في أتون تباطؤ وتيرة التوظيف في القطاعين العام والخاص، تبرز على السطح «بطالة» حملة الشهادات العليا، بعد أن تنامت في الأعوام الأخيرة الماضية.
أزمة «حملة الدكتوراه» تتخطى ظلالها البطالة، لتصل إلى الرضا بالعمل بمؤهلاتهم الثانوية أو الـ«بكالوريوس»، تماشياً مع قاعدة «الاستسلام كل الهزيمة»، فعلى مرتبة متدنية يرضى أحد المعلمين حامل الدكتوراه في أحد التخصصات الإدارية العمل معلماً بعد أن أسعفته شهادة «بكالوريوس» التي كان نالها قبل أكثر من ثمانية أعوام، من شبح البطالة.
فيما يوضح الأمين العام للجنة المؤقتة المكلفة بأعمال مجلس التعليم العالي الدكتور محمد بن عبدالعزيز الصالح لـ«عكاظ» أن نظام الجامعات الجديد لا يزال قيد الدارسة، يستبعد المتحدث باسم جامعة حائل ياسر الكنعان وجود أي رابط حقيقي بين التعاقد مع الأكاديميين وعدم توظيف نظرائهم السعوديين.
ويقول الكنعان لـ«عكاظ» إن توظيف الأكاديميين السعوديين له آلياته المحددة والمعروفة نظاماً، والتعاقد مع الأساتذة الأجانب له آلياته وقواعده التي يحددها الاحتياج المؤقت، مرجعاً عدم قبول الأساتذة السعوديين لأسباب أخرى متعددة «ولكن ليس من بينها بالتأكيد مسألة تفضيل المتعاقد الأجنبي على الأكاديمي السعودية، والخلط قد يعود لعدم الإلمام العام باللوائح المنظمة للعملية».
وفي المقابل، يشدد الدكتور بندر عسيري الذي يدير تجمعاً إلكترونيا يضم أكثر من 150 شخصاً من حملة الدكتوراه -بعضهم عاطلون عن العمل والبعض الآخر على مراتب أقل من مؤهلاتهم- على ضرورة إصلاح سياسة التوظيف في الجامعات الحكومية، التي تشترط مبررات يراها عسيري بـ«التعسفية وتهمش السعوديين».
ويرى عسيري أن شروطا كأن لا يكون المتقدم موظفا، وأن لا يمضي الحصول على الدكتوراه أكثر من خمسة أعوام، تشكل عوائق لا معنى لها أمام الاستفادة من الكفاءات المحلية، متهماً الجامعات بالتلاعب في وظائفها المعلنة (أستاذ، أستاذ مشارك)، «لتجنب توظيف حملة الدكتوراه على وظائف (أستاذ مساعد)، في حين من النادر أن تجد شخصا تتناسب مؤهلاته مع هذه المرتبة عاطل عن العمل».
وتجاوزت معاناة بطالة حملة الشهادات العليا من كونها معضلة خاصة بفئة نخبوية دون غيرها، إلى هم محلي يتداول أخباره الكثيرون، ما دفع إحدى العاطلات إلى إنشاء حساب لعرض معضلة بطالة حاملي الشهادات العليا في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، وحقق الحساب انتشاراً سريعاً، إذ يتابعه أكثر من 12 ألف متابع، وينقل أخبار الوظائف ويوجه نقداً لاذعاً لسياسات التوظيف في الجامعات.
وتقول منشئة الحساب (فضلت عدم ذكر اسمها) لـ«عكاظ» إن الهدف من وراء إنشاء الحساب هو تحسين آلية التوظيف في الجامعات، وتحقيق مبدأ العدالة فيها، مشيرة إلى أن أغلب الإحصاءات الرسمية المعلنة عن أعداد المتعطلين من حملة الدكتوراه لا يمكن الأخذ بها.
