معهد دول الخليج العربية بواشنطن - ترجمة الخليج الجديد-
سلط الباحثان "ليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو" و"كريستيان ألكسندر" الضوء على تطور الموقف السعودي من الأوضاع في أفغانستان، في ظل تقلب العلاقة بين الطرفين على مدى العقود الماضية، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ووصفا هذا التقلب بأنه أشبه بحالة مد وجزر، انتهى بها المطاف إلى تركيز الرياض على دعم الاستقرار في كابل وما حولها.
وذكر الباحثان، في تحليلنشره معهد دول الخليج العربية وترجمه "الخليج الجديد"، أن تداعيات هجمات 11 سبتمبر/أيلول دفعت دول الخليج إلى النأي بنفسها عن أفغانستان، التي ارتبط الحكم فيها آنذاك بتنظيم القاعدة، حيث خشي قادة تلك الدول من أن تتسبب الجاذبية العابرة للحدود للأيديولوجية الإسلامية الراديكالية في انعدام الأمن ببلدانهم وبالمنطقة.
فرغم أن أن أفغانستان منفصلة جغرافيًا عن شبه الجزيرة العربية، إلا أن الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار في البلاد يؤثران بشكل مباشر على إيران وباكستان، الجارتان المجاورتان لدول الخليج العربية.
وكي تضمن السعودية مصالحها الأمنية والاقتصادية في المستقبل السياسي لأفغانستان، مارست درجات متفاوتة من التأثير على ديناميكيات القوة الأفغانية على مدى العقود العديدة الماضية.
وركز الاستراتيجية السعودية على ضرورة احتواء طموحات إيران التوسعية في أفغانستان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط الكبير، ومحاربة الشبكات الإرهابية والمتطرفة
وأتاح الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979 للقادة السعوديين فرصة لاحتواء الطموحات الإيرانية، عبر التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة وباكستان، ولعب دور حاسم في تنظيم ودعم مقاومة المجاهدين ضد الاحتلال السوفيتي.
ورغم ذلك، لم تكن هيكلة الميليشيات الأفغانية بطريقة منضبطة مهمة سهلة، إذ كان الانقسام وانعدام الثقة والاستياء يلوح في الأفق بشكل كبير بين أحزاب المعارضة الرئيسية الستة التي شكلت المعسكر الأفغاني المناهض للسوفييت.
وبينما كان من المفترض أن تكون مرحلة ما بعد الاحتلال مستقرة، انزلقت أفغانستان في حالة من الفوضى، حيث تنافس المجاهدون للسيطرة على كابل، وتعددت مرات جمعهم في السعودية "أمام الكعبة" للقسم على توحيد صفوفهم والعمل معا، إلا أنهم عادوا للاقتتال فور عودتهم إلى أفغانستان في كل مرة.
وتزامنت آخر محاولة سعودية لـ "دبلوماسية الكعبة" مع اتفاق السلام لعام 1993 برعاية رئيس الوزراء الباكستاني "نواز شريف"، الذي جمع ممثلين عن فصائل المجاهدين في إسلام أباد، حيث وافقوا على إنهاء الأعمال العدائية وتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة. ثم نُقل القادة جواً إلى مكة لحضور حفل توقيع ثانٍ أمام الكعبة. لكن عندما عادت الأطراف إلى أفغانستان، اندلعت التوترات مرة أخرى.
ورغم تخصيص السعودية 4 مليارات دولار لدعم المجاهدين في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن اقتتال أمراء الحرب أدى إلى تقويض الدعم المالي والتأثير الديني للمملكة، لتعترف الرياض تدريجيًا بأن لديها القليل من النفوذ للعب دور ذي مغزى في أفغانستان.
تراجع سوفيتي وتدخل إيراني
وفي المراحل الأولى من الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، لم تكن السعودية وإيران تنظران إلى بعضهما البعض كمنافسين، بل تشتركان في الهدف المشترك المتمثل في إبقاء التهديد الشيوعي خارج المنطقة.
لكن بعد الإخلاء السوفياتي من أفغانستان، ظهر فراغ في السلطة، وفقدت القوى العالمية الاهتمام بأفغانستان، ما أدى إلى صراع على النفوذ بين الجهات الإقليمية والمحلية الفاعلة، بما في ذلك أمراء الحرب الأفغان، الذين صعدوا من اقتتالهم.
وخشيت السعودية من أن تستغل إيران الفوضى الأفغانية للاستفادة من تقارباتها اللغوية والدينية مع الأقليات، مثل الطاجيك الناطقين بالفارسية ومجموعات الهزارة الشيعة، لنشر الأيديولوجية الثورية الخمينية.
وفي المقابل، أعرب القادة الإيرانيون عن قلقهم من أن تبدأ الرياض "حرب ظل" ضد إيران باستخدام مجموعات المجاهدين المدعومة سعوديًا، وخاصة الفصائل الإسلامية الأصولية بقيادة "عبد رب الرسول سياف" و"قلب الدين حكمتيار"، إضافة إلى حركة طالبان بقيادة الملا "محمد عمر".
