آن بنت سعيد الكندية – عمان اليوم-
سؤال المليون كما يقال “كيف نعبر أزمة انخفاض سعر النفط في ظل تحديات غير مسبوقة؟” تقلصٌ في الموارد مقابل إنفاق كبير، وارتفاع سقف التطلعات مدفوعًا بعدد كبير من الباحثين عن عمل ، ووضع القطاع الخاص الذي تحد من انطلاقه بعض التشريعات ، والتي لا توفر بيئة تحفز نموه لذا أحجم عن الاستثمارات غير التقليدية ، واستمراره على الإنفاق الحكومي.المشهد العماني اليوم ينقسم ما بين سيناريو تهويلي للموقف وكأن أموال الدولة ستنضب غدا، و بين سيناريو التهوين الذي يذهب إلى أن الأمور طيبة، وأنها أزمة مؤقتة مع بداية بسيطة لتهيئة الرأي العام نحو إجراءات تقشفية قادمة ، و تلميح واضح برفع الدعم .
كنا قد عبرنا بسلام من أزمات انخفاض سعر النفط في منتصف الثمانيات، ونهاية التسعينات عندما وصل سعر البرميل إلى 10 دولارات غير أن مشهد اليوم يختلف عن الأمس فمن غير الممكن افتراض أن الأمور تسير كما كانت عليه فالأمر يتطلب سياسة غير تقليدية لتحديات غير مسبوقة. أضف إلى ذلك وعي الرأي العام واطلاعه على ما يدور حوله وما يدور في دول الجوار والعالم أجمع. فلا سبيل لزيادة الثقة بين الحكومة والمواطن سوى إشراك الرأي العام في اتخاذ القرار، والمزيد من الشفافية.قد تبدو معادلة صعبة، وللإجابة على سؤال المليون؟، سنبدأ بأخذ العظة من تجارب الدول الأخرى حتى لا نعيد اختراع العجلة، ونكرر أخطاء الآخرين فعلى سبيل المثال تعاني بريطانيا العظمى من عجز مزمن في موازنتها تفاقم خلال الأزمة المالية العالمية 2008، ولحل هذه الأزمة أعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء عن تبني الموازنة الصفرية بحلول 2020 بهدف الوصول إلى فائض.وفي هذا السياق فقد أعلنت الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط خطوة في الاتجاه الصحيح في سبتمبر الماضي عبر تبني الموازنة الصفرية في الخطة القادمة.
غير أن خطوة كهذه لا تأتي مُفردة فالمملكة المتحدة عندما أعلنتها قامت بإعداد خطة تنفيذية لإعادة هيكلة القطاع المدني بالكامل نشرت تفاصيلها بشفافية في عام 2012م. فالموازنة الصفرية لا تعني تقليص عجز الموازنة إلى رقم صفر كما يُفهم من اسمها بل تهدف إلى التخلص من الممارسات غير الكفؤة في المغالاة في تقديرات الإنفاق، والعجز عن تنفيذ الأهداف الموضوعة حسب الإطار الزمني المحدد حيث لا يسمح هذا النوع من الموازنات بترحيل مبالغ كبيرة من عام إلى آخر فيصبح لدينا تراكم في الترحيل و عجز في التنفيذ. الأمر الذي يتطلب رفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة، والتثقيف ورفع الوعي فيما يتعلق بالموازنة الصفرية.
بريطانيا العظمى ذكرت وبكل شفافية في خطتها لإعادة هيكلة القطاع المدني أن موظفي هذا القطاع على الرغم من كفاءتهم العالية إلا أنها تنقصهم مهارات التفاوض، وإدارة العقود لتحقيق الهدف المنشود المتمثل في الموازنة الصفرية، ورفع الإنتاجية. فالهدف من إعادة الهيكلة هو الاستغلال الأمثل للموارد البشرية وليس إهدارها مع العمل على رفع كفاءتها.هنا نقف عند العمق الفكري لهذه الإجراءات التي تُفهم من تصريح رئيس الوزراء البريطاني “علينا أن نستلهم من الشركات الكبرى التي تمردت على الطرق التقليدية في إدارة الأمور”. مما أدى إلى وصف الأسلوب الكميروني بإدارة الدولة وفقًا لمعايير الكفاءة المعمول بها في ادارة المشاريع الخاصة حسب ما جاء في الفايننشال تايمز.ورجوعًا إلى المشهد العماني فإن توصيات صندوق النقد الدولي الواردة في نتائج مناقشات المادة الرابعة الصادرة في مايو الماضي ُتشدد على ضرورة الإسراع بتصحيح أوضاع المالية العامة للدولة حتى لا تتفاقم المشكلة بمرور الوقت، بينما يلفت الانتباه في هذه التوصيات أنها دعت إلى ضرورة توحيد الموازنة العامة للدولة بالتخلص من الازدواجية القائمة ما بين موازنة جارية تُعد في وزارة المالية، وموازنة إنمائية تعدها الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط، وهي منهجية عمل انتُهجت منذ إنشاء مجلس التنمية.
