معهد الشرق الأوسط - ترجمة الخليج الجديد-
تواجه ألمانيا تحديًا عميقًا يتمثل في محاولة تنويع إمداداتها من الطاقة أثناء اندلاع حرب مزعزعة للاستقرار في أوكرانيا، ولذا تسعى لضبط سياستها تجاه دول الخليج، فكيف تسعى لتحقيق هذا الضبط؟ وكيف؟
تناول الباحث "سيباستيان سونز" إجابة السؤال في تحليل نشره بموقع معهد الشرق الأوسط (MEI) وترجمه "الخليج الجديد"، مشيرا إلى دخول الحكومة الألمانية في شراكات جديدة بمجال الطاقة مع السعودية والإمارات وقطر.
وذكر "سونز"، في تحليله، أنه لا ينبغي النظر إلى دول الخليج فقط على أنها مزوِّد للطاقة ؛ في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، مشيرا إلى أن هذه الدول تبرز اليوم كـ "قوى سياسية عالمية ذات أهمية سياسية وأمنية متزايدة لألمانيا".
وأضاف أن برلين عليها التفكير في نهج إستراتيجي أكثر شمولاً تجاه الممالك الخليجية، يركز على قضايا إستراتيجية تتجاوز إمدادات الطاقة، مثل الجهود المشتركة في التكامل الإقليمي والتنمية.
شراكات جديدة
وفي سبتمبر/أيلول 2022، اتفقت ألمانيا وقطر على الدخول في شراكة طاقة أكثر شمولاً، تشمل المشتريات الألمانية من الغاز الطبيعي المسال (LNG) من شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة، عبر شركة ConocoPhillips الأمريكية، لمدة 15 عامًا، بدءًا من عام 2026.
وشكل هذا التعاون نقطة تحول في علاقات ألمانيا مع دول الخليج، فحتى هذا الوقت كان الارتباط الاقتصادي الألماني بمنطقة الخليج مدفوعًا بالصادرات غير المتعلقة بالطاقة بالأساس، وذلك في قطاعات السيارات أو التصنيع أو البنية التحتية أو الخدمات.
وفي عام 2021، بلغ إجمالي قيمة الواردات والصادرات بين ألمانيا ودول مجلس التعاون الخليجي 18.9 مليار يورو، حيث ساهمت الصادرات الألمانية بـ 13 مليار يورو في الميزان التجاري.
ودولة الإمارات العربية المتحدة هي الشريك التجاري الرئيسي لألمانيا في دول مجلس التعاون الخليجي بحجم تجارة يبلغ 8 مليار يورو، تليها المملكة العربية السعودية بـ 6.6 مليار يورو.
غير أن قطر تتجه للاستثمار بشكل كبير في الشركات والبنوك الألمانية، مثل دويتشه بنك (حصة 8%) وHapag-Lloyd (13%) أو فولكس فاجن (17%)، وترعى الخطوط الجوية القطرية نادي كرة القدم الأكبر في ألمانيا، بايرن ميونيخ.
وفي المقابل، ظلت الشراكات في قطاع الطاقة محدودة بين دول الخليج وألمانيا حتى 24 فبراير/شباط 2022، حيث أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى خلق حوافز جديدة وعاجلة لمثل هذا التعاون.
وقبل الحرب، تلقت ألمانيا 55% من إمدادات الغاز من روسيا، وأدى الاعتماد المفرط على مصادر الطاقة الروسية، بدوره، إلى اعتماد سياسي "إشكالي" على العلاقات المتوافقة مع الكرملين.
ولذلك عندما وصف المستشار الألماني "أولاف شولتز" الهجوم الروسي على أوكرانيا، العام الماضي، بأنه "نقطة فاصلة في تاريخ أوروبا"، استلزم هذا الخطاب أن تبذل الحكومة الألمانية أخيرًا جهودًا مكثفة لتنويع شراكات الطاقة في البلاد.
وفي إطار هذا المسعى، اتجهت ألمانيا إلى الخليج، وفي مارس/آذار الماضي، سافر وزير الاقتصاد الألماني "روبرت هابيك" إلى الإمارات وقطر من أجل تعزيز التعاون الثنائي بمجال الطاقة.
وأعقب ذلك، في مايو/أيار، زيارات إلى برلين، قام بها أمير قطر "تميم بن حمد آل ثاني" ووزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي آنذاك، "سلطان أحمد الجابر"، لمناقشة تعزيز التعاون في مجال الهيدروجين.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، ركزت رحلة "شولتز" الأولى إلى الرياض وأبو ظبي والدوحة أيضًا على أمن الطاقة والتعاون الاقتصادي.