ولبناء نفوذ سياسي في أفغانستان، ركزت إيران على إنشاء تحالف من المجاهدين الشيعة لتقديم بديل موثوقًا به للتحالف المناهض للسوفيات، المدعوم من واشنطن وإسلام أباد والرياض.
وكان من المأمول أن يقوم هذا التحالف، الذي ُعرف لاحقا باسم حزب الوحدة الإسلامية في أفغانستان، بتوحيد القوات الشيعية المقاتلة والمساعدة في إنشاء منطقة عازلة في المقاطعات الغربية لأفغانستان، وخاصة هرات، وهو ما من شأنه عزل إيران عن الاضطرابات.
لكن إيران اكتشفت، مثل السعودية، أن توحيد المجاهدين في أفغانستان مهمة عبثية، حيث قاومت الحركة الثورية الإسلامية، وهي جماعة شيعية رئيسية يقودها آية الله "آصف محسني"، ضغوط طهران للانضمام إلى المظلة التي ترعاها.
كما أدى الاحتكاك بين الفصائل، والأجندات السياسية والعسكرية المتباينة، والتزام إيران غير المنتظم بقضية الشيعة الأفغان، إلى التأثير سلبا على استقرار التحالف وقدرة إيران على ترسيخ عمقها الاستراتيجي في أفغانستان.
ورغم التنافس بين السعودية وإيران لجر أفغانستان إلى مناطق نفوذهما، إلا أن احتمالية تحقيق حل سياسي للصراع الأفغاني أقنعت الخصمين بالتقليل من خلافاتهما والمشاركة في رعاية اتفاق السلام الذي توسط فيه "نواز شريف" عام 1993.
لكن شهر العسل السعودي الإيراني كان قصيرا، وتوترت العلاقات الثنائية مع انهيار الاتفاق وصعود حركة طالبان في منتصف التسعينيات.
وبسبب الإحباط من عدم موثوقية مجموعات المجاهدين، وخاصة تلك التي يقودها "سياف" و"حكمتيار"، رأت السعودية في طالبان بديلاً قابلاً لتحقيق الاستقرار في أفغانستان مع منع إيران من تحقيق نفوذ كبير في آسيا الوسطى.
غير أن زواج المصلحة هذا لم يدم طويلاً، حيث أثبتت طالبان أنها أكثر صعوبة في السيطرة عليها من فصائل المجاهدين الأخرى.
مسار غير منتظم
وخلال العقدين الماضيين، وتحديدا في الفترة بين انهيار نظام الملا "عمر" في أكتوبر/تشرين الأول 2001 وصعود طالبان السريع إلى السلطة بعد انسحاب قوات التحالف الدولي بشكل جماعي خلال صيف عام 2021، استمرت التفاعلات السعودية الإيرانية في أفغانستان في اتباع مسار غير منتظم.
وواصل كلا البلدين نهجه الخاص بأفغانستان في محاولة لشراء ولاء الجهات الفاعلة المحلية عن طريق تحويل مبالغ كبيرة من المال إليهم، لكن المنافسة المستمرة منذ عقود سلطت الضوء على فشل هكذا استراتيجية في بلد به فسيفساء سياسية معقدة.
وهنا يشير الباحثان إلى أن اختيار السعودية وإيران لشركائهما غالبا ما جرى بناءً على روابط لغوية وثقافية ودينية، لكن الفاعلين المحليين لاينظرون دائمًا إلى الهوية باعتبارها العامل الأهم في اختيارهم الانضمام إلى حلف سياسي.
وإزاء ذلك، أخطأت الرياض وطهران إلى حد كبير في تقدير قدرتهما على مراقبة وكلائهما الأفغان، وبالغا في تقدير "التقارب الطبيعي" كقوة تعبئة وتجميع.
((2))
ولم يؤد تدخل الرياض في الشؤون الداخلية لأفغانستان في هذه الفترة إلا إلى نصر محدود ومكلف، إذ أوقفت نفوذ إيران في أفغانستان، لكنها لم تكن قادرة على توسيع مجال نفوذها السياسي.
وبمرور الوقت، تحول تركيز العمل السعودي في أفغانستان تدريجياً من مواجهة التهديد السوفياتي والنفوذ الإيراني إلى محاربة الإسلام الراديكالي، خاصة بعدما الجماعات الإسلامية المتطرفة عددًا غير مسبوق من الهجمات على الأراضي السعودية بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ونظرًا لوجود العديد من الملاذات الإرهابية في أفغانستان، فقد سعت السعودية إلى استخدام قنوات اتصالها مع طالبان لوقف الهجمات.
