فورين أفيرز- ترجمة وتحرير فتحي التريكي - الخليج الجديد-
حملت حادثة انهيار الرافعة في المسجد الحرام في مكة المكرمة في 11 سبتمبر/أيلول الماضي دلالات خطيرة للخبراء في المملكة العربية السعودية. سلط عدد من المراقبين الضوء على صراع مفترض بين كبار الأمراء في العائلة المالكة السعودية، وتوقعوا حدوث اضطرابات سياسية ربما تكون غير مسبوقة. نقاد آخرون، رغم ذلك، قد ركزوا على الانخفاض الحاد في أسعار النفط منذ يونيو/ حزيران 2014 وترتب على ذلك قولهم بأن المملكة العربية السعودية ربما تكون مقبلة على ورطة خطيرة. والواقع أن الانخفاض في أسعار النفط من حوالي 115 دولارا إلى أقل من 45 دولارا اليوم يبدو التحدي الأكثر صعوبة.
بالتأكيد فإن النفط يلعب دورا محوريا في أداء الدولة السعودية. ومع ذلك فإنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها الرياض أزمات النفط. وقد تعلمت المملكة العربية السعودية من دروس التجارب السابقة كيفية تقليص الإنفاق العام والمحافظة على احتياطياتها من العملات الأجنبية عندما تكون في ورطة. وبناء على ذلك فإن المملكة العربية السعودية تعتبر في وضع أفضل، أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة آثار ضعف أسعار النفط. وعلى الرغم من أنها لا تزال تواجه قرارات صعبة في الأشهر المقبلة، فإن هذه التحديات وحدها ليست كافية لتهديد كيان الدولة.
النفط في كل مكان
يشكل النفط 90% من صادرات المملكة العربية السعودية و 40% من ناتجها المحلي الإجمالي. الأهم من ذلك، أنه يشكل نحو 80% من عائدات الحكومة السعودية. ونظرا لأن الجزء الأكبر من عائدات الدولة يأتي من بيع مواردها الطبيعية وليس من الضرائب فقد ظلت مشاركة المواطنين محدودة نسبيا في عملية صنع القرار السياسي.
الاقتصاد السعودي، مثله مثل العديد من الاقتصاديات في منطقة الشرق الأوسط، يجمع بين سياسات السوق الحرة والمصارف وما بين الرعاية الصحية، والصناعة التحويلية، وقطاعات الاتصالات والبناء مع تدخل الدولة في أمور التنظيم والتخطيط والتمويل الإنمائي. لا يزال القطاع العام السعودي يتمتع بحجم هائل. تشير التقارير الأخيرة، بما في ذلك استطلاع للرأي أجراه معهد غالوب، أن الحكومة السعودية توظف ما يصل إلى ثمانية من بين كل عشرة مواطنين. ضخت الحكومة مليارات الدولارات في التعليم والسكن والرعاية الصحية وتأمل في إعداد السكان من الشباب للمنافسة في الاقتصاد العالمي.
يعترف صانعو السياسات في السعودية بحجم التحديات الاقتصادية والديموغرافية الهائلة التي تنتظرهم. وقد تضاعف عدد السكان في البلاد أربعة أضعاف منذ عام 1970، ويقدر أن أكثر من 200 ألف سعودي يدخلون إلى سوق العمل في كل عام. وعلى الرغم من أن القطاع النفطي قد قدم الدعم للاقتصاد السعودي والحكومة السعودية على مدار عقود، فإن القطاع لا يتطلب عمالة كثيفة بما فيه الكفاية لمواكبة الانفجار السكاني في البلاد.
وقد حاول المخططون السعوديون لتوسيع التنمية في البلاد من أجل معالجة مشكلة البطالة التي تلوح في الأفق، ولكن الأمر قد يتطلب ما هو أكثر من عشرات المدن الصناعية والاقتصادية التي تمولها الحكومة بالفعل في جميع أنحاء البلاد. ورغم أن عددا من المدن السعودية، خصوصا العاصمة الرياض، تحفل بمعالم المدنية الحديثة، فإن هناك مناطق أخرى لا تزال متخلفة نسبيا. الفيضانات المتكررة في ميناء جدة، على سبيل المثال، تشير إلى أن البنية التحتية في المملكة لا تزال تحتاج إلى الكثير من العمل.
