احتفل عمال العالم بعيدهم "المجيد" الأسبوع الماضي، في ظل أزمة مالية واقتصادية تضرب الكوكب، وتحمل معها رسائل غير سارّة لهذه الطبقة في قاع الهرم، وعلى عاتقها تصنيع السلع والخدمات المُستغلة من الطبقات الاجتماعية الأخرى، من دون أن تتذوقها طبقة العمال، أو تستفيد من عوائد بيعها الاستفادة المأمولة.
في السعودية، يجري نقاش حيويٌّ حول طبيعة السوق السعودي، واعتماده المبالغ فيه على العمالة الأجنبية الرخيصة، بحيث يجد المواطن نفسه محاطاً بجنسياتٍ مختلفة، تقدّم له الخدمات، وتبيعه السلع المصنعة خارجياً، من دون أن يكون له دور، سوى في استهلاكها. وهذا لا يعني بالضرورة عدم وجود مواطنين يعملون في وظائف بسيطة، لكن نسبتهم ضئيلة، مقارنةً بالعمال الأجانب.
فالحكومة توظّف قرابة ثلثي قوى العمل ضمن جهازها البيروقراطي، ما استدعى استنفاراً خاصاً داخل أروقة وزارة العمل والخدمة الاجتماعية، للحد من تفشّي البطالة بين الشباب والشابات، وتحفيز الشركات على توظيف المزيد منهم، تماشياً مع خطط التقشّف، ومساعي الحكومة للتخلص من المصروفات العالية.
لكن السائد اليوم هو سيطرة الأجانب على الغالبية الساحقة من وظائف القطاع الخاص، بما يتيح لنا المجال لطرح أسئلةٍ من جنس: هل المواطن عاجزٌ عن العملِ في الوظائف "الدنيا"، أم أن السوق السعودي لا يدعم توظيف السعوديين، بعد أن أدمن استخدام العمالة الزهيدة، وبنى خططه المالية واستراتيجياته وكفاءته في تقديم الخدمات بناء عليها. وبالتالي، في حال رفع كلفة اليد العاملة أو إحلال المواطنين، فإن شركاتٍ كثيرة سوف تغلق أبوابها.
بالعودة إلى نقطة البداية، أعني قبل المرور بالطفرات النفطية، كان السعودي يعمل سبّاكاً وحداداً وبائعاً للأسماك، والأقمشة والخضار، وغيرها من مهن حرة كثيرة مختلفة.
وقد عمل مع انطلاق شركة أرامكو السعودية عاملا عادياً، لكن خياراً سياسياً اقتضى تهميش هذه الطبقة وتصفيتها، لأسبابٍ كثيرة، منها ما يتعلق بنجاح الأحزاب والحركات اليسارية، في تسييسها، وتحويل مطالبها العمالية البسيطة؛ كتحسين ظروف العمل، ورفع مستوى الأجور، للمطالبة بالإصلاح السياسي عن طريق الإضرابات التي تنفّذها الطبقة العاملة الوطنية، وإصدار المنشورات الحزبية، الساعية إلى تغيير شكل النظام.
فكان أن قامت الحكومة بتفتيت هذه الحركة، عن طريق سياسة الاستقدام من دول شرق آسيا والهند، وتقليل الاعتماد على العمال العرب، لما كان للأخيرين من دور محوري في بثّ ثقافةٍ قوميةٍ ويسارية، بين العمال السعوديين في شركة أرامكو، وفي أوساط الطلاب داخل مدارس المملكة.
إذن، ساهمت عوامل كثيرة في تقليص الطبقة العاملة، حتى لا تكاد تذكر اليوم، أو لا نجد لها أثراً، وإن كانت مرحلة المواجهة مع اليسار قد انتهت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والظروف الاقتصادية والسياسية قد تغيّرت كثيراً في الوطن العربي، وداخل المملكة نفسها، فأصبحت استعادة هذه الطبقة حاجةً حكومية لإيجاد سوق متوازن، من خلال فلسفة التحوّل الاقتصادي الجديدة، الهادفة إلى استنساخ النموذج الليبرالي الحديث الذي يزداد سُمنةً، كلما بقيت الأجور منخفضة، قبل أن يكون مطلباً اقتصادياً واجتماعياً، بسبب شحّ الفرص، وتضاعف عدد المؤهلين للعمل.
أنتج ارتفاع عدد السكان، وتراجع مقدرة الجهاز البيروقراطي على استيعاب أعداد أكبر من الشباب الباحث عن عمل، وانهيار أسعار النفط، وبالتالي وضع مزيدٍ من الضغط على الحكومة من أجل إعادة هيكلة السوق السعودي، انقلابا حقيقيا في المشهد. بحيث باتت الحكومة هي من يبحث عن طبقة عاملةٍ وطنيةٍ، ولو عبر العنصر النسائي.
فهي من يعمل على إقناع المواطنين بالعمل في الوظائف الدنيا الآن، وكذلك الأمر مع القطاع الخاص، وأن تصمم برامج "السعودة"، كي تحفّز المواطن على عدم التفكير في العمل داخل جهاز الدولة، والتوجه إلى القطاع الخاص.
لكن ذلك دونه عقباتٌ كثيرة، منها بذخ الطبقة العليا، بما فيها المسؤولون عن صناعة السياسات التي استفادت من طبيعة النموذج الريْعي، وتباهي الطبقات الأخرى (الوسطى العليا) بالنمط الاستهلاكي الذي تعيشه. فبعض تلك الفئات تعمل في وظائف مريحة داخل الحكومة، وغيرها كثير، من الذين حصلوا على بعض الامتيازات، ليس بعرق الجبين طبعاً، بل عبر العلاقات الزبائنية.
لا يجب أن ننسى أيضاً دور العلاقات العائلية في الوصول إلى المناصب العليا، وحصر إمكانية الترقيات الوظيفية من خلالها، كما هو ملاحظٌ في جامعات المملكة وكلياتها، وبالتالي حكر الترقّي الاجتماعي في علاقات القرابة والنسب. يحثّ كل ما تقدّم، وأكثر، على ضعف الرغبة في الاجتهاد في العمل في مهماتٍ كثيرةٍ موكلة للمواطنين، فللعلاقات قيمة أعلى من الكفاءة، وثمّة أشخاص يحصلون على كل شيء في مقابل طبقاتٍ لا تحصل إلا على الفتات.
الآن، لكي نتجاوز مرحلة البحث عن الوظائف "المريحة"، ونقنع المواطنين بالقبول بالعمل في وظائف "متدنية"، علينا إعادة هندسة المجتمع السعودي، بما فيه من عادات استهلاكية، وأسواق ومؤسسات قانونية، وأكاديمية، يكون فيها للاجتهاد والمؤهلات الفردية مكانة في الترقّي داخل النظام أكبر من العلاقات العائلية.
محمد الصادق- العربي الجديد-