القدس العربي-
لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقصد رد الصاع للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحده، بسبب الأذى الذي تُلحقه قرارات البيت الأبيض بسياسات الطاقة المعتمدة من جانب الكرملين، بل كان أيضاً يعاقب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان جراء نقض الأخير سلسلة وعود سبق أن قطعها في الخريف الماضي حول استثمارات هائلة للمملكة في ميادين الاقتصاد الروسي المختلفة.
هذا مستوى أول ضروري لفهم قرار موسكو المفاجئ في رفض توصية منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بخفض إضافي جماعي في إنتاج الخام، وذلك لوقف الهبوط المستمر في أسعار النفط والناجم بدرجة أولى عن انتشار فيروس كورونا المستجد.
هذا رغم أن مخالفة أوبك يمكن أن تفضي إلى تقويض ثلاث سنوات من التعاون الروسي مع المنظمة، في إطار ما يُعرف باسم «أوبك بلس».
الرد السعودي لم يتأخر كثيراً، بل لاح أنه صدر في زمن قياسي فوري، فقررت الرياض إغراق الأسواق بمئات الآلاف من براميل النفط الرخيص، وهبطت بأسعار نفطها المطروح في الأسواق إلى مستواه الأدنى خلال 20 سنة، فاشتعلت بذلك حرب أسعار بين عملاقي السوق النفطية: السعودية بوصفها أكبر الدول المصدرة، وروسيا التي تحتل موقع أكبر دولة منتجة.
وكان طبيعياً أن تقع الأسواق ضحية هذه الهزة الكبرى، فتهوي الأسعار إلى أكثر من 20٪، ويتراجع سعر برميل تكساس إلى 30 دولاراً، وبرميل برنت إلى 33 دولاراً.
مفهوم أن بوتين أشعل هذه الحرب لاعتبارات تخص ضعف هوامش المناورة التي يملكها اقتصاد الطاقة الروسي لجهة التخفيض الإضافي في الإنتاج، وكذلك استجابة لمطالب شركة النفط الروسية الحكومية العملاقة «روس نفط» التي لم تتحمس في أي يوم لفكرة الانضواء تحت سقف أوبك، حتى ضمن الحدود الدنيا التي انطوت عليها صيغة «أوبك بلس».
ومن جانب آخر لم يكن يسيراً على قيصر روسيا المعاصر أن يتقبل تعطيل البيت الأبيض لتفاهمات موسكو مع برلين حول مشروع «نورد ستريم 2» الذي يربط غاز سيبيريا بألمانيا، أو استهداف الاستثمارات الروسية في السوق النفطية الفنزويلية.
ولكنها حرب أقرب إلى خيار شمشون على الجانب السعودي، لأسباب تتجاوز أسواق النفط وتشمل مآزق المملكة على أصعدة داخلية أولاً، تتصل بجهود ولي العهد لإحكام قبضته على السلطة، وهذه باتت تقتضي بالضرورة تصفية العديد من رجال الصفّ الأول في العائلة الملكية.
كما ترتبط بمآزق جيو ــ سياسية تبدأ من تورط المملكة في مغامرة اليمن العسكرية الفاشلة، وتمرّ بوقوع منشآت المملكة الحيوية والنفطية خاصة في مرمى صواريخ الحوثي، ولا تنتهي بانحدار سهم أرامكو بمعدل 15,6٪ خلال ثلاثة أشهر فقط بعد الطرح الأولي.
عواقب الخطوة السعودية، وبمعزل عن جوانب التخبط ورد الفعل العشوائي والطابع المتسرع التي اكتنفتها، أنها لا تمس الاقتصاد السعودي وحده، والسوق النفطية في المملكة تحديداً، بل تمتد آثارها إلى تفكيك منظمة أوبك ذاتها وإضعافها أكثر فأكثر.
فضلاً عن الإضرار باقتصادات العالم بأسره كما تشهد على ذلك مؤشرات الهبوط في بورصات العالم الكبرى. وأن يقرر بن سلمان مناطحة بوتين عبر خيارات شمشونية أمر يتوجب أن يختلف، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، عن وضع اقتصادات العالم أمام احتمالات انهيار مخيفة، أين منها هلع كورونا وفيروساتها.