عبدالحافظ الصاوي- البيت الخليجي-
المُنتج المُرجِّح، هو الدور الذي اختارته السعودية لنفسها في سوق النفط على مدار سنوات. وهو ما كلفها كثيرًا من تحمل تبعات الحفاظ على استقرار سوق النفط عند مستويات معينة، في ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم. ولم يخلو الأمر من توظيف سياسي، سواء بالتوفق مع تواجهات الولايات المتحدة أو اتخاذ اتجاه معاكسٍ لرغبات إيران -غريمتها في الشرق الأوسط- برفع أسعار النفط.
ولعلنا نذكر مدى تأثير الدور السعودي في سوق النفط، إبان أبريل/نيسان 2020، حينما تضاربت توجهات الإنتاج مع روسيا، وأدى ذلك إلى ما عُرف بحرب الأسعار، حيث تدنت أسعار النفط إلى 19 دولار للبرميل، ولذلك سعت روسيا بشكل سريع للتوافق مع السعودية.
منذ النصف الثاني من 2020، اتجهت السعودية في إطار تكتل “أوبك +” لتحقيق حالة من التوازن للأسعار في السوق، وبخاصة بعد أن تفاقمت الأوضاع المالية والاقتصادية للدول النفطية، العربية منها وغير العربية. فتم تبني سياسة تخفيض سقف الإنتاج، بغية تقليص المعروض النفطي في السوق، لتحسين السعر. وبالفعل، وصلت الأسعار لحالة جيدة، بعد أن تجاوزت حاجز الـ 80 دولار، وكانت هناك توقعات بأن تصل إلى 90 دولار للبرميل، وعلى أن تتجاوز ذلك في النصف الثاني من عام 2022.
الجدير بالذكر، أن إنتاج السعودية من النفط بلغ في أكتوبر 2021 نحو 9.7 مليون برميل يوميًا، وذلك وفق أرقام التقرير الشهري لسوق النفط، الذي أصدرته منظمة أوبك، في عدد نوفمبر 2021. كما تذهب تقديرات أخرى إلى أن صادرات السعودية من النفط في شهر أغسطس 2021 بلغت نحو 6.3 مليون برميل يوميًا.
وتعكس هذه البيانات مكانة معتبرة للسعودية في سوق النفط، حيث تعتبر الدول الثانية على مستوى العالم من حيث كميات الإنتاج، والمرتبة الأولى عالميًا من حيث كميات الصادرات النفطية، ومن هنا اكتسبت المقدرة على ممارسة دور المُرجِّح في سوق النفط.
من المعلوم أيضًا، ففي نفس الوقت الذي تمثل فيه مكانة السعودية في سوق النفط حالة إيجابية، فإنه في حالة تراجع سوق النفط، تتضرر السعودية بشكل كبير، وبخاصة أن استراتجيتها للتنوع الاقتصادي لازالت لم تؤت ثمارها بعد.
الصدام مع بايدن
عكَس تكتل “أوبك +” حالة من التماسك والإصرار على سياسته بزيادات محدودة إلى سقف الإنتاج اليومي القائم من أجل تحقيق سياسة إنهاء الفائض في المعروض النفطي بالسوق، وهو ما أدى إلى زيادة الأسعار، في ظل زيادة الطلب على النفط لتداعيات موسم الشتاء.
ولكن هذه السياسة أدت إلى ارتفاع موجة تضخمية في معظم اقتصاديات العالم، وبخاصة لدى دول كبار مستهلكي النفط، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي بلغ فيها معدل التضخم 6%، مما دعا الرئيس بايدن إلى مناشدة “أوبك +” باتخاذ قرارات من شأنها زيادة الإنتاج من أجل تهدئة الأسعار. رد فعل “أوبك +” جاء على غير رغبة الرئيس الأمريكي، واستمروا على نفس نهجهم بزيادة 400 ألف برميل يوميًا فقط لسقف الإنتاج. على إثر ذلك أعلن بايدن بأن لديه أدوات أخرى للتأثير على سوق النفط، واتخذ قراره باللجوء للمخزون الاستراتيجي من النفط، وتعاونت معه في هذا الصدد دول أخرى مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية.