وتشير إلى أن غالبية حملة الدكتوراه يقدمون على بوابة جدارة بمؤهل البكالوريوس نظراً لاستحالة توفر وظائف بمؤهلهم العالي من خلال البوابة، «إذ كشف آخر إحصاء رسمي عن 118 عاطلا من الرجال والنساء، رغم اقتناعي التام بأن العدد يتجاوز ذلك بكثير». وتتهم الجامعات السعودية بممارسة تمييز ضد المتقدمين لها، مستشهدة بـ«إلزام المواطن بشروط تعجيزية لدى تقديمه على وظائف أعضاء هيئة التدريس لا يتم تطبيقها على من تتعاقد معهم الجامعات من خارج البلاد»، ما يطرح تساؤلات. وتضيف «بعض الشروط مثل امتداد التخصص في جميع المراحل وشرط العمر، وتفضيل خريجي الابتعاث الخارجي على خريجي الداخل دون أساس موضوعي وتصنيف موحد لقياس كفاءة الشخص، والمراحل المعقدة التي يمر بها السعودي لتوظيفه في الجامعات، لا يتم تطبيقها على الموظف الأجنبي بحجة عمله الموقت الذي يستمر لعدة سنوات في الغالب».
وتؤكد عدم مطالبة العاطلين من حملة الشهادات العليا بسعودة الوظائف الأكاديمية، «بل نطالب الجامعات بتوظيف المؤهلين والكفاءات المميزة، والالتفات للبقية وتوجيههم لوظائف إدارية أو تسهيل عملهم في القطاع الخاص».
وتروي إحدى الحاصلات على درجة الدكتوراه (فضلت عدم ذكر اسمها)، فصول معاناتها الدراسية التي لم تتوج بوظيفة موازية لمؤهلها، قائلة: «منذ حصولي على درجة الدكتوراه في تخصص مناهج ووسائل تعليمية من جامعة أم القرى، عام 1435، وأنا أحاول جاهدة الحصول على وظيفة كعضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات، وتقدمت بعدة معاملات لمدير الجامعة، وأرسلت لعميد كلية التربية ومنه لرئيس قسم المناهج السابق ويتم الرد بعدم وجود وظيفة شاغرة».
وتقول لـ«عكاظ» إنها تقدمت فور الإعلان عن وظيفة أستاذ مساعد في تخصص تكنولوجيا التعليم في قسم التربية الأسرية، وبعد مضي عدة أشهر لم يصلها أي رد، وبادرت بسؤال رئيسة القسم عن الوظيفة المعلنة، التي أجابت بعدم معرفتها بأي معلومة عنها.
وأعلنت الجامعة مرة أخرى عن وظيفة أستاذ مساعد في تخصص تقنيات تعليم في قسم المناهج وطرق التدريس، وتؤكد «اختفاء الوظيفة»، وأنه «لم يتم البت فيها أو تعيين أي عضو عليها، لنفاجأ بعد فترة وجيزة من إعلان الوظيفة، بتعاقد القسم مع أستاذ مساعد غير سعودي ( تحتفظ الصحيفة باسمه)».
وتضيف: «حاولت التقديم في جامعة الملك عبدالعزيز، وتم طلب بعض الأبحاث المنشورة لي، وبالفعل قمت بنشر بعض أبحاثي وزودتهم بإفادات تبين ذلك، وكان رد القسم بأن أتريث حتى يتم الإعلان عن وظيفة والتقديم عليها».
عاطلون بدرجة «دكتوراه»!