وبسبب الإنفاق على التنمية المحلية، فقد تضاعف الإنفاق الحكومي في الرياض أربع مرات منذ عام 2003، وهو ما يجادل البعض أنه أكثر من قدرة دخول النفط على تمويله. بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن النقطة تكمن في أن الإنفاق الحالي في حد ذاته قد لا يكون كافيا. في المتوسط، يستهلك السعوديون أكثر من ضعف كمية الحياة مقارنة بنظرائهم في الغرب. استخدام الطاقة المحلية في المملكة العربية السعودية آخذ في الازدياد بمعدل ينذر بالخطر لدرجة أن الحكومة قد أنفقت مليارات الدولارات لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي. كما خصت المملكة العربية السعودية مبلغ 87 مليار دولار لبناء ما يصل إلى 16 مفاعلا نوويا لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وتبريد المباني السكنية وتحلية مياه الشرب. في عام 2012، حذر تقرير صادر عن سيتي جروب، من أن زيادة استهلاك الطاقة يمكن أن يحول المملكة العربية السعودية إلى مستهلك صاف للنفط بحلول عام 2030.
خلال موجات الهبوط الماضية في أسعار النفط، لجأت المملكة العربية السعودية إلى مزيج من إجراءات تخفيض الإنفاق وتعزيز الإيرادات عبر تجميد التوظيف، وتأخير تنفيذ بعض المشاريع الصناعية، ورفع الرسوم المرتبطة بالتراخيص والتصاريح وحتى رفع أسعار البنزين المدعم. بعض هذه التدابير هي قيد النظر الآن. وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن المملكة العربية السعودية قد تحذو حذو دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، في تخفيض دعم الطاقة والذي يستهلك 20% من ميزانية الحكومة على الرغم من أن مسؤولين قالوا أن مثل هذا قد لا يكون ضروريا حتى الآن.
توجهات جديدة
كما واصل المسؤولون السعوديون التأكيد على أن الحكومة تمتلك احتياطيات تقارب 650 بليون دولار. ورغم ذلك، ففي يوليو/ تموز، أصدرت المملكة العربية السعودية سندات عامة للمرة الأولى منذ عام 2007 كما أصدرت دفعة أخرى منها قيمتها 5.3 مليار دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني. من جانبه، حذر صندوق النقد الدولي المملكة العربية السعودية من مواصلة استنزاف احتياطياتها بالوتيرة الحالية لتلبية عجز الموازنة المتوقع أن يصل إلى 130 مليار دولار، وحذر الصندوق من أن السعودية قد تستنفذ أرصدتها المالية في غضون 5 سنوات إذا ظلت الأمور على هذا الوضع.
وبدا أن المملكة العربية السعودية غير مبالية بشكل كبير أمام هذا النقص بالمقارنة بأمور أخرى. ويقول النقاد إن الرياض قد فاقمت عمدا الانخفاض الحالي في أسعار النفط من خلال رفضها لخفض مستويات إنتاج أوبك خلال اجتماع في ديسمبر/كانون الأول الماضي. لفترة طويلة، ظلت السعودية تلعب دور المنتج المرجح/ البديل حيث تقوم بخفض إنتاجها لدعم الأسعار أو زيادة الإنتاج خلال نقص النفط. ولكن في هذه المرة أوضح وزير النفط السعودي «علي النعيمي» أن بلاده ترغب في حماية حصتها في السوق أكثر من رغبتها في لعب دور صمام الأمان لمنظمة أوبك.
ويقول مسؤولون سعوديون أن وفرة النفط العالمية، الناجمة عن زيادة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة وانخفاض الطلب من الأسواق الناشئة مثل الصين، هي السبب في موجة الانخفاض الحالية في الأسعار. ومع ذلك، فإن النقاد يؤكدون أن السعوديين يتعمدون الحفاظ على مستويات أسعار منخفضة من أجل طرد المنتجين من ذوي التكلفة العالية وبخاصة منتجي الصخر الزيتي في الولايات المتحدة من خلال إجبار الأسعار العالمية على الهبوط بسبب فوائض العرض.
وقد صرح الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» نفسه أن السعودية تستخدم النفط كسلاح اقتصادي ضد روسيا وإيران بسبب دعمهما للرئيس السوري «بشار الأسد». وعلى الرغم من أن هناك الكثيرين ممن يصدقون هذه الرواية، إلا أن هناك القليل من الأدلة لدعم هذا الزعم، وأرجع عدد من المحللين الركود الحالي في صناعة الطاقة لأسباب ترجع إلى حركة السوق.