المتغير الجديد
نحن أمام أحداث فارقة، حيث انحازت السعودية إلى جوار روسيا، عبر تكتل “أوبك +” ضد الرغبة الأمريكية، مما دفع أميركا إلى اتخاذ خطوات على غير رغبتها، قد تدفعها مستقبلًا إلى تبني سياسات من شأنها إحكام قبضة الدول المستهلكة على سوق النفط بل وتكبد الدول المنتجة لخسائر كبيرة خلال الفترة القادمة.
فغير مرة صرح مسؤولون سعوديون بأن النفط لا يجب أن يكون سلعة سياسية. لكن هذه المرة، ثمة توظيف سياسي من قبل “أوبك+” لتصفية حسابات لكل من روسيا والسعودية لملفات عالقة مع أميركا في ظل إدارة الرئيس بايدن. يمكن القول بأن السعودية اتخذت قرارها بأن تكون المنتج المتحكم في سوق النفط، بدلًا من المنتج المرجح، وهو أمر يختلف كثيرًا من حيث الدور والتبعة. فمن حيث الدول، بروز سياسة التحدي مع الولايات المتحدة وكبار المستهلكين للنفط، وبخاصة في موسم الشتاء الذي يزيد فيه الطلب على النفط وأوضاع اقتصادية غير مواتية في الدول المستهلكة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
أما التبعة، فقد تسعى واشنطن عبر أدوات أخرى، سواء من خلال أعضاء في “أوبك +” أو خارجه، لزيادة الكميات المنتجة، وبالتالي زيادة المعروض وانخفاض الأسعار لمستويات تفاقم من الأوضاع المالية والاقتصادية للدول النفطية، وعلى رأسها السعودية.
وإذا ما استمرت السعودية على هذا الموقف، دون استجابة للرغبة الأميركية فقد تضطر إلى ضغط إنتاجها بشكل أكبر لتحافظ على دورها القديم، وهو المنتج المرجح، كي تمارس الدور الجديد، المتحكم أو صانع السوق.
لقد ظلت معادلة سوق النفط قائمة على مصالح المنتجين والمستهلكين لفترة ليست بالطويلة، وبخاصة في حقبة السبعينيات. ولكن بعدما نشأت وكالة الطاقة الدولية، ومارست دورها بشكل كبير، تحولت المعادلة إلى طرف واحد، وهو تحكم المستهلكين في السوق، وأصبح المنتجون في طرف المتغير التابع، مما أضعف موقفهم في السوق.
تطورات تضعف الموقف السعودي
ما شهدته سوق النفط الدولية آواخر نوفمبر الماضي من تراجع في أسواق النفط، يبرهن على أن القادم قد يضعف الموقف السعودي. فسبب هذا التراجع، ما نشر عن تطور المتحور الجديد من فيروس كورونا، وما سببه من حالة هلع لدى العديد من الدول، لدرجة قد تصل إلى العودة لحالة الإغلاق التام مرة أخرى وتفاقم الخسائر التجارية والاقتصادية.
وإذا حدث هذا التوقع الخاص بالتطورات السلبية لفيروس “أوميكرون”، فإن الطلب على النفط سيتراجع، وسنكون أمام سيناريوهات أسعار تتراوح ما بين الـ 50 دولار والـ 60 دولار للبرميل، وهي معدلات تضع الدول النفطية كلها وعلى رأسها السعودية في وضع مالي مأزوم، ليستمر وضع عجز الميزانية العامة، وزيادة التوجه للديون الخارجية، وتراجع أرصدة إحتياطي النقدي الأجنبي، وكذلك أرصدة الصندوق السيادي بل وتوقف أو تباطؤ الإستمرار في المشروعات الاستثمارية الكبرى.
استشراف المستقبل
نحن أمام سيناريوهين للدور السعودي في سوق النفط ضمن هذا المشهد الجديد:
الأول أن تنتصر السعودية لنفسها، فنكون أمام تركيبة جديدة في خريطة القوى الاقتصادية، وتوظيف جديد للموارد الاقتصادية الأولية في إدارة العلاقة بين الدول الكبرى من جهة، والدول النامية، منتجة المواد الأولية من جهة أخرى.
والسيناريو الثاني، أن ينهار تكتل “أوبك +” عبر أدوات أميركية، وفق أوراق لعبة المصالح، وهي متعددة. ويمكن أن تكون روسيا أول الدول التي تتخلى عن أوبك بالكلية، وكذلك يمكنها التخلي عن السعودية، خصوصاً وأن موسكو تعاني من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ عام 2014، من قبل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.