تسرد دكتورة (فضلت عدم ذكر اسمها) حاصلة على درجة الدكتوراه في تخصص الإدارة والتخطيط التربوي بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة أم القرى، معاناتها مع البطالة التامة، قائلة «منذ تخرجي عام 2014 وأنا أهيم في ميدان العمل، وأحاول البحث عن وظيفة تناسب مؤهلي العلمي لكن بلا جدوى».وتشير إلى أنه فور تخرجها بادرت بالتقديم لإحدى الجامعات، إلا أن الرد أتاها سريعا بـ«الاكتفاء» نظرا لعملية دمج كلية التربية آنذاك تحت مظلة الجامعة، بيد أن الجامعة عينت أربعا من المحاضرات وأستاذا مساعدا بعد طلبها بفترة وجيزة. وتؤكد تقدمها لجامعة الملك عبدالعزيز وأجريت معها مقابلة شخصية، لتتفاجأ بعد عام كامل طلبت الجامعة منها إجراء مقابلة شخصية أخرى نظرا لعدم وجود عضو هيئة تدريس من القسم الرجالي في المقابلة -على حد قولهم-، «ومنذ ذلك الحين لم أتلق أي رد من الجامعة، وعند سؤالي رئيس القسم يقول إن الأولوية للمبتعثين القادمين من الخارج بالوظائف في الجامعات». وتضيف «قدمت على جامعة الطائف بعد إعلانها عن وظيفة تناسب تخصصي، وعند مراجعتي للجامعة تم إبلاغي بأن طلبي لم يصل للجامعة، رغم توثيقي للمستندات التي تثبت ذلك وعرضتها عليهم، ليطلبوا مني التقديم مرة أخرى ولم يصلني أي رد من طرفهم، ولم أتوان في التقديم لجامعة جدة التي عملت على حفظ الملف دون أي إجراء».وتواجه الدكتورة معضلة أخرى في التوظيف بالقطاع الخاص كون «أن أغلب الشركات الخاصة والبنوك يعتذرون لأن مؤهلي العلمي أعلى من المستوى المطلوب للوظائف المتوافرة لديهم، وأن وزارة الخدمة المدنية نادرا ما تعلن عن وظائف تناسب حملة الدكتوراه»، معتبرة الجامعات الملاذ الوحيد لحملة الدكتوراه.
ولم يكن الدكتور نمر السحيمي الحاصل على درجة الدكتوراه في الدعوة واﻹعلام من جامعة اﻹمام محمد بن سعود اﻹسلامية بتقدير ممتاز، قبل أربعة أعوام، بأفضل حال من زملائه، موضحا أن محاولاته للتعيين في الجامعة بدأت منذ تخرجه بالبكالوريوس وتقديمه لوظيفة «معيد» ورغم تجاوزه لجميع المقابلات والاختبارات آنذاك إلا أن الاعتذار عن قبوله بحجة كونه ليس من خريجي الجامعة التي تقدم لها.ولم يمنعه ذلك من مواصلة دراسة الماجستير بذات التخصص، لينهي دراسته متفوقاً بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بطباعة رسالته، وحاول حينها التقديم على وظيفة «محاضر» في جامعتين، رغم اجتيازه مراحل القبول فيهما ثم ينتهي الطلب بالاعتذار دون أي سبب يذكر.
دكتور بالمرتبة الـ4
في الضفة الأخرى، يقاوم شبان وشابات من حملة الدكتوراه شبح البطالة، ويرضون بنزق يسير من الوظائف حتى لا يكونوا رقماً ضمن أعداد العاطلين في البلاد.
الدكتور محمد حلبي الحاصل على الدكتوراه عام 2015 من جامعة ملايا بماليزيا (تخصص العلوم الطبية الحيوية - الطب الجزئي) يعمل في الحقل التعليمي بالمرتبة الرابعة التي لا تتناسب مع مؤهله العلمي، ويسرد تجربته مع مختلف الجامعات السعودية عند تقديمه للتعيين على وظيفة «أستاذ مساعد».
ويقول حلبي لـ«عكاظ» إنه حاول رفع أوراقه لوزارة التعليم للنظر في الشهادات العليا التي نالها، لترقيته على المرتبة التي تناسبه، إلا أن طلبه رفض بحجة عدم أخذ موافقة من جهة عمله للابتعاث، حيث كان مرافقا لزوجته أثناء دراستها في الخارج، ثم تم إلحاقه بالبعثة التعليمية بعد بدء دراسة الماجستير ثم الدكتوراه.
