أتلانتيك كاونسل- ترجمة الخليج الجديد-
على مدى أعوام، تجنبت الحكومة الباكستانية التورط في الخصومة بين إيران والسعودية، لكن الآن قد تضطر إلى الاختيار. وتبقى باكستان في حاجة ماسة إلى الدعم المالي، ولدى السعوديين الوسائل اللازمة للمساعدة. فهل تقبل باكستان القيود السياسية المغلفة بالسخاء السعودي؟
ينظر ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" إلى آسيا كجزء من "رؤية المملكة المستقبلية". وكان لرحلته عبر آسيا الشهر الماضي هدفا قصير المدى أيضا، وهو إصلاح صورة المملكة العامة التي تضررت بشدة بسبب الحرب اليمنية وجريمة القتل الشنيعة للصحفي "جمال خاشقجي".
وذهب "بن سلمان" أولا إلى جنوب آسيا، وهي المنطقة التي تعد ملاذا لإيران. وبسبب العقوبات الأمريكية والدولية على مدى الـ40 عاما الماضية -التي تهدف إلى عزل إيران- تنجذب طهران نحو جنوب آسيا. ودفع تجديد العقوبات الأمريكية بشأن البرنامج النووي الإيراني إيران نحو المزيد في هذا الاتجاه.
وفي جنوب آسيا، اختار "بن سلمان" باكستان كمحطته الأولى. وتجاور باكستان إيران عند منطقة بلوشستان المضطربة. ولعقود من الزمان، كانت بلوشستان عرضة للتمرد على جانبي الحدود الإيرانية الباكستانية. وفي الواقع، قبل أيام من رحلة "بن سلمان" إلى باكستان، أدى تفجير بالقرب من مدينة "خاش" إلى مقتل ما لا يقل عن 27 من عناصر الحرس الثوري الإيراني. وتتهم إيران إدارة "ترامب" والسعودية بدعم جماعات المعارضة المسلحة، في وقت تعاني فيه الحكومة الإيرانية بالفعل من عدم الرضا بسبب التضخم والبطالة وغيرها من المشاكل الاقتصادية.
أما باكستان، ورغم أنها لا تخضع لهذا النوع من العقوبات الصارمة التي تخنق إيران، فهي أيضا في حالة اقتصادية سيئة. وكافحت إسلام آباد للحصول على إعانة مالية من صندوق النقد الدولي، وقد خففت واشنطن من مساعداتها لها بسبب إخفاقها في كبح جماح الجماعات المسلحة، لكن قد يكون الأمر مكلفا للغاية إذا ما أصبحت الصين المتبرع الأجنبي الرئيسي لديها. لذا لم يكن أمام رئيس الوزراء "عمران خان" أي خيار آخر سوى اللجوء إلى السعوديين. وسبق أن سافر "خان" مرتين إلى المملكة منذ أن أصبح رئيسا للوزراء في أغسطس/آب الماضي. وقام بزيارته الأولى في وقت تعرض فيه السعوديون لانتقادات دولية شديدة حول مقتل "خاشقجي".
وكان الترحيب بـ"بن سلمان" في إسلام آباد حارا بشكل غير عادي. وقبل أيام من وصوله، تم استبدال لافتات الاحتفال بالذكرى الـ40 للثورة الإيرانية، التي وصفت "الصداقة الطويلة والتاريخية بين إيران وباكستان"، بلوحات ترحب بولي العهد السعودي. ويعد هذا مثيرا للسخرية إلى حد ما، بالنظر إلى أن "خان" وحزبه الباكستاني، "حركة الإنصاف"، عارضوا بشدة المشاركة الباكستانية في حرب اليمن. كما عارضوا تعيين الجنرال الباكستاني المتقاعد "رحيل شريف" لقيادة التحالف العسكري الإسلامي في السعودية لمحاربة الإرهاب، بحجة أن هذا التحالف يؤثر سلبا على الانقسام الشيعي السني في باكستان. كما عبر الحزب عن قلقه من تأثير ذلك على علاقات باكستان مع إيران وروسيا وتركيا.
وعلى الرغم من رفض باكستان إرسال قوات إلى اليمن، تعهد "بن سلمان" باستثمار 20 مليار دولار في هذا البلد الآسيوي.
ويبدو أن باكستان تتوقع من إيران أن تتفهم الوضع المالي الصعب الذي تعاني منه. وصرح السفير الإيراني في باكستان مؤخرا بأن أي استثمارات من قبل الدول العربية في إسلام أباد هي قضية داخلية تخص الأخيرة، وأن بلاده تحترم سيادة باكستان.
معضلة بلوشستان
ومع ذلك، فإن تفهم إيران وصبرها ينفدان بسبب تمرد "البلوش"، الذين يعتقد الإيرانيون بشكل متزايد أنه قادم من باكستان. واتهمت إيران دول الخليج العربية بدعم حركات التمرد في مناطقها الحدودية، بما في ذلك "بلوشستان"، وتعتقد أن الحكومة الباكستانية على أقل تقدير تتجاهل التسلل المتكرر للمسلحين البلوش إلى إيران من الجانب الباكستاني من الحدود.