إمدادات الهيدروجين
وكجزء من مستهدف تحول الطاقة، تسعى ألمانيا إلى تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 65% بحلول عام 2030، وزيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء إلى 80%، والوصول إلى "الحياد المناخي" بحلول عام 2045. وضمن جدول أعمال أوسع، من المقرر أن يصبح الهيدروجين ركيزة أساسية لمزيج الطاقة في ألمانيا.
وكانت الحكومة الألمانية السابقة قد أطلقت، في يونيو/حزيران 2020، الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين، التي توفر إطارًا لإنتاج الطاقة على أساس الهيدروجين، ولذا تعتبر الحكومة الألمانية أن دول الخليج شريك موثوق به في الحفاظ على احتياجات الطاقة الحالية وتعزيز قطاع الهيدروجين في المستقبل.
فدول الخليج تهدف إلى ترسيخ نفسها كمراكز إقليمية لإنتاج الهيدروجين، وبالتالي فهي مهتمة بالتعاون مع كبار المستهلكين مثل ألمانيا.
وعلى سبيل المثال، وقعت برلين والرياض حوار الطاقة الألماني السعودي في مارس/آذار 2021 من أجل تعزيز التعاون الثنائي في إنتاج ونقل الهيدروجين؛ وفي فبراير/شباط 2022، افتتحت ألمانيا "مكتب دبلوماسية الهيدروجين" في العاصمة السعودية. كما وقعت ألمانيا شراكة في مجال الطاقة مع الإمارات عام 2017.
وتعتبر منطقة الخليج حيوية للاقتصاد الألماني القائم على التصدير، والذي يعتمد بشكل كبير على طرق التجارة وسلاسل التوريد الآمنة، ولذا يظل أمن الممرات البحرية حول شبه الجزيرة العربية من الاهتمامات الرئيسية لعملية صنع القرار السياسي في برلين.
وسيتعمق هذا الاهتمام بالمستقبل في ضوء الصفقات التي أبرمتها ألمانيا مع دول خليجية معينة لشحن الغاز الطبيعي المسال إلى المحطات الساحلية الألمانية.
وفي ظل هذه الخلفية، فإن النهج التكتيكي الحالي لبرلين تجاه الخليج بحاجة إلى توسيع نطاقه بما يتجاوز الطاقة ليشمل أيضًا بُعدًا أمنيًا واضحًا، حسبما يرى "سونز"، مشيرا إلى أن ألمانيا بدأت في الخضوع لتحول استراتيجي بمجالي الأمن والسياسة الخارجية، منذ بدء الحرب المدمرة على أوكرانيا، وأن العلاقات مع دول الخليج لابد أن تكون مدرجة ضمن هذا التحول.
فالسعودية والإمارات وقطر برزت كدول تلعب دورا عالميا في عالم متعدد الأقطاب منذ "الانتفاضات العربية" في عام 2011، وتستعرض قوتها اليوم من خلال التدخلات الاقتصادية والسياسية، حيث صعدت إلى المسرح العالمي كدول مؤثرة في عالم يتجه لتعدد الأقطاب.
ومن منظور ألماني، فإن سياسة دول الخليج ستأخذ تحول برلين الجيوسياسي في الاعتبار من خلال تحديد المصالح الأمنية والسياسية المتبادلة بما يتجاوز الطاقة، على يجب أن يبدأ ذلك بمجالات تعاون أقل إثارة للجدل ويمكن تحقيقها بسهولة أكبر، بحسب "سونز".
توثيق العاون
من هنا يدفع التحول الجيوسياسي النخب السياسية الألمانية نحو استراتيجية شاملة للتعامل مع قادة الممالك الخليجية كشركاء إشكاليين لكن ضروريين لمصالح الأمن والتحول الاقتصادي الإقليمي.
ويمكن أن تصبح مثل هذه الاستراتيجية جزءًا لا يتجزأ من عملية صنع السياسة الخارجية لألمانيا، حيث تقوم وزارة الخارجية حاليًا بصياغة أول استراتيجية للأمن القومي في تاريخ ألمانيا الحديث.
وإلى جانب الطاقة والتجارة، يمكن أن تركز العلاقة الألمانية الخليجية على مجالات سياسية أخرى، مثل المساعدة الإنمائية والدبلوماسية الثقافية.