ويستتبع من ذلك تشتت الرؤية الاقتصادية الشاملة والكُلية لإدارة موارد الدولة واستخداماتها.إن هذه النقلة في رسم السياسات العامة وتنفيذها يُكتب لها النجاح بقدر مشاركة الرأي العام فيها، لذا فإن تهيئة الرأي العام في مسألة رفع الدعم مثلاً لا تقتصر على دور إعلامي فقط، وانما فن إدارة لسيكولوجية الرأي العام عبر قراءة معمقة للمشهد واختيار التوقيت الاستراتيجي المناسب، فما يهم اليوم الرأي العام هو القيادة بالقدوة Lead by example. فعند نقاش موضوع رفع الدعم مثلا يذكر الرأي في النقاشات العامة بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي صراحة أن التقشف لا بدأ أن يبدأ من المستويات الإدارية العليا.
إن إجراءات ترشيد الإنفاق مؤلمة فلا بد أن يحس الرأي العام أن الجميع سواء وانه لا امتيازات في زمن ترشيد الإنفاق. إن إجراء كهذا سيسهم إسهامًا كبيرًا في كسب ثقة الرأي العام عبر تبني ممارسة قيادية هامة تتمثل في مطابقة الأقوال بالأفعال Walk the talk وأن إجراءات ترشيد الإنفاق تمس الجميع دون استثناء. كما أنه من الأهمية بمكان الإجابة على تساؤلات تعزز من ثقة الرأي العام بإجراءات التي قد تتخذها الحكومة، منها لماذا رفع الدعم؟ ولماذا الآن مع انخفاض سعر النفط؟ وأي نوع من أنواع الدعم ؟ ولماذا التركيز على نوع واحد من الدعم؟ من هي الفئات المستهدفة؟ والاهم أنه في حالة رفع الدعم لا بد من أن يكون وفقًا لخطة تدريجية حتى لا يُضار المواطن محدود الدخل، أما بالنسبة لبقية المواطنين فلا بد من توضيح ماذا سيستفيد المواطن في مقابل ما سيخسره.وحقيقة الأمر أن صعوبة المعادلة تكمن ما بين الدعوة لترشيد الإنفاق، وزيادة موارد الدولة عبر مصادر معروفة كزيادة بعض الضرائب أو تحسين كفاءة تحصيلها.
وهنا لنا وقفة مع تجربة النمور الآسيوية أبان مرورها في أزمة مالية طاحنة كادت تؤدي إلى انهيار اقتصاداتها خلال 1997-1998، وخرجت منها خلال فترة لا تزيد عن عامين حين وضع مهاتير محمد توصيات صندوق النقد جانبًا مستفيدًا من تجربة الدول الأوروبية والولايات المتحدة في معالجة الكساد الكبير خلال الفترة 1929-1932، فبدلاً من الاعتماد على سياسات تقشفية تحد من نمو الاقتصاد وازنتها بانتهاج سياسات مالية توسعية تستهدف الاستثمار مع إجراءات للإنفاق الذكي و ليس الترشيد فقط.هناك مصادر تمويل للمشاريع غير الاعتماد المباشر على خزينة الدولة، فالدول تقترض بغرض الاستثمار وليس الاستهلاك وشتان بين الأمرين.
فالولايات المتحدة صاحبة اكبر اقتصادات العالم يبلغ حجم الدين العام 100% من إجمالي الإنتاج المحلي وكذلك الحال بالنسبة للسنغافورة، بينما نحن هنا في السلطنة يبلغ حجم الدين أقل من 5% وهي ضمن الأقل في العالم. فما الذي يمنع من تمويل المشاريع بطرق تمويلية مبتكرة بشراكة حقيقية بين القطاع العام والخاص؟ بدلاً من إجراءات تقشفية خجولة نسمع عنها بين الحين والآخر لا تلامس حقيقة جوهر المشكلة.كفاءة الإنفاق تبدأ من المديرية العامة للشؤون الإدارية والمالية في كل وحدة حكومية فهل توقفنا عند أداء هذه المديريات، وقدرتها على إدارة الموارد المالية والبشرية للوحدة ؟، وهل اعطينا هذه المديرية الأهمية التي ينبغي لها ؟ فالتغير في أي وحدة حكومية يبدأ منها.
و كحل سريع لموازنة 2016، أقترح أن تقدم الوحدات الحكومية هذه المرة ميزانيتها جنبًا إلى جنب مع الإجراءات التي ستتخذها لترشيد الإنفاق، وكم يبلغ حجم الترشيد؟ بدلاً من تقديم ميزانية تقليدية عبارة عن قائمة من المطالب دون جهد يذكر لتخفيض الإنفاق سوى ما تقوم به وزارة المالية من إلزام.المقترح الآخر هو ما قامت به بريطانيا، بالاعتراف أولا أن اداء الحكومة في إدارة المشاريع كان سيئا وللتغلب على هذا الوضع أنشئت هيئة لإدارة المشاريع الكبرى Major Projects Authority (MPA) تشبهإلى حد كبير مهام إدارة الاداء وتقييم التنفيذ الماليزية PEMANDU.عُمان بلدُ الأمان، نعمةٌ في ظل سور ملتهب يحيط بنا من أقصى الجنوب وأعلى الشمال، وبشهادة التقرير العالمي للتنافسية الذي تراجعنا فيه 16 درجة ما عدا عوامل الاستقرار الأمني والسياسي. عُمان هي البلد الوحيد المتفرد بعلاقات دبلوماسية مع دول معروفة بتشددها. فإذا ما توافرت هذه المقومات أليس من الخسارة ألا نستطيع أن نكون ضمن أفضل الدول وأحسنها أداءً ؟