد».
«لماذا عليك الجلوس هناك في الغرب وتحمل المحاضرات واللوم من الناس الذين يرونك فقط كعميل لأسلحتهم؟ إذا نظرتم شرقا من الرياض، فهناك دائرة إسلامية هائلة من الثروة والنفوذ المتزايد والأصوات في الأمم المتحدة».
«كان الشرق الأوسط ينظر إلى الغرب على مدى العقود القليلة الماضية، ولكن من السهل عليهم أن ينظروا إلى الشرق، إلى الناس الذين هم ممتنون فعلا لاستثماراتهم وتعاطفهم مع دينهم، والذين يأتون إلى الحج إلى مكة وينظرون باحترام للمملكة العربية السعودية، إلى حد ما، كفاتيكان للإسلام».
«لقد استخدم بيت سعود الدين دائما لدعم شرعيته المحلية. والآن يستخدمون ذلك دوليا أيضا. كما أن هونغ كونغ (أو جزر المالديف) فيها الكثير من المرح والمتعة مثل الذي تقدمه لندن أو نيويورك بل وأمور أخرى أكثر».
ذا ديلي بيست- ترجمة وتحرير أسامة محمد - الخليج الجديد-