وفي هذا السياق، لم تعترف الرياض بحكومة طالبان فحسب، بل اتصلت أيضًا بالملا "عمر" في محاولة لجعله يتخلى عن زعيم القاعدة "أسامة بن لادن"، العقل المدبر لحملة الإرهاب التي استهدفت المملكة، لكن طالبان رفضت تسليم "بن لادن"، لتبدأ التوترات مع السعودية في التصاعد.
وعندما قصف تنظيم القاعدة سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا عام 1998، استجوبت الولايات المتحدة السعودية بشأن عدم قدرتها على الاستفادة من علاقاتها مع طالبان لمنع مثل هذه الهجمات.
ووصلت العلاقة بين السعودية وطالبان إلى الحضيض في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، حيث قطعت الرياض العلاقات الدبلوماسية مع كابل وانضمت إلى حرب الرئيس "جورج دبليو بوش" على الإرهاب ضد القاعدة وداعميها، وفي مقدمتهم طالبان.
حاولت السعودية الحفاظ على وجود مرئي في أفغانستان واتصال مباشر مع السكان الأفغان من خلال العديد من مشاريع البنية التحتية والتعليم والمشاريع الإنسانية بمليارات الدولارات، لكن ذلك لم يغير حقيقة أن قطاعات كبيرة من الطيف السياسي الأفغاني أصبحت غير واثقة في المملكة.
اتصل رئيس أفغانستان آنذاك، "حامد كرزاي"، مرارًا وتكرارًا بالرياض للوساطة بينه وبين طالبان، لكن المحادثات لم تسفر عن أي شيء، وفقدت السعودية نفوذها.
عهد بن سلمان
وجاء إعلان "محمد بن سلمان" وليًا للعهد في السعودية عام 2017 بمثابة تغيير في الحرس الحاكم بالمملكة، وأدى هذا التغيير في القيادة وصعود جيل الشباب إلى مناصب محورية في الإطار المؤسسي السعودي إلى إصلاح واضح لهياكل السلطة التقليدية وإعادة تقويم للسياسة الخارجية.
وفي هذا الإطار، اتبعت السعودية سياسة مناهضة لطالبان، ونأت بنفسها عن شريكها السابق من خلال مقارنة النسخة الراديكالية من الإسلام للجماعة الأفغانية بـ "الإسلام الأكثر اعتدالًا".
ففي يوليو/تموز 2017، على سبيل المثال، استضافت المملكة مؤتمرًا دوليًا لمنظمة التعاون الإسلامي لتعزيز السلام والاستقرار في أفغانستان، وشارك فيه أكثر من 100 من علماء الدين من حوالي 40 دولة، واختتم بإعلان يدين الشرعنة الدينية للعنف الذي تمارسه حركة طالبان. ويستخدم ولي العهد السعودي مثل هذه المنصات لمحاولة تغيير التصورات الدولية المنتشرة عن المملكة العربية السعودية بوصفها دولة لمجتمع دوغمائي شديد المحافظة، وتقديم تفسير سلمي ومتسامح للإسلام، يناقض تفسير الجماعات المتطرفة، مثل طالبان.
ويُنظر إلى سياسة السعودية تجاه أفغانستان مؤخرا، وتجاه طالبان بشكل خاص، خلال السنوات الأخيرة، على أنها جزء من محاولة أوسع من قبل قيادة المملكة لإعادة تأهيل مكانة البلاد على الساحة الدولية لجذب الاستثمار الأجنبي.
ومع استيلاء طالبان على السلطة في منتصف أغسطس/آب 2021، وتجميد الأصول الخارجية للبنك المركزي الأفغاني، والانخفاض الهائل في تدفق المساعدات الخارجية إلى البلاد، بدا أن التدهور السريع للأوضاع الإنسانية أمرًا لا مفر منه، وهو ما واجهته السعودية من خلال الاستفادة من مؤهلات قيادتها.
ولعبت المملكة دورًا حاسمًا في حشد أعضاء منظمة التعاون الإسلامي لتكثيف الجهود لتقديم الإغاثة الإنسانية للشعب الأفغاني.
وفي مارس/آذار 2022، تم تعيين مدير عام جديد لمكتب منظمة التعاون الإسلامي في كابل، وأعيد فتح بعثة المنظمة رسميًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
ويخلص الباحثان إلى أن إنشاء طالبان لنظام حكم يحترم الأقليات التي تشكل النسيج الديموغرافي الأفغاني غير المتجانس ويضمن الحد الأدنى من مستويات الأمن للمواطنين أمر غير وارد، ولذا ستظل السعودية حذرة في مراقبة ديناميكيات القوة الأفغانية.
كما رجح الباحثان إبقاء القادة السعوديين بعض قنوات الاتصال مفتوحة مع طالبان، لا سيما باسم الاستقرار في المنطقة، وأن يعملوا على معالجة المخاوف المشتركة، مثل التدفق غير المشروع للمخدرات وتهريب الأسلحة، ومحاولة التأكد من عدم عودة أفغانستان ملاذًا للمنظمات الإرهابية.