وفي كلا المجالين، تتمتع ألمانيا بالاحترام الدولي ويمكنها تقديم أدوات فعالة ومهنية لتحقيق التوازن بين صنع السياسة الخارجية الموجه نحو القيم، والبراجماتية القائمة على المصالح.
وباعتبارها ثاني أكبر مزود عالمي للمساعدات الإنمائية الرسمية (ODA) في عام 2020 ، يمكن لألمانيا المشاركة بشكل أكبر مع دول الخليج في هذا المجال على وجه الخصوص من خلال تعزيز التعاون في المساعدة التقنية.
وبرزت كل من السعودية والإمارات وقطر والكويت كدول رائدة في تقديم المساعدات الخارجية في العقود الأخيرة، فبين عامي 1973 و 2008 ، قدمت في المتوسط 1.5 % من الدخل القومي الإجمالي (GNI) كمساعدة إنمائية رسمية، متجاوزة بشكل كبير الهدف المحدد من قبل الأمم المتحدة 0.7% من الدخل القومي الإجمالي.
وفي عام 2020 ، قدمت قطر 591.5 مليون دولار من المساعدات الإنمائية الرسمية، تليها الكويت بمبلغ 388 مليون دولار. في حين أنفقت السعودية 2.1 مليار دولار والإمارات 1.5 مليار دولار على المساعدة الإنمائية الرسمية في عام 2021. وفي السنوات الأخيرة، صُنفت كل من السعودية والإمارات ضمن أكبر مزودي التعاون الإنمائي العالمي.
ورغم ذلك، يرى "سونز" ان إمكانية تعزيز التنسيق الخليجي مع ألمانيا غير مستغلة، موضحا أن برلين كانت مترددة في الانخراط بشكل أكبر مع منظمات التنمية الخليجية بسبب مخاطر السمعة السيئة التي قد تجلبها مثل هذه المبادرة.
فألمانيا تناصر، بشكل عام، قضايا مثل الحكم الرشيد أو الدمقرطة، والتي تتعارض بطبيعتها مع بعض جهود دول الخليج للحفاظ على أنظمتها الاستبدادية أو إظهار القوة على المستوى الإقليمي.
لكن السعودية والإمارات والكويت وقطر أصبحت أعضاء في لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD-DAC)، ما يقدم خيارات للشراكة مع ألمانيا في القطاعات ذات الاهتمام المشترك مثل التعليم، وتمكين المرأة والشباب ودبلوماسية الصحة والعمل المناخي وإدارة الهجرة أو نقل المعرفة.
وينص الإعلان الإماراتي الألماني المشترك، الموقع في يونيو/حزيران 2019، بوضوح على أن المساعدات الإنسانية مجال واعد للعمل الثنائي.
كما وقعت الوكالة الألمانية للتعاون الإنمائي GIZ مذكرة تفاهم مع البنك الإسلامي للتنمية في عام 2017 وهي مهتمة كذلك بتعزيز التعاون الثلاثي مع المنظمات العربية متعددة الأطراف.
من أجل بناء هذا النوع من التعاون، يرى "سونز" أن ألمانيا يمكنها تكثيف دبلوماسيتها الثقافية بمنطقة الخليج من خلال توسيع صيغ التبادل الأكاديمي أو الإعلامي أو الثقافي، فضلاً عن ريادة الأعمال.
وفي إطار منصات تشارك فيها المؤسسات الألمانية والإقليمية، يمكن معالجة موضوعات مثل تمكين الشباب والنساء والتحول الاجتماعي من أجل تبديد الصور النمطية المتبادلة بين ألمانيا ودول الخليج، بحسب "سونز".
ومع اتباع الملكيات الخليجية سياسة خارجية أكثر توازناً واستقلالية، تتمثل في التحوط لوضع نفسها في عالم متعدد الأقطاب، يتعين على ألمانيا إعادة ضبط علاقاتها معها بما يتجاوز الطاقة، لكن رد الفعل داخل ألمانيا، سياسيا وإعلاميا، ضد هذا النوع من التعاون الوثيق يمثل تحديًا كبيرًا.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي قدم تقليديًا إطار عمل لصنع السياسة الخارجية الألمانية، إلا أن تورط البرلمان الأوروبي في فضيحة فساد تتعلق برشوة قطرية مزعومة لمشرعين أوروبيين، يجعل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج على حافة الهاوية.
ولذا يرى "سونز" ضرورة تركيز ألمانيا على الجهود الوطنية لتطوير استراتيجية منفردة أكثر شمولاً تجاه دول الخليج مدفوعة بمجموعة من القيم والمصالح.