ويعاني البلوش -وهم من المسلمين السنة- من الفقر والمعاناة الاقتصادية، وتعرضوا لفترة طويلة لتمييز واسع جعلهم عرضة للتشدد. ويلجأ كثيرون منهم أيضا إلى التهريب والاتجار بالمخدرات؛ حيث تحولت الحدود بين إيران وباكستان إلى طريق رئيسي للتجارة غير المشروعة. وكانت "بلوشستان" أيضا موطنا لجماعات مسلحة متمردة، بما في ذلك "جند الله" و"جيش العدل". وشن كلاهما عددا من الهجمات على الحرس الثوري، بالإضافة إلى المدنيين.
وتم إعدام زعيم جماعة جند الله "عبد الملك ريجي" من قبل إيران عام 2010، وبدلا من الاستثمار في محافظة "سيستان وبلوشستان"، وإشراك القادة الدينيين والمحليين في الكفاح ضد التمرد، قام الجيش الإيراني والحرس الثوري بعسكرة المنطقة. وألقت الحكومة الإيرانية عموما اللوم على كل هجوم في المحافظة على الجماعات الوهابية السلفية المدعومة من الخارج، متجاهلة مسؤوليتها عن صعود التمرد عبر سياساتها التمييزية.
ويمكن أن ترد إيران عبر دعم المتمردين البلوش في باكستان. لكن كلا من طهران وإسلام أباد تجنبتا علنا استخدام تمرد البلوش لزعزعة استقرار بعضهما البعض. ورغم ذلك، إذا اعتقد الإيرانيون أن باكستان تفعل ذلك الآن، فقد يحاولون الانتقام بالمثل. ومن شأن هذا أن يلهب المنطقة أكثر. وستعتمد درجة التصعيد التي ستذهب إليها الحكومة الإيرانية على تقييمها لمدى ارتباط "خان" بالسعوديين وحجم تعاون إسلام آباد مع إيران في محاربة هؤلاء المتمردين البلوش.
ومن الجدير بالذكر أن رئيس الوزراء الباكستاني السابق "نواز شريف"، الذي كان يُعتبر من أكثر الزعماء الموالين للسعودية في "إسلام آباد"، كان ترك قرار نشر قوات باكستان في اليمن للبرلمان؛ حيث تم رفضه بالإجماع. وفعل ذلك على الرغم من أن الدستور الباكستاني يمنح رئيس الوزراء سلطة نشر القوات. والآن، يقول أشخاص مقربون من "خان" إنه لا توجد قيود مرتبطة بالقروض والاستثمارات السعودية الجديدة. وفي الواقع، قدم السعوديون مؤخرا بضع بادرات إضافية تجاه باكستان، حيث أفرجوا عن الآلاف من السجناء الباكستانيين الذين كانوا مسجونين في المملكة بسبب جرائم صغيرة، وزادوا حصة الحج للباكستانيين من 184 ألفا إلى 200 ألف حاج.
لكن القضية التي تثير قلق العديد من الباكستانيين هي أن هذه الاستثمارات السعودية ليست بالضرورة استجابة لاحتياجات باكستان، ولكنها تأتي تماشيا مع الأزمة السياسية التي تعاني منها المملكة. وتحتاج باكستان إلى المال، ويحتاج "بن سلمان" إلى اعتراف دولي. وكانت هناك بعض المقاومة لهذه الاستثمارات في ميناء "جوادر" في باكستان. إذ أعرب بعض المزارعين وصيادي الأسماك في المنطقة عن قلقهم من المشاريع المخطط لها في "بلوشستان"، خشية أن يضر ذلك بمستقبل معيشتهم. وقد تواجه مصفاة محلية مخطط لها أيضا معارضة محلية.
وحاولت باكستان الحفاظ على التوازن في العلاقات مع إيران وخصومها. وعندما أصبح "شريف"، الذي كان يقيم لأعوام عديدة في المملكة، رئيسا للوزراء، توقع الكثيرون تغيرا في العلاقة بين إيران وباكستان. لكن في الواقع، لم يعزز :شريف" العلاقة، ولم يضعفها كذلك. وسيكون من المستغرب إذا جاء خلفه ليضر بها الآن.
ويقول المسؤولون الباكستانيون إن السعوديين ليس لديهم أجندة خفية وأن استثماراتهم في باكستان لا تتعلق نوايا إيران. وإذا ثبت عكس ذلك فإنه يمكن أن يشكل مشكلة لـ"خان"؛ حيث يمكن للمملكة مطالبة باكستان مرة أخرى بلعب دور في اليمن، على سبيل المثال. وكانت "إسلام آباد" أرسلت قوات لحراسة الحدود السعودية اليمنية، وقبل عام وافقت على إرسال قوات إضافية إلى هناك. وستراقب إيران لترى ما إذا كانت مشاركة باكستان العسكرية مع السعوديين ستتسع، أو ما إذا كانت باكستان سترسل قوات إلى اليمن نفسها. وستكون مثل هذه الخطوة ضارة بحكومة "خان" أيضا؛ حيث لا تحظى الحرب في اليمن بشعبية في باكستان، التي يشكل الشيعة 20% من سكانها.