المزيج من اضطرابات إقليمية غير مسبوقة جنبا إلى جنب مع ظهور جيل جديد من القادة السعوديين قد دفع المملكة للتحول عن دبلوماسيتها الهادئة ما وراء الكواليس والدفع نحو سياسة خارجية أكثر حزما. التحديات الاقتصادية الصعبة مع دروس الماضي المؤلمة قد اضطرت أيضا السعوديين لتبني سياسات اقتصادية أقل مخاطرة. كلا التغيرين يبدو أنهما ينبعان من فقدان الثقة في فوائد التعاون الدولي، ومع ذلك فقد أشار المسؤولون السعوديون مؤخرا إلى استعدادهم لنظر في تخفيض الإنتاج طالما أن سائر الدول الأعضاء وغير الأعضاء في أوبك سوف تفعل ذلك أيضا.
وشددت القيادة السعودية الجديدة على أهمية زيادة الكفاءة والشفافية، والمساءلة الحكومية. في واحدة من أولى تحركاته كملك جديد، حل العاهل السعودي الملك «سلمان» 12 مجلسا استشاريا واستبدلها بمجلسين فقط: واحد الإشراف على الأمن القومي، والآخر تم تكليفه بتوجيه التنمية الاقتصادية. انتقل الملك «سلمان» برشاقة لإقالة وزير الإسكان في مارس/أذار بسبب أزمة المساكن كما قام بتعيين بيروقراطي سعودي معروف للتعامل مع أزمة الرعاية الصحية في البلاد. وقد نالت إجراءات الملك ترحيبا واسعا من قبل العديد من السعوديين وأشاروا إلى أن القيادة صارت تدرك أن تحسين أداء الحكومة هو أمر ضروري للتصدي للتحديات الاقتصادية وتحديات الحوكمة في المستقبل.
وأشار تقرير صدر مؤخرا أن الحكومة السعودية على وشك الشروع في إصلاحات رئيسية تشمل تخفيضات كبيرة في الميزانية، ومضاعفة الجهود لتقليل حجم العمالة في القطاع العام، وتعزيز القطاع الخاص في الدولة. ومن غير المعتاد أن يكشف المسؤولون السعوديون عن خطط للإصلاح بمثل هذه الطريقة. ليس هناك شك في أن السعودية تفضل الشروع في إصلاحات تدريجية على شروطها ووفق وتيرتها، إلا أن حالة سوق النفط العالمية تجعل ذلك أمرا صعبا للغاية.
وسوف تواصل الحكومة السعودية جهودها على صعيد تنويع الاقتصاد من أجل الحد من اعتمادها على عائدات النفط، وسوف تواصل توجيه جهودها إلى صياغة اقتصاد قائم على المعرفة عبر الاستثمار في التعليم. من المحتمل أيضا الاستمرار في خصخصة بعض الشركات المملوكة للحكومة، بما في ذلك في قطاعات الاتصالات والرعاية الصحية والتعليم. على نحو مماثل، فإن الجهود المبذولة للحد من عدد غير السعوديين العاملين في القطاع الخاص، المقدر عددهم بنحو 8 ملايين، قد أثمرت بعض المكاسب اتضحت من خلال التطور الملحوظ في عدد النساء السعوديات ضمن القوة العاملة. من أجل الحد من الإنفاق الحكومي، فإن السعوديين اتخذوا تدابير بطيئة نحو فتح أسواق المال في وجه المستثمرين الأجانب. وينظر حتى الآن إلى السياحة كقطاع واعد يحمل إمكانية كبيرة لتوليد فرص العمل. في هذا الاقتصاد النفطي الجديد، فإن السعوديين ينظرون في كل الخيارات المتاحة أمامهم وليس هناك خيار غير مطروح على الطاولة.
وقد أخبر كبار القادة السعوديين مواطنيهم أن طفرة النفط الكبرى التي شهدتها البلاد خلال السبعينيات قد ولت. وقد أثبت السعوديون إلى حد كبير استعدادهم للتأقلم مع الفترات الصعبة. هذا أمر ليس من المرجح أن يتغير خلال الفترة القريبة. في فترة ما، قد يضطر الملك «سلمان» إلى تقمص دور سلفه الملك «عبد الله» ليتحدث بشكل صريح حول التحديات المقبلة وحاجة الدولة إلى تقويم العقد الاجتماعي مع مواطنيها. إذا تم تنفيذ هذه الجهود بنجاح، فسوف تعبر السعودية هذه العاصفة.