وحاول التقديم في أكثر من حين للعمل في الجامعات السعودية، لعلها تحتضنه، خصوصا جامعة طيبة التي عمل فيها أستاذا متعاونا لعدة أشهر، وكانت توصيات عميد كلية العلوم بالعلا لمدير الجامعة بتوظيفه لعدة اعتبارات أهمها «خلو القسم من أي أستاذ مساعد سعودي الجنسية وسيكون هو الأول والوحيد إن تم تعيينه وحاجة القسم لأعضاء هيئة تدريس في التخصص المذكور». ويضيف «حلبي» نشرت عدة أوراق علمية في مجلات محكمة عالمياً، وشاركت ضمن فريق الكراسي العلمية بجامعة طيبة في مؤتمر علمي دولي بجامعة كاليفورنيا في عام 2013، وحصلت على ثاني أفضل بحث مقدم في المؤتمر، وفي مؤتمر الطب النبوي الدولي بجدة، حصلنا على الميدالية الذهبية بالأبحاث المقدمة عام 2016. ويصطدم الرفض أمام كل محاولات حلبي بالعمل في الحقل الجامعي، كون تقديره في مرحة البكالوريوس «مقبول».
وتشير الدكتور جيهان، الحاصلة على شهادة الدكتوراه في تخصص تاريخ حديث وحضارة، من جامعة أم القرى، إلى أنها قدمت على وظيفة «أستاذ مساعد» في ذات الجامعة، وبعد شهرين تم إجراء المقابلة الشخصية، وبعد أربعة أشهر تمت الموافقة على ترشحها للوظيفة من إدارة القسم والكلية، لتنقل أوراقها بين المجلس العلمي والكلية أكثر من 33 مرة في ثلاثة أشهر.
وتفاجأت بعد مدة بإسقاط اسمها من قائمة المرشحين للوظيفة، ورفع اسم إحدى زميلاتي، رغم ترشحها لوظيفتين في نفس المحضر، مضيفة «عند مراجعتي للجامعة وسؤالي عن الوظيفة الأخرى، تم اتهامي بعدم احترام الجامعة». وتوضح جهان أنها قدمت على وظيفة «أستاذ مساعد» في جامعة الباحة، قائلة «أجريت المقابلة الشخصية، واجتزتها بنجاح، ورفعت أوراق ترشيحي للوظيفة من القسم والكلية ومدير الجامعة، ثم تم إيقاف معاملتي في المجلس العلمي، بحجة عدم الاحتياج، رغم إعلان الوظيفة بشكل رسمي في موقع الجامعة، ورغم موافقة مدير الجامعة على تعييني، وعند محاولتي السؤال عن معاملتي، أتتني الإجابة بأن الموضوع انتهى وأنه علي الانتظار حتى يتم الإعلان عن وظيفة جديدة».
2.5 % من موظفي الدولة «دكاترة»
كشف إحصاء رسمي صادر عن وزارة الخدمة المدنية للعام المالي الماضي (1436-1437) عمل أكثر من 30 ألف موظف وموظفة من حملة درجة الدكتوراه في الوظائف الحكومية بنسبة لا تتجاوز 2.47 %، من بينهم 4712 دكتورة سعودية، و10175 دكتورا سعوديا.
ويشير الإحصاء (حصلت «عكاظ» على نسخة منه) إلى استحواذ حملة المؤهل الجامعي (بكالوريوس) على نصيب الأسد من الوظائف الحكومية بنسبة تتجاوز 47%، إذ يبلغ عددهم 588145، من بينهم 276194 سعودية، و283636 سعوديا.
ويلي حاملي المؤهل الجامعي في الترتيب من حيث العدد، حاملو المؤهل الثانوي وما دون بواقع 375019، بنسبة 30%، و14% من موظفي الدولة حاملو دبلوم بعد الثانوية، فيما لا يتجاوز نسبة الحاصلين على الماجستير في الوظائف الحكومية 3.18%.
